ياسر نديم سعيد

سوريا المسلمة والثورة السورية/ ياسر نديم سعيد

 

 

جاءت الثورة السورية في سياق ثورات عالمية قريبة ومعاصرة حدثت في أوروبا الشرقية ودول الربيع العربي، وكان مجال تلك الثورات الأكبر الساحات العامة في المدن، وكانت أيضاً ثورات سلمية غير مسلحة.

صحيح أن الثورة السورية لم تترك ساحة عامة في المدن بدون محاولة احتلالها، ولكن ذلك لم يكن المظهر الأساسي فيها. وصحيح أن النظام الأسدي قمع بشدة وحال دون وصول المتظاهرين للساحات العامة في المدن، ولكن المتظاهرين كانوا يواصلون خروجهم من المساجد للساحات المحلية في الأحياء العشوائية المهمّشة في أطراف المدن وفي البلدات والقرى. لا شك أن الثورة السورية تأثرت بما جرى قبلها مباشرة في تونس ومصر وليبيا واليمن، فمسلمو سوريا السنّة هم الأقرب شبهاً للشعوب العربية التي ثارت، ولكن الثورة السورية سرعان ما قطعت كل السياقات التي سبقتها والتي رافقتها، لتبدو ثورة مسلمين فقراء مهمّشين بالدرجة الأولى.  جرى التعامل أيضاً مع وجه الثورة المسلح في سوريا بهذه الطريقة: بشكل اعتذاري وتبريري، «النظام الأسدي هو الذي دفع الناس بعنفه للتسلح وأجبرهم على ذلك».

وهناك مديح، مازال يتكرر بشكل ملّح، لسلمية الثورة السورية في بدايتها وكأنه اعتذار وتبرير لعنف الثوار في ما بعد. لماذا نخجل أن نقول ان الثورة السورية هي في جوهرها ثورة عنيفة مسلحة لمسلمين، وما كان لها إلا أن تكون كذلك؟ لماذا ركنّا ومازلنا نركن إلى مقدمات على أنها بديهيات لا تحتاج لتفسير من مثل أن الشعب السوري غير عنيف، وأنه «مدني ديمقراطي» بالطريقة الشائعة المروّج لها بشدة من قبل كثيرين؟ الجواب يكمن عند المعارضين السوريين التقليديين والمثقفين السوريين المكرّسين بغالبيتهم والذين «غزوا» إعلام الثورة السورية وواجهاتها بمفاهيمهم وإشكالياتهم وتاريخهم الخاص، وساهم في ذلك نفاق الإخوان المسلمين و»تقيتهم» السياسية.

اعتقد هؤلاء أن الثورة السورية هي استمرار لسياق نضالاتهم أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي، نضالاتهم السلمية الديمقراطية المدنية الوطنية «الحداثية» كمعارضة لنظام أسدي تريد منه أن يكون «أكثر» عروبة أو «أكثر» إسلامية أو «أكثر» يسارية، وهو النظام الذي صادر المجتمع أصلاً قبل مصادرته للسياسة، ولكن هذا النظام الأسدي الذي ردّ منذ اليوم الأول ويرّد حتى الآن على المتظاهرين بالسلاح والرصاص الحي، وتعامل ويتعامل مع كل ناشطي الثورة الحاملين للسلاح وغير الحاملين له كإرهابيين، ودمّر ويدمّر حواضنهم الشعبية بكل الوسائل، هذا النظام أخرج مفهوم المعارضة نهائياً من أي حساب داخل سوريا أو خارجها.

أسقط «المدنيون الديمقراطيون» تصوراتهم ورغباتهم على واقع الثورة السورية وهم يعيشون خارجها، أو على هامشها أو في متنها لفترات قصيرة بنشاطاتهم «المدنية» المساندة المعروفة من توثيق وإغاثة وإعلام وتظاهر حين تسمح ظروفهم بذلك، وابتعادهم عن حمل السلاح. الخوف من الطائفية مرعب بحد ذاته عند هؤلاء «المدنيين الديمقراطيين»، سواء بعدم قدرتهم على الإعلان عن طائفية النظام الأسدي بوضوح، أو بتجنب ذلك، أو بالهروب من واقع أن المسلمين الثوار هم من السنّة وكأن ذلك عيب أيضاً. الخوف من اجتماع المسلمين الثوار مع السلاح أساسه الخوف التاريخي لدى هؤلاء من الإسلام السياسي بكافة تجلياته، خاصة تجربة الطليعة المقاتلة المسلحة في القرن الماضي بالتباس علاقتها بالإخوان المسلمين. الخوف من سلاح الثورة يستبطن أيضاً الخوف من «الإرهاب» بالمفهوم الذي عمّمه الغرب في العالم كله، في ما يسمى «الحرب على الإرهاب». استسهل هؤلاء الحديث عن «أسلمة» الثورة وعن مؤامرات داخلية وخارجية لأسلمة الثورة وتسليحها، وكأن مسلمي سوريا لا يريدون أنفسهم القتال تحت أي راية تقدم لهم المال والسلاح. كل الثورات العنيفة في التاريخ البشري جرت فيها أعمال شنيعة وجرائم بشعة، ولكن هذه المرة سوف تُنسب في سوريا للإسلام السني جوهرياً وبشكل متسّق مع مفهوم «الإرهاب» المتداول.

مقصلة الثورة الفرنسية الشهيرة جميلة وشاعرية بالنسبة لهم، مقارنة بقاطعي الرؤوس المتطرفين في سوريا. الحرب الأهلية إثر الثورة البولشفية في روسيا والمجاعة والتدخل الخارجي في روسيا الشيوعية أكثر إلهاماً بالنسبة لهم، مقارنة بما حدث ويحدث في سوريا أيضاً. كان النظام الأسدي أكثر وعياً بطبيعة الثورة السورية والثوار السوريين من المعارضة والمثقفين، وردّدت هيئة التنسيق، الأقرب للنظام من كل فصائل المعارضة، مبكراً لاءاتها الثلاث المعروفة (لا للطائفية ولا للسلاح ولا للتدخل الخارجي) فكانت الأكثر تعبيراً بوضوح من سائر تشكيلات المعارضة عن رفضها للثورة السورية بحقيقتها، والأكثر توهماً بمثال متخيّل للثورة السورية بطريقة جعلتها مثاراً للسخرية أكثر من غيرها من فصائل المعارضة.

شاعت بين أنصار هؤلاء وأولئك أقوال ومواقف تعبّر عن هذه المفارقات من مثل: هذه ليست ثورتي، وتلك هي ثورتي، وهذا يمثلني، وذاك لا يمثلني، وأين هي الثورة؟ وضاعت الثورة، وسُرقت الثورة..وكيف ستكون هذه الثورة ثورتك إذا لم تحمل السلاح ولا تحمله الآن ولن تحمله في المستقبل والدار دار حرب لا تبقي ولا تذر؟ تعرّف السوريون لأول مرة بشكل واضح ومباشر على كافة تيارات الإسلام السياسي، بعد أن كان النظام الأسدي يختزلها كلها بعنوان رئيسي وحيد هو (الإخوان المسلمون). وارتبطت تلك التيارات بمثيلاتها في الدول العربية والإسلامية المؤثرة بشكل تلقائي، مثلما حدث ويحدث في البلدان الأخرى.

هل تنظيمات « القاعدة» جزء من الثورة السورية؟ نعم هي جزء من الثورة السورية مثلها مثل كل التنظيمات الإسلامية الأخرى، أحببنا ذلك أم لم نحبه، طالما أن مسلمي سوريا منضوون فيها بدوافعهم الخاصة التي لم تجد طريقاً آخر لها. الوجه المسلم للثورة السورية هو وجه أصيل وقد يكون الوجه الأبرز فيها، إلى جانب وجهها الطبقي الذي لا يخفى على أحد. المسلمون في سوريا أو وجه سوريا المسلم أكثر ما ظُلم في تاريخ سوريا الحديث القصير نسبياً، فقد غطّت عليه دائماً الليبرالية ثم «قلب العروبة النابض» ثم النزوع اليساري الملحد أو العلماني الأقلوي. لم يتح لهذا الوجه إظهار قسماته إلا بشروط قاسية وبحدود تنظيمات سياسية ضعيفة ومحاصرة دائماً، وكثيراً ما اختصر هذا الوجه بعبارات مثل، الإسلام الشعبي التقليدي وإسلام البزنس والإسلام الصوفي الخ. يصعب تحديد وقت معيّن لحدوث الافتراق بين الإسلاميين والعلمانيين في الثورة السورية، ولكن حادثة اختطاف رزان زيتونة ورفاقها وغموض مصيرهم أصبحت معلماً بارزاً لذلك الافتراق.

أظهرت هذه الحادثة، وهي تمثّل حوادث متكررة دائماً في أكثر من مكان وزمان قبلها وبعدها، انعدام ثقة عميق وتوجساً شديداً بين الطرفين، وعدم وجود تفاهمات على طبيعة عمل الطرفين وظروف هذا العمل وسياقه ومآلاته.  ومع حدوث الهجرات الضخمة غير المسبوقة للسكان داخل وخارج سوريا، ومع هروب معظم الناشطين «المدنيين الديمقراطيين» داخل وخارج سوريا، وتموضع المعارضة بكافة تشكيلاتها تقريباً خارج سوريا أيضاً، أصبحت هذه القوى المدنية الديمقراطية بمعظمها عملياً خارج مناطق الثورة أو خارج سوريا كلها. ومثّلت العلاقة داخل المعارضة السورية بين الإسلاميين والعلمانيين نفاقاً متبادلاً أكثر منه تفاهمات صادقة حقيقية. ولم يستطع العلمانيون التفكير والعمل بشكل إسلامي في الثورة السورية، كما لم يستطع الإسلاميون التفكير والعمل بشكل علماني في الثورة السورية. هذا كله أحدث افتراقاً لا يبدو له مخرج حتى الآن بين الثورة والمعارضة وبين السلميين والمسلحين وبين العلمانيين والإسلاميين.  دخلنا جميعاً زمن الثورة السورية بأفكار جاهزة ونمطية وتصورات مسبقة، وكنا نعرّف كل الثورات التي قرأنا عنها بنتائجها وليس بتاريخها الحقيقي وصيرورتها. الثورات الكبرى في كل التاريخ البشري هي ثورات عنيفة بشعة مجرمة، ولكنها لا تخلو بالطبع من أعمال نبيلة ونبلاء، وهي كظاهرة اجتماعية تشبه الظواهر الطبيعية، كالبراكين والزلازل، فلا أحد يرغب بها ولا أحد يعرف متى تبدأ ومتى تنتهي. يتغنّى المؤرخون بالثورات بسبب ما تلاها بعد زمن طويل من تغيرات عميقة غيّرت مجتمعات بكاملها، ولكنهم يختلفون كثيراً في تقييم وقائعها اليومية وحوادثها المتناقضة الغريبة، ولا شك أن كل من عاش يوميات الثورات في التاريخ البشري لعن الثورة ولعن زمانها لما شاهده من ويلات. الثائر هو مجرم بالتعريف الشرعي للإسلام وبالتعريف القانوني لأي نظام وضعي، لأنه يحمل السلاح ويقطع الطريق ويقتل ويسرق ويخرج عن الحاكم والنظام العام. كل الدول الغربية وغيرها من الدول تعمل المستحيل حتى لا تصل شعوبها إلى هذه المرحلة التي ما إن تبدأ حتى لا يستطيع أحد وقفها. الثورات في نهايتها فقط «يسرقها» طرف من الأطراف ليحكم باسمها طويلاً ويكتب تاريخها كما يشاء ويصنع مستقبلها كما يرى. الثورة السورية هي كل ما نشاهده أمامنا، نحن المراقبين، وهي كتاب مفتوح كي نتعلم منه، لا كي نكتب فيه دروسنا للثورة، أما من يشارك في الثورة من قلبها العنيف المسلح فله أن يتكلم كما يريد وكما يرى، وعلينا أن ننصت له جيداً وأن نحاول أن نفهم ماذا يفعل وماذا يقول وماذا يريد وإلى أين هو ذاهب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى