صفحات الناس

سوريا: الحرب تطحن المطاحن

سلام السعدي

في العام 2012، استوردت سوريا الطحين لأول مرة في تاريخها. بعد تكدس القمح السوري حبيس المستودعات، وتعذر إيصاله إلى بضع مطاحن لا تزال قيد العمل. فالحرب، طحنت الأخضر واليابس… والمطاحن.

يبدو الأمر مفهوماً، أن تعاني سوريا من انخفاض قدرتها الإنتاجية من الطحين إلى اقل من النصف. مع توقف نحو 30 مطحنة تابعة لـ”الشركة العامة للمطاحن” عن العمل، من أصل 34، كانت تنتج ما يقارب 65 في المئة من الحاجة المحلية للبلاد. فيما تكفلت المطاحن الخاصة بسد الحاجة المتبقية. هكذا، انتهى عصر الاكتفاء الذاتي من مادة الطحين. العصر الذي أنتجت فيه سوريا كل استهلاكها المحلي البالغ نحو 3 مليون طن سنوياً.

الحرب مستمرة وراسخة، هذا ما يعلمه النظام جيداً. لذا، نسي أمر مطاحنه القديمة التي خرجت عن ملكه وسيطرته، وراح يطرق باب الاستيراد أولاً، ومن ثم، العمل على تشييد مطاحن جديدة في مناطق بعيدة عن متناول “العصابات المسلحة”. يساعده في كلتا المهمتين، الأخ الأكبر: إيران.

نهاية الأسبوع الماضي، أنهى وفد إيراني زيارة إلى دمشق. استكمل أثناءها إجراءات التعاقد على تشييد خمس مطاحن جديدة، تتوزع في مناطق يسيطر عليها النظام، عُرف منها السويداء وحمص وازرع(درعا). المطاحن ممولة بنسبة مئة في المئة من الجانب الإيراني، وتبلغ قيمة العقد 62.6 مليون يورو. وفي السياق، يستعد وفد سوري لزيارة روسيا، لتوقيع عقد تجهيز مطحنة “تلكلخ” في ريف حمص.

كما فتحت الحكومة الباب واسعاً أمام الاستيراد. ووقعت بداية العام اتفاقية مقايضة مع إيران. تتضمن توريد 100 ألف طن طحين إيراني مقابل القطن والحمضيات وزيت الزيتون السوري. وصل منها حتى اليوم نحو 45 ألف طن، بمعدل 800 طن يومياً. العقد الكبير الآخر هو مع الحكومة الأوكرانية ممثلة بهيئة الحبوب. ويتضمن توريد 100 ألف طن، وبأسعار “تفضيلية” على ما قال مدير “الشركة العامة للمطاحن” أبو زيد كاتبة. كاتبة علق على العقد بأنه “من أرخص العقود التي حصلنا عليها، وبتكلفة 356 يورو للطن الواحد”. وأخيراً وليس آخراً، يأتي عقد مع شركة “ليسكو” السورية ومقرها لبنان لحوالي 30 ألف طن طحين.

 وتتحايل كل من الدولة، وعدد من الشركات، على العقوبات الاقتصادية، وتورد الطحين من بين مواد أخرى عن طريق شبكة من الوسطاء. وهو ما أكده أحد التجار في دمشق لـ “المدن”، إذ أشار إلى انه و”في ظل العقوبات الاقتصادية، يعتمد التجار السوريون على وسطاء في لبنان. إذ تصل الشحنات إلى لبنان باسم الوسيط، قبل أن تشحن في سفن أخرى إلى ميناء طرطوس، أو بالشاحنات عبر الحدود إلى سورية، وينطبق الأمر على عقود الدولة”.

الأمر لا يقتصر على حلفاء النظام. بل حتى الأوروبيين، لن يفوتوا عقوداً ذات أرباح طائلة. فباستثناء طرفي الصراع، الجميع يكسب في الحروب. في نهاية آذار الماضي، تم تحميل شحنة من القمح الفرنسي حجمها 32 ألف طن من الساحل الغربي، كأول شحنة إلى سورية منذ أيار/مايو 2011. ويكون التجار في مثل هذا النوع من الصفقات، مسؤولين عن المادة لغاية تحميلها في ميناء التصدير، ومن ثم تنتقل المسؤولية للوسيط. وذلك تجنباً للمخاطر الكبيرة التي تنطوي على الإمداد المباشر، إلى بلد ملتهب وخاضع لعقوبات اقتصادية مثل سوريا.

انعكست أزمة نقص الطحين على أسعاره في السوق المحلية، إذ ارتفعت بمعدل 100 في المئة. والاهم تخطيها لما تطلق عليه الدولة “الخط الأحمر” أي رغيف الخبز. إذ تفاقمت الأزمة إلى درجة يصعب معها الحصول على ربطة خبز بسعر نظامي (15 ليرة) من دون الوقوف نحو 4 ساعات في طابور الخبز. ويبقى الأيسر شراؤها من السوق السوداء بسعر يتراوح بين 35- 150 ليرة، يتغير من يوم إلى آخر بحسب حدة الأزمة.

وفيما ترعد الدولة وتزبد، تهديداً لمن يقترب من “الخط الأحمر”، وتعقد الصفقة تلو الأخرى، تستمر عمليات سرقة الطحين المدعوم المخصص للمخابز. إذ يقوم عدد من الأفران وبالتعاون مع جهات في الدولة، باستجرار كميات كبيرة من الطحين بسعر مدعوم، وبيعه للتجار بسعر السوق. هكذا تتوزع جهود الدولة بين حل الأزمة، وتأزيمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى