صفحات العالم

سوريا: الرفاق حائرون

 


عبدالله بن بجاد العتيبي

في سوريا اليوم احتجاجات ٌبدأت في درعا ثمّ تمددت بسرعة وحماس على امتداد الخريطة السورية فيها صخب وانتشاء وتصميم، وفي سوريا كذلك شيء من نيةٍ لإصلاحات أعلنتها مستشارة الرئيس الغائب حتى كتابة هذه السطور عن مخاطبة شعبه، وهي إصلاحات لم ترض الكثير من السوريين على أية حال، وفيها أيضاً شيء من عنف الدولة تجلّى في عشرات القتلى والجرحى جرّاء إطلاق النار الحي على المواطنين، ومع إطلاق النار تمّ إطلاق يد الأمن بالاعتقالات ما خلّف المزيد من السجناء، وإن كان النظام قد عاد وأعلن عن إطلاق سراح بعضهم.

حين نتحدث عن المشروعية السياسية فمشروعية النظام السوري هي مشروعية عسكرية انقلابية بدأها حزب “البعث” مع صلاح جديد الذي انقلب عليه حافظ الأسد فيما يعرف بالحركة التصحيحية، وهي مشروعية لم يطوّرها الحزب لاحقاً، وهذا الحزب معروف بعنفه المفرط واعتماده القوة العسكرية في مواجهة الشعب وتاريخه في سوريا والعراق جدير بالاستحضار.

إيديولوجيا هذا الحزب عنيفة بالضرورة، وهذا جزء لا يتجزأ من تاريخه من كيماوي صدّام ضدّ الأكراد إلى استخدام الدبّابات لضرب الشعب في سوريا حافظ.

التاريخ والواقع لهما حديث متوافق في التعليق على الحدث السوري، أما التاريخ فيقول إن الحزب قد ماهى بينه وبين الدولة وبالتالي أصبح من ميزات الحياة للفرد السوري عبر سنين طويلة الانتماء لهذا الحزب، والواقع يقول إن كثيراً من أعضاء الحزب الذين التحقوا به لممارسة حياةٍ أفضل سينتقلون منه للشعب في أقرب فرصة تسنح كما يجري اليوم.

سوريا الأسد أحد أعمدة ما كان يعرف بمحور الممانعة في المنطقة وهي الدعامة الأساسية لقوة “حزب الله” في لبنان، وبعض الدول الإقليمية المتحالفة مع سوريا والتي ثبت عجزها في البحرين عجزاً كاملاً وفشلت هناك فشلاً ذريعاً لن تصمت تجاه ما يجري في سوريا، لأن أي خللٍ في النظام السوري يضرّ كثيراً بمصالحها وطموحاتها التوسعية، ويعيد المشهد بالنسبة لها للمربع الأول، ومن هنا فهي سترمي بكل أوراقها دفاعاً عن النظام في سوريا، بما فيها ورقة “حزب الله” المتورّط بكثيرٍ من الأحداث الإرهابية في دول الخليج ومصر، وقد تحدثت المعارضة السورية عن دخول أعدادٍ من كوادر الحزب الإلهي إلى سوريا.

تحتاج بعض الوقائع التي يتم تداولها على نطاقٍ واسعٍ في الإعلام القديم والجديد تجاه ما يحدث في سوريا إلى بعض التحقيق والتدقيق، ولكنّ هذا لا يمنع من رؤية المشهد العام وبعض تجلّياته على الأرض، فقد نقلت بعض الفضائيات من درعا أسلوباً أمنياً اختصت به بعض الدول الإقليمية في مواجهة مظاهراتها واضطراباتها، وهو أسلوب ركوب رجال الأمن للدراجات النارية بشكل ثنائي، قائد الدراجة وخلفه الرامي أو القنّاص.

لدى بعض الدول الإقليمية خبرة كبيرة في صناعة المظاهرات الحاشدة قبل نجاح ثورتها، ولديها خبرة أكبر بعد نجاح الثورة في قمع المظاهرات وتفتيتها والقضاء عليها، وبالتأكيد ستنقل نفس الخبرة بكل ما تستطيع لسوريا أو هكذا ترغب على الأقل، ولكن يغيب عنها أن سوريا لها وضع مختلف، لا التاريخ هو التاريخ ولا الشعب هو الشعب ولا التجربة هي التجربة.

الذاكرة السورية والعربية تحتفظ لسوريا بالكثير من الأحداث والتواريخ المهمة، ففيها دولة الأمويين والأيوبيين والمماليك، وتثلمت سيوف الحملات الصليبية، وكانت طوال تاريخها الإسلامي خزّاناً للسنّة وقائدةً لهم، ومن هنا فإن النظام الذي تسيطر عليه أقلية تنتمي للطائفة العلوية التي تمثل ما يقارب العشرة بالمئة من الشعب يحكم أكثرية سُنيةً تقارب السبعين بالمئة، وهذه معادلة لا تسمح بالاستقرار في بلد يعتبر أوّل بلدٍ جملوكيٍ أي جمهورية ملكية في العالم العربي.

تحظى سوريا بتنوّعٍ مثرٍ في شعبها ففيهم الديانات السماوية الثلاث بكل تفرعاتها، وفيهم العرب والأكراد والأرمن والشركس، وفي العرب قبائل متنوعة، وفي الشعب طبقات من التجّار والمزارعين، والمشكلة لدى النظام “البعثي” في سوريا تكمن في محاولاته الطويلة لطمس هذا التنوّع واعتباره نسياً منسياً، وها هو يطلّ اليوم برأسه ليعبّر عن حقوقه ومطالبه وطموحاته وعلى النظام أن يستعيده لذاكرته وأن يتعامل معه.

تبدو الخيارات أمام الرئيس السوري ضيقة للغاية، فهو قد تأخر كثيراً فيما كان يجدر به أن يفعل من إصلاحات أطلقها على اتساعها أوائل حكمه قبل ما يزيد على العشر سنواتٍ، لأنه على ما يبدو قد رضخ للتيار القديم في النظام، ولم يحالفه الحظّ في اختيار تحالفاته الإقليمية، وراهن على المدى القصير حين كان عليه أن يراهن على المدى الطويل، وها هو النظام يتخبط في وقت لا مجال فيه للتخبط، فهو يطلق إصلاحاتٍ بيدٍ ويضرب الشعب بالسلاح باليد الأخرى، وحين تتناقل وسائل الإعلام القتلى والجرحى يصرّح وزير الإعلام بأن الوضع في سوريا هادئٌ جداً، وتخرج الصحف السورية لتتحدث عن مظاهرات تأييد لإصلاحات الرئيس، وحين تقرّ بثينة شعبان بمطالب مستحقة للشعب تخرج الصحف السورية لتتحدّث عن مؤامرة خارجية ومجموعاتٍ إرهابية.

ما لا يعيه النظام السوري هو أنّ ستار الممانعة الذي كان يختفي خلفه لم يعد مجدياً لستر العيوب والأعطاب الكبرى التي ينضح بها واقعه وتاريخه، وأن التعجيل بالإصلاح هو الضمانة الوحيدة لاستقرار سوريا، وما لا يعيه أيضاً هو أن واقع الشعب في سوريا وشبابها قد تغيّروا كثيراً عما كان يعهده شيوخ نظام “البعث”، أو عوائل الفساد أو أداة القمع العنيفة للنظام. لقد جرت في سواقي الشعب الكثير من المياه، ولئن تعوّد النظام على مواجهة معارضةٍ تقليدية كالإخوان المسلمين أو بعض أنصار رفعت الأسد أو خدّام فإن المعارضة الحالية تمثّل شرائح جديدة من ليبراليين وشيوعيين وعامة الناس الذين تصفهم صحيفة الإندبندنت بالقول إن “الاحتجاجات الحالية تحمل صبغةً علمانية”.

ما تثيره أحداث سوريا الأخيرة هو التساؤل هل تعلم الرئيس شيئاً مما يجري من اضطرابات في المنطقة؟ وهل فهم ما يريده شعبه؟ وهل يعي ما يحدث في المنطقة وصراعاتها اليوم؟ الإجابة تبقى رهناً بقراراته وسياساته في قادم الأيام. ويبقى الأمل للشعب السوري بالحرية والعدالة والاستقرار.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى