سمير العيطةصفحات سورية

سوريا: السياسة أم الانتصار العسكريّ؟

 

سمير العيطة

النداء الذي وجهه الأخضر الإبرهيمي بأنّ أمام سوريا إمّا حلاً سياسياً أو جحيماً يدلّ على شيء من اليأس، ولكن ربّما ليس حيال دوره هو فقط، بل حيال مآلات الأمور في سوريا. هو يريد صدمة في النفوس لدى السوريين كما لدى القوى الفاعلة في الأزمة السوريّة، للتحذير من أنّ الآليّة القائمة لن تحقّق في المحصّلة طموحات الشعب السوري في الحرية والكرامة.

في الحقيقة يعاني كلّ وسيط في أيّة أزمة من مشكلة أساسيّة، تتمثّل في قبول أطراف الأزمة بالتفاوض كمبدأ، وتحديد كلّ طرف منهم لما يريده. ومعضلة المبعوث الأمميّ المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربيّة هي تحديد الأطراف المعنيّة ودفع هذه الأطراف إلى تحديد ما الذي تريده حتّى يكون التفاوض على قاعدةٍ ما.

لجهة الأطراف السوريّة، هناك من جهة النظام القائم، المتمثّل برئيس الدولة والقائد العام للجيش والقوّات المسلّحة. هذا الطرف المتمسّك بشرعيّته كممثّل للدولة السوريّة، وأنّه يقاوم عصابات مسلّحة، من بينها مجموعات متطرّفة أصوليّة، يقرّ في الوقت نفسه أنّه يواجه اليوم صعوبات كبيرة على الأرض، وأنّ شرعيّته قد تضاءلت شعبيّاً ولا يمكن إعادتها إلاّ من خلال انتخابات تنظّمها حكومة وحدة وطنيّة. وبالتالي قبلت السلطة تنظيم هذه الانتخابات، ربّما بما فيها الرئاسيّة سريعاً، أي ما قبل 2014. ويمكن الكثيرين التشكيك في أن يستطيع النظام فرض حلّ سياسيّ يقبل به على ميليشيات الشبيّحة التي أطلقها من عقالها، لكن من الواضح أنّه يحتاج إلى القوّات المسلّحة النظاميّة أو ما تبقّى من تماسكها لهذا الأمر. كما يمكن التشكيك في صدقيّة النظام في تطبيق حلّ سياسيّ، وأنّه كعادته سيراوغ ويتلاعب، إلاّ أنّه من الواضح أيضاً أنّ هناك جزءاً من السكّان ما زالوا يدعمونه، ربّما ليس محبّة به، بل خوفاً من البديل.

على الجهة السوريّة الأخرى، هناك ما تدعوه وسائل الإعلام… “المعارضة”. إنّ توحيد المعارضة السياسيّة الذي تأسّس على وثيقتي العهد الوطنيّ والمرحلة الانتقالية في القاهرة في تموز الماضي قد فشل (أو أُفشِل)، وجاء “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة” الذي تأسّس في تشرين الثاني الماضي كي تعترف به دول من “مجموعة أصدقاء سوريا” كممثّل وحيد للشعب السوري أو لطموحاته. إلاّ أنّ هناك مشاكل كبيرة تعترض هذا الائتلاف كي يكون طرفاً مفاوضاً، بل ممثّلاً للدولة السوريّة. ففي الواقع، هناك جزءٌ من الشخصيّات والكيانات السوريّة التي سُميَت في الائتلاف لا تشارك في نشاطاته، ولا تعترف أصلاً أنّه يمثّلها أو يمثّل الشعب السوريّ (المجلس الوطني الكردي، المنبر الديموقراطي، مكوّنات هيئة التنسيق، إلخ…)؛ هذا عدا بقيّة أطياف الشعب السوريّ التي حيّدت نفسها. كما أنّ هذا الائتلاف لا يبدو ممتلكاً أيّ سلطة على الحراك المسلّح، الذي وإن وضعت له قيادة مشتركة، يبدو أيضاً مشرذماً في كتائب وجبهات ومجالس عسكريّة؛ لا يوّحده اليوم سوى هدف “إسقاط النظام”، ويطرح مشكلة جوهريّة حول مآلات الأمور بعد هذا السقوط إن حصل عسكريّاً: الموقف من المؤسسة العسكريّة القائمة، ومن أجهزة الأمن، ومن أجهزة الدولة المدنيّة، ورغبة بعض أطيافه بالانتقام طائفيّاً أو من الموالاة ومن يمكنه ضبط هذه الرغبة، وحتّى كيف سيتصّرف هذا الحراك العسكريّ تجاه أطراف المعارضة المختلفة، من الائتلاف المذكور حتّى المعارضة التي بقيت ترفض العسكرة وتناهض التدخّلات الخارجيّة.

تتمحور المعضلة التي تواجه مهمّة الإبرهيميّ حول موضوع رئيس: تنحّي بشاّر الأسد عن رئاسة الجمهوريّة. هو يرفض ذلك، ويترك الأمر لانتخابات. أمّا الائتلاف، والمجلس الوطني وراءه، فقد رفض الشروع بأيّ تفاوض قبل تنحّي الرئيس عن منصبه. وفي حين يتمسّك كلا الطرفان بموقفه حول هذا الموضوع الرئيس، يتهرّب كلاهما من أيّ تحديد لما يخصّ المواضيع الأخرى التي لا تقلّ أهميّة.

ففي حين يقبل النظام بحكومة وحدة وطنيّة “كاملة الصلاحية” لإدارة مرحلة انتقاليّة، يغضّ الطرف عن الاعتراف بالوضع القائم في كثيرٍ من المناطق التي أضحت “محرّرة”، وعن أيّة آليّة لتشكيل حكومة كهذه، وعن أيّ آليّة حقيقيّة تُمكِّن من إجراء انتخابات دون هيمنة السلاح هنا وهناك. يرفض الائتلاف من ناحيته تبنّي أيّ وثيقة سياسية توضح أهدافه، سوى ما شمله بيانه التأسيسي من “إسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه” (مع ما يحتويه هذا التعبير من غموض حول إذا كان المقصود هو النظام أم الدولة) “وحلّ الأجهزة الأمنيّة” (في حين تنصّ وثيقة المرحلة الانتقاليّة التي تمّ التوافق عليها في القاهرة على إعادة هيكلتها، لوعي الجميع حينها لتداعيات الحلّ المماثل الذي جرى في العراق). هكذا يأتي التخلّي عن وثائق القاهرة التوافقيّة في محاولة لإرضاء التنظيمات المسلحّة الأشدّ شراسة في مقاومة النظام، إلاّ أنّه يضعه في موقفٍ يشبه موقف النظام، غاضّاً الطرف عمّا سيقوم به ليستلم سلطة الدولة في الداخل، وكيف سيرسي نظاماً حقيقيّاً للانتقال بسوريا إلى الديموقراطيّة. وربّما دلّ موقفه الرافض لأيّ نقاش غير تنحّي الرئيس عن ضعفه ككيان أكثر من قوّته كممثّل مفترض للشعب.

في الحالة القائمة اليوم، يبدو هذان الطرفان السوريّان عاجزين عن الدخول في أيّ حلّ سياسيّ، مهما كان اقتناعهما بإمكان الانتصار على الآخر. كما لا يبدو هناك إمكان حتّى للأطراف السوريّة التي لم تتبنّ خطّ الائتلاف لكسر هذا الانسداد في الأفق في ظلّ تصاعد المعارك ومنطقها الدامي على الأرض. هكذا يمكن الأوضاع أن تستمرّ طويلاً على هذا المنوال، لأنّ الأزمة السوريّة أصبحت باعتراف الأمم المتحدة ذات طابع طائفيّ قويّ، ويمكن حتّى لو سقط النظام غداً ألاّ يكون بديله هو… نظام، بل “صوملة” كما أعلنها الإبرهيميّ، مع عدم استقرار لزمنٍ طويل. إذ بعد أن أصبح جزء كبير من المجتمع السوري مسلّحاً، ما هي الآليّة التي ستنزع السلاح من الأطراف جميعها، حتّى بعد رحيل بشّار الأسد؟

إلاّ أنّ معضلة الإبرهيمي في إيجاد أطراف تتفاوض ليست فقط مع السوريين، بل ربّما هي أصلاً مع الأطراف الخارجيّة التي أصبحت هي اللاعب الحاسم في المعركة والانسداد القائمين.

لناحية السلطة القائمة، هناك ثلاث دول رئيسة لا يمكن إيجاد حلّ دونها: روسيا وإيران والصين. ولطالما ظهر التساؤل عن المصلحة الروسيّة في هذا الموقف المتشنّج من القضيّة السوريّة، الى درجة أنّها لعبت طويلاً ورقة حقّ النقض في مجلس الأمن دون الدخول في مبادرة سياسيّة حقيقيّة، حتّى قبل أن تأخذ الأزمة السورية هذا المنحى العسكريّ. لكنّها ربّما اليوم في وضعٍ مرتاحٍ أكثر من الأمس، إذ يمكنها القول إن حلّت الفوضى أنّها حذّرت من مغبّات ما يحدث، وأنّ القوى الخارجيّة التي دفعت إلى هذه المنحى هي التي أتت بـ”الصوملة”. ممّا يمكن أن يعطي صدقيّة لموقفها، أقلّه على الصعيد العالميّ. أمّا إيران، فهي أصلاً محاصرة بسبب ملفّها النوويّ، وإذا سقط النظام فستخسر الحليف الوحيد الذي ثبت معها منذ ثورتها، بالرغم من ضغوط جميع من تحالف مع صدّام حسين حينها في حربه ضدّها، والتي ذهب فيها أضعاف ضحايا الأزمة السوريّة. هي إذاً لن تجعل لا إسقاط النظام السوري سهلاً، ولا انتصار الدول التي تناهضها آمناً. وأخيراً ستبقى الصين خاسراً أكبر من انعدام الاستقرار في المنطقة، خاصّة أنّها اليوم كما في الغد ستكون مرهونة لنفطها وغازها؛ في حين ليس لها قدرة أكبر لدعم أيّ مسار سياسي دون روسيا.

أمّا لناحية معارضة المجلس الوطني والائتلاف، فهناك ثلاثة لاعبين موازين راهنوا منذ البداية على لعب دور في مستقبل سوريا، ولن يتخلّوا عن هذا الرهان بسهولة. في المرتبة الأولى، هناك قطر التي سنح لها في التجربة الليبيّة أن تلعب دوراً رياديّاً في قلب نظامٍ عربيّ وأن تصبح مع صغرها قوّة إقليميّة. هي التي شكّلت المعارضة على طريقتها في مرحلة المجلس، كما في مرحلة الائتلاف، وكذلك في خلق تجمّعات القيادات المسلّحة على الأرض؛ والتي هيّجت الأمور بفضل قناة “الجزيرة”، أداتها الجيوستراتيجيّة، كي يصبح النزاع في سوريا طائفيّاً وعسكريّاً، كما دفع إليه النظام السوري. وبهذا كسبت ريادة إقليميّة حتّى على منافستها الأكبر العربيّة السعوديّة، المرتبكة بين تعقيدات إدارة حكمها وعدم سيطرتها على الفاعليّات داخلها التي تموّل الإسلام السياسيّ وتدعمه. ولن تتخلّى عن هذه الريادة بسهولة، كما يبيّن ذلك تمسّكها هي بالذات في الإمساك بالملفّ السوريّ في جامعة الدول العربيّة.

اللاعب الثاني هو تركيا، التي اشترطت تكوين المعارضة السوريّة حول الإسلام السياسي، رفيق درب الحزب الحاكم لديها؛ ومنعت طويلاً جهود توحيد المعارضة، بحجّة أنّ هذا الفصيل أو ذاك مناوئ لها؛ وهي أيضاً التي سمحت بشكلٍ رئيس بتدفّق السلاح والمقاتلين الجهاديين إلى سوريا. هذا عدا أنّ مافياتها تستفيد اليوم ليس فقط من تجارة السلاح والتموين الغذائيّ، بل أيضاً من سطو بعض الجهات المسلّحة على موارد في سوريا (نفط، قمح، قطن…). رهان تركيا كبير، وهو يرتبط من ناحية بصعودها كقوّة إقليميّة مهيمنة، وبوضع كردستان العراق تحت حمايتها، وكذلك بحسابات سياسيّة لقادتها هروباً أمام استحقاقات داخليّة.

أخيراً هناك فرنسا التي كانت شاركت قطر في ريادة الملفّ الليبي (لكن دون تركيا في تلك الحالة)، والتي لها طموحات قديمة في المشرق العربيّ، وثأرٌ قديم مع النظام السوريّ، خاصّة في ما يتعلّق بلبنان ومقتل الحريري. كانت هي التي تأتي دوماً لإنقاذ الموقف القطري-التركي عند تعثّره أمام الجهود الدوليّة. وللمناسبة هذه الأطراف الثلاثة كان لها دور كبير في إفشال فكرة المراقبين الدوليين غير المسلّحين، الذين لم يكن مهمّاً أنّ النظام السوري يتلاعب بهم أو تلك الفئات من المعارضة، بل ما كان أساسيّاً هو الإبقاء على تواجدهم للحيلولة دون عسكرة الثورة السوريّة بشكلٍ كامل.

فما سبيل الأخضر الإبرهيمي إلى دفع أطراف هاتين المجموعتين إلى القيام بعمليّة سياسيّة، خاصّة أنّ مجرّد وضع اللاعبين الأساسيين في كلتا المجموعتين على طاولة مفاوضات، يعني اعتراف كلا الطرفين بمصالح الآخر. هكذا لم يكن توافق جنيف الذي كان المبعوث المشترك السابق كوفي انان قد حصل عليه سوى وهم ربما انفضّت عروته بعد ساعات قليلة من توقيعه. وأصلاً لقد جعل غياب بعض الأطراف عن جنيف، وكذلك عدم انخراط فريق ثالث محايد نوعاً ما، كالبرازيل أو جنوب إفريقيا، أيّ توافق صعب التطبيق.

في ظلّ هذه الصعوبة، وربّما الاستحالة في مهمّة الإبرهيميّ، يبرز تساؤل جوهريّ: هل المهمّ هو التفاوض أوّلاً على عناصر الحلّ السياسيّ، أم الأهم بداية هو التفاوض على الشأن العسكريّ، لترسيخ وقفٍ  النار، مع أخذ وضع قوى الجيش النظاميّ والمعارضة المسلّحة العمليّ والتنظيميّ في الاعتبار؟ وهل يمكن الوصول إلى وقف  النار هذا فقط بتفاوضٍ بين قوى سوريّة فقط، أمّ أن ذلك يتطلّب أن يتوافق اللاعبون الإقليميّون والدوليّون بداية على أولويّة التفاوض على الشأن العسكريّ ووقف النار؟ وإن حصل هذا التوافق، هل سيحتاج إلى قوّة حفظ سلام دوليّة من نوعٍ ما؟

لو افترضنا أنّ وقف النار هذا قد أنجز وثبت لبعض الحين. فذلك يعني أنّ الطرفين السوريّين المتصارعين قد أبرزا وجهاً لوجه قيادات فعليّة على الأرض، وأنّ القوى التي تدعم الطرفين قد وضعت أمور هذه القيادات على طاولة المفاوضات. حينها فقط سيعود نوع من الحياة السياسيّة إلى المناطق “المحرّرة”، ونوع آخر في المناطق التي ما زالت خاضعة للسلطة، خاصّة تلك المتخوّفة طائفيّاً من المعارضة. وربّما يجب ترك الحراك السياسيّ لفترة ليتفكّر جميع أطرافه في مآلات الأمور إن ذهبت إلى نهاياتها، قبل الشروع في عمليّة سياسيّة حقيقيّة. وربّما يأتي هذا الحراك السياسي بمتغيّرات لدى كلا الطرفين، تغيّر المعادلة السياسيّة.

قد لا يصمد وقف النار هذا طويلاً، إلاّ أنّه سيمنح السوريين مهلة للتفكير دون مشاهد المعارك والقتل. أولويّة ذلك هي في إمداد المدن والقرى وملايين اللاجئين الداخليين اليوم بالمواد الغذائيّة وبوسائل التدفئة للبقاء أحياء.

عضو المنبر الديموقراطي السوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى