حسين العوداتصفحات سورية

سوريا: الحاضر وإعادة الإعمار/ حسين العودات

 

 

يبدو أن الشعب السوري سيواجه عشر سنوات أخرى من «سنوات الجمر» بعد السنوات الخمس الماضية، التي سال فيها دمه انهاراً، وذاق مرارة الحرب والتدمير والاعتقال والتعذيب والبرد والجوع وفقدان الأمل وانهيار القيم، وحيث تعمقت الفوارق الطائفية والعشائرية والإثنية وغيرها من المرجعيات الثانوية التي تضخمت خلال هذه السنوات الخمس وصارت مراجع رئيسة، وهمّشت مرجعية المواطنة، ولم يعد لهذه أي دور بل صارت «فولكلورية» وشعاراً كاذباً يلجأ إليه الكاذبون والمخادعون الذين يوظفونه لربح أو فائدة. وعلى أي حال، وُضع الشعب السوري في فوهة العاصفة وفي فم غولها الذي لا يشبع، وفقد خلال حلولها في بلاده كل شيء بما في ذلك الحق في الحياة.

في ضوء ذلك، نسي الشعب السوري المطالب التي انتفض لأجلها، وصار يبحث عن جزئيات تشكل عاملاً ثانوياً في مستقبل البلاد، وعن شكليات يحاول أن يعطيها مضموناً ليكون لها معنى، فأصبح وقف إطلاق النار هدفاً «مهماً» وكأنه هدف الخلاص، ولم يعد الشعب السوري يتذكر الحرية والكرامة التي انتفض من اجل استعادتهما، ومحاربة الفساد الذي استشرى ودمر حياته، والدولة الأمنية التي جعلته خائفاً دائماً ومهدداً بعيشه وحريته بل وفي حياته.

ومن طرف آخر، نسيت السلطة أنها تتحمل مسؤوليات جسام، فهي مسؤولة عن حياة شعبها وتأمين مطالبه المعيشية اليومية، وحفظ كرامته وحريته وصحته، وتعليمه وحمايته من العدوان الخارجي، وتحقيق المساواة والمشاركة في البناء والتنمية وقيادة البلاد. وهي بدلاً من ذلك لم تحترم متطلباته المعاشية والتعليمية والصحية والترفيهية، وشاركت الفاسدين والمفسدين ممارساتهم، وتحولت من سلطة مسؤولة عن تأمين حاجات الناس إلى عبء يضاف إلى أعباء الناس، بل اشد هذه الأعباء.

هذا عن الماضي، وماذا عن المستقبل؟

إذا توصلت المفاوضات المزمعة بين السلطة والمعارضة إلى تسوية – وهي في الواقع مفاوضات بين آخرين يتفاوضون سراً وعلانية حول عديد من القضايا بينها المأساة السورية – فإن انتهت «على خير» وقام نظام جديد في سوريا، فسيجد الشعب السوري ونظامه أمامهما كومة من الصعوبات، قد تسحق الشعب بكلكلها. وستجد السلطة الجديدة والنظام السياسي الجديد والشعب السوري، أن سوريا فقدت أكثر من ثلاثمئة ألف شخص، ولديها قرابة المليون معوّق، وسبعة ملايين نازح، وبها أربعة ملايين ونصف المليون مهاجر خارج البلاد، ولديها مليون ونصف المليون مسكن مهدم (جزئياً أو كلياً) واقتصاد مدمر، ودخل قومي «لا يُرى بالعين المجردة»، وكمية من الديون ينوء بحملها أي اقتصاد متطور لدولة صغيرة، وعملة وطنية شبه منهارة، وأسعار فلكية قياساً إلى الدخل. وبالإجمال تحتاج البلاد إلى أكثر من 150 مليار دولار لإعادة الإعمار بحسب أكثر الأرقام تواضعاً، إضافة إلى أنها أفرغت من نخبها العلمية والاقتصادية والثقافية بل والاجتماعية، ويعيش ثلاثة أرباع سكانها تحت خط الفقر، ولم تعد فيها طبقة وسطى يمكنها أن تقود النهضة الاقتصادية، بل أصبحت البلاد نهباً للأغنياء الجدد، أغنياء الفساد والصفقات.

ليس المهم فقط من أين يتدبر الشعب السوري هذه المبالغ الكبيرة لإعادة إعمار بلاده. فمن أين يأتي بالمهنيين والفنيين والعلماء والمهندسين والأطباء وغيرهم ممن تحتاجهم مهمة إعادة الإعمار بعدما هربت هذه النخب إلى خارج البلاد، وغالب الظن أنها لن تعود؟ ولاشك أن تربية وتدريب نخب غيرها يحتاجان لعملية طويلة، وشروط علمية وفنية ومالية يندر توفرها في سوريا بعد هذه الحرب. لكن الأهم من هذا وذاك هو خلو البلاد من تيار سياسي أو نخبة سياسية، يثق بها الناس من جهة، وقادرة على الإحاطة بحاجات البلاد من جهة أخرى، ولها الإدارة والقدرة على قهر هذه الصعوبات وعلى إعادة البناء، وعدم التلوث بشبهة الفساد، واتباع سياسة داخلية وخارجية قادرة على ضبط الإنفاق وإقناع الدول الخارجية بتمويل إعادة الإعمار، على أن تتبين الخطة دائماً الرئيسي من الثانوي، وان تسعى لوضع منظومة قيم وإدخالها في وعي الناس، تتعلق بالمواطنة وفهم الآخر واحترام رأيه.

إذا حصلت التسوية، فإن المهمات اللاحقة لها والمرتبطة بها، هي مهمات ثقيلة على السوريين وعلى غيرهم (من الأشقاء والجيران والأصدقاء) لا تنفع مع حلها «العنتريات» ولا التطرف، ولا الأوهام والأحلام بعيدة المنال حتى لو كانت محقة. فالواقع السوري الحالي والمــــقبل يفرض سياسات جـــــديدة داخلية وخارجية، تحتاج لمواجهة مسؤولة، ويحتاج تحقيقها بنجاح برامج شاملة وجدية، وقيادات من رجال الدولة المتماهين مع مصالح شعبهم.

الخشية أن ينقل السوريون، بعد التسوية، مماحكاتهم واهتماماتهم العابرة والمتسرعة والشخصية، ويتجاهلوا عبء إعادة الإعمار، وأن تصاب السلطة المقبلة بعدوى بعض أمراض السلطة الآفلة، وأن يكون النظام المقبل بدوره هشاً ومصاباً ببعض التشوهات التي سوف تنتج عن تسوية تصالحية لا منهجية ولا جدية ولا شاملة، ويكون السوريون عندها قد وقعوا في فخ الشخصانية والفئوية وما يشبهها، وتبقى بلادهم تئن من أمراضها. عندها فقط يمكن القول إن سوريا لم تعد تحتل أي دور عربي أو إقليمي، وأنها ستكون بلداً فقيراً يتسول على أعتاب الأغنياء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى