صفحات سوريةعبدالناصر العايد

سوريا: الديموقراطية بلا بندقية/ عبد الناصر العايد

 

على الساحة السورية اليوم وحولها، ثلاثة مشاريع سياسية اجتماعية، تحاول فرض نفسها كسلطة في البلد؛ مشروع نظام الأسد، ومشروع الإسلام السني المتشدد، والمشروع الوطني الديموقراطي. وفيما يتمتع المشروعان الأول والثاني بفائض من السلاح والمقاتلين، يكاد المشروع الثالث يحتضر، بسبب افتقاره لسند عسكري في الداخل، وتراجع الاهتمام الدولي به. فالقوى المتدخلة في الشأن السوري، لا تقيم اعتباراً لمن لا بندقية له.

يبني نظام الأسد مشروعه على فكرة تحالف الأقليات، والتفافها حول الطائفة العلوية التي تشكل العمود الفقري لقوى النظام العسكرية والأمنية، وتدعمه إيران، التي تعتبره الحلقة الأهم من مشروع هلالها الشيعي المعروف، وتمده بالمال والسلاح والمقاتلين الذين تجمعهم من مختلف مناطق انتشار الشيعة، كما سخرت له الميليشيات التابعة لها مثل حزب الله اللبناني ولواء أبو الفضل العباس العراقي وغيرهما. ويسعى هذا المشروع إلى الإبقاء على الدولة التسلطية التي تقودها نخبة علوية، وتحكم الأغلبية السنية بالقوة. ويمتلك هذا المشروع قوة عسكرية تتألف من ترسانة الجيش السوري التي تمت مراكمتها على مدى نصف قرن، ونحو 100 ألف مقاتل مدرب، مع الميلشيات التي يبلغ عددها نحو خمسين ألف أخرى. ولا يزال لهذا المشروع بنية مؤسساتية، تقدم عوائد اقتصادية وخدمات اجتماعية مقابل الحصول على التمثيل السياسي، هي ذاتها بنية الدولة السورية التي استولى عليها نظام البعث منذ ستينيات القرن المنصرم، وتقف وراء هذا المشروع على الصعيد الدولي روسيا والصين وبعض الدول الدائرة في فلك نفوذهما.

أما مشروع القوى السنية المتطرفة، ومركزه العراق، فهو المناهض ايديولوجياً وسياسياً للمشروع الإيراني الشيعي، وتقف وراءه قطاعات واسعة من السنة السوريين المتضررين من سياسات نظام الأسد التمييزية. هذا بالإضافة إلى التنظيمات الجهادية في العالم التي ترفده بالمقاتلين والأسلحة، وتيار السلفية الدولي وشبكاته التي تقدم الدعم المالي والدعائي، وبعض الأطراف الخفية ذات المصلحة في بقاء هذا المشروع، ويحتمل أن بينها أجهزة استخبارات تستخدم الجهاديين كورقة ضغط سياسي حسب الحاجة. ويسعى أرباب هذا المشروع إلى إقامة دولة دينية سنيَّة، يكون موقع الأقليات الدينية الأخرى فيها ثانوياً. وتمتلك تنظيمات هذا المشروع الميدانية ترسانة عسكرية متوسطة القوة، هي بالعموم مما تم الاستيلاء عليه من الجيشين السوري والعراقي، ومن الأسلحة التي قدمتها الجهات الداعمة لفصائل المعارضة منذ بداية الثورة، إضافة لبعض عمليات التصنيع البدائية، ويخدمه نحو مئة ألف مقاتل معظمهم حسن التدريب والخبرة، موزعين على عدة فصائل، بينهم نسبة معتبرة من الأجانب. وقد نجحت أبرز هذه التنظيمات، وهو تنظيم الدولة الإسلامية في إقامة نواة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، ينسجم مع رؤيتها ومصالحها في المناطق التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا.

أما مشروع الدولة المدنية الديموقراطية، فتقف وراءه قوى وشخصيات ديموقراطية وعلمانية ويسارية، ويؤيده المثقفون والإسلاميون المعتدلون والنشطاء الشباب الذين أفرزتهم الثورة. كما تدعم المشروع فئة موظفي الدولة، وتضم أيضاً معارضي نظام الأسد من الأقليات كافة، إضافة إلى السوريين المغتربين الذين يعيشون خارج البلاد في مجتمعات تتمتع بالديموقراطية، ويريدون لبلادهم أن تنال أنظمة مشابهة، وهم كتلة لا يستهان بها. وتدعم هذا المشروع معظم دول العالم الغربي، إضافة إلى القوى الإقليمية المناوئة لكل من المشروعين الإيراني والجهادي، أو المتضررة منهما.

لمشروع الدولة المدنية قوى عسكرية وازنة، لكنها مشتتة، وغير متناسقة، ولم تحظ بقيادة قوية موحدة. ومع تعاظم التحديات وعمليات التجاذب والاستقطاب بين الداعمين اضمحلت هذه القوى وتفككت، أو تقلص حجمها، أو تم الاستيلاء عليها من طرف القوى الإسلامية. كما ساد الفساد بعض تشكيلاتها ذاتياً بسبب تحولها إلى مشاريع زعامة أو أمراء حرب، وما تبقى منها في شمال سوريا يكابد ليبقى على قيد الحياة لا أكثر. أما في الجنوب فإنها ما تزال متماسكة نسبياً، لأسباب عديدة، لكنها بالعموم تواجه تحدياً جدياً من الإسلاميين. وقد عجزت مؤسسات هذا المشروع السياسية، كالمجلس الوطني والائتلاف والحكومة المؤقتة، عن إقامة أي شكل من أشكال النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي، في مناطق نفوذها السابقة، الأمر الذي سهل اقتلاعها وهزيمتها على يد الإسلاميين، أو قوات النظام.

خيارات التيار الديموقراطي السوري محدودة، فهو إما سينتظر المتحاربين حتى تخور قواهم فيدخل المعترك مدعوماً بقوة خارجية، وهذا الاحتمال عدا أنه لا وطني، فإنه يبقيه هشاً وضعيفاً أمام القوى الأخرى التي سيبقى العنف والقسر أحد أدواتها حتى لو وضعت أسلحتها المادية جانباً. وإما أن يبادر هذا التيار إلى صنع قوته العسكرية الخاصة بدعم ومساعدة حلفائه، والانخراط في العملية العسكرية بقوة وفعالية، وتأسيس نظام اجتماعي يشبهه في بقعة ما من البلاد. أو أن يذوب ويضمحل ليعود كما كان قبيل الثورة السورية، مجموعة من الأفراد الذين يبثون أفكارهم على شكل كتابات ونشاطات استعراضية متقطعة.

نتائج أي تجربة تاريخية، لا يمكن أن تنفصل عن السيرورة التي أنتجتها، والحرب الدائرة في سوريا ستنتج، عندما تتوقف، ثقافة عنف اجتماعي ستدوم طويلاً. وأرباب الحرب الذين أصبح القتل لعبتهم، لن يترددوا في إطلاق النار على أول “ديموقراطي” يظهر على الساحة السياسية، ما لم يكن مخفوراً ببندقية وطنية.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى