صفحات سوريةغازي دحمان

سوريا الموازية/ غازي دحمان()

تتجه مؤشرات الأزمة السورية بأغلبها صوب خيار التقسيم، ولا يعدو كل ما يجري في الحقل السياسي والميدان العسكري سوى اشتغال على إنضاج الظروف الموضوعية لإجازة هذا الخيار وتبريره، والمتتبع لسياق إستراتيجية بشار الأسد لهذا الخيار سيلحظ حكماً التكتيكات المتبعة لتحريك الظرف الموضوعي.

سوريا الشرقية، ليس المقصود تعيناً جغرافياً بالمعنى الحرفي، رغم انطباق المصطلح على واقع تضاريسي جيولوجي يترامى على مساحة تمتد شرق الأتوستراد الدولي من حدود الأردن جنوباً إلى حدود تركيا شمالاً.

شرق سوريا، بالمعنى الطبيعي، منطقة توازي غرب سوريا، ولكن بتوسعة فرضتها أهداف سياسية ووقائع ديموغرافية، تطلّب معها انضواء بعض الجنوب وبعض الشمال، كجناحين جغرافيين يحميان الجسد السوري الجديد الذي يتموضع على مساحة تمتد من دمشق إلى اللاذقية، لكنه أيضاً يؤمن للقلب نقاط تماس، وتشابك، مع الحدود الدولية لإسرائيل والأردن والعراق وتركيا، فضلاً عن لبنان.

المقصود هنا، تسليط الضوء على واقع يرتسم في الفضاء السوري، وتجري عمليات هندسته وترتيبه بعناية فائقة، وعبر مخطط جهنمي، ففي حين تتحدث السيناريوات الكلاسيكية عن ملامح تشكل ثلاثة كيانات سورية: كردية وعلوية وسنية، يسعى النظام إلى عكس هذه المعادلة عبر صياغة جديدة للجغرافية السورية، تنسف إمكانية إقرار هذه الكيانات، لكنها في نفس الوقت تمنحه إعادة تموضعه كجهة حاكمة ومسيطرة على الحيز السوري، جغرافياً وديموغرافياً.

في سبيل تحقيق هذه الرؤية، أجرى النظام سلسلة من الإجراءات المساعدة، بدءاً من تعريض المناطق التي تقع في الإطار الجغرافي للشرق السوري، حسب خط الفصل المعمول به، الأوتوستراد الدولي، إلى ضغط عسكري مكثف كان من نتيجته تدمير البنى التحتية وكل ممكنات العيش والحياة الآدمية، نتج عنه حصول سيولة جغرافية بين تلك المناطق والحدود الدولية المتاخمة لها وبالاتجاهين، وهو الأمر الذي نتج عنه فوضى شاملة على كل الصعد وحوّل تلك المناطق إلى بيئة جاذبة للأعمال الخارجة عن القانون.

إضافة لذلك، تعمد النظام تدمير الهياكل الإدارية في هذه المناطق وبكافة مستوياتها الإدارية والخدمية، من خلال قطع صلات تلك الهياكل مع المراكز وتوقيف التمويل اللازم لتشغيلها واستدامتها، وهو ما نتج عنه انعدام أي إدارة مدنية لتلك المناطق، ورفع منسوب إشكاليتها تالياً عبر إضافة إشكالية فقدان التعليم والصحة والكهرباء والماء.

ولعل الأخطر من كل ذلك، أن النظام سعى إلى تدمير إمكانية نشوء بديل سياسي له في تلك المناطق، قد يشكل رافعة اجتماعية للنهوض بالواقع المتردي وتحسين شروطه وإمكانية ضبط وإدارة الصراعات الناشبة، وذلك من خلال تصفية واعتقال وتهجير أغلب الكوادر المدنية المتعلمة والمنفتحة.

لكن ترسيمة سوريا الشرقية، يلزمها إكتمال تشكل نظيرتها الغربية، وما يعوق هذا التشكل حتى اللحظة، من الناحية الجغرافية، وجود مقاومة للنظام في منطقة القلمون والغوطتين المحيطتين بدمشق، ولذا تتركز جهود النظام، وحليفه حزب الله، على تكثيف الجهود العسكرية في هذه المناطق ليصار بعدها إلى تسوير” تسييج ” سوريا الغربية وتقديمها للعالم بإطار جديد وشرعية ينتظر الحصول عليها بحكم الأمر الواقع.

ما يتبقى من سوريا، هو شرقها، لكن الإشكالية في هذه المنطقة أنها ستكون طاردة لإمكانية نشوء كيان سياسي قابل للحياة، فعدا كونها تفتقد التواصل الأرضي، لانعدام طرق المواصلات فيها، ولاختراقها من قبل النظام في ريف حمص الشرقي، فهي تنطوي على مكونات اجتماعية ذات طبيعة بدوية أو زراعية، أو على الأقل في الغالبية الديموغرافية المشكلة لها، كما انها تنطوي على مكونات سياسية من طبيعة متنافرة تشكل المكونات الدينية المتطرفة فيها الغالبية العظمى.

مقابل ذلك، ثمة سوريا غربية، تتوافر على نظام سياسي، وتتشكل من أغلب المكونات السورية، وتلتزم بالمعاهدات والمواثيق، اما شرعيتها فتلك ستؤمنها وظائفها تجاه الحد الشرقي، وعلى الضفة الأخرى سيكون هناك شتات وفوضى وضياع، لن يكون بمقدور الفرات إرواء ظمأه ولا يستطيع الرميلان تأمين الدفء له. سوريا الشرقية خراب جغرافي وظيفته شرعنة وجود سوريا الغربية.

المرحلة الثانية من هذا المخطط هي مرحلة الإدارة الخارجية لبعض الأقاليم السورية، وهي مرحلة يجري التمهيد لها من خلال تعريض هذا الإقليم إلى نوع من التخريب الواسع ينطوي على حالة من الانفلات الجغرافي بحيث يتحول هذا الإقليم إلى مصدر خطر وفوضى بالنسبة للجوار الإقليمي. مرحلة الإدارة ليست غريبة على المنطقة وقد أعقبت النكبة الفلسطينية حيث اضطر الأردن لإدارة الضفة الغربية، وقد يضطر لإدارة المنطقة الجنوبية من سوريا، في حين تمهد روسيا لإدارة مناطق التواجد المسيحي بعد أن نصبت نفسها حامية لوجودهم، وبعد أن تقدم خمسون ألف سوري مسيحي لطلب الجنسية الروسية. كما قد تضطر تركيا لإدارة مناطق حلب للدفاع عن حدودها بعد انتشار القوى المتطرفة فيها.

الغريب أن أغلب التقديرات والتصورات الإستراتيجية عن مآلات الأزمة السورية تلحظ إمكانية حصول التقسيم في سوريا كواحدة من أبرز السيناريوات القادمة، غير أن أغلب تلك التقديرات تذهب إلى تصور بات يمكن وصفه بالكلاسيكي لكثرة شيوعه والذي يقوم على تقسيم سوريا إلى ثلاثة أقاليم أو دول: دولة علوية- دولة كردية- دولة سنية. المشكلة في هذا التقسيم الذي قد يكون مطابقاً للأكراد والعلويين أنه لا يصلح في الحالة السنية ذلك أن إستراتيجية نظام الأسد المدعومة روسياً وإيرانياً تعمل على تمزيق البقعة الجغرافية السنية وقطع طرق التواصل فيما بينها، بمعنى تحويلها إلى معازل منفصلة مشتتة في شمال وجنوب وشرق سوريا، وهذه الخريطة تفرضها مرتسمات حدود دولة النظام التي تمتد من ريف القنيطرة في الجنوب مروراً بدمشق وريفها وصعوداً باتجاه القلمون الغربي المحاذي للبنان توسطاً بحمص وريفها الغربي وصولاً إلى طرطوس واللاذقية، مع إبقاء أرياف إدلب وحماه، خارج حوض العاصي، مناطق حيوية بحدود متحركة وهي مناطق جرى إفراغ ديمغرافيتها فيما يبدو أنه تجهيز لهذه المرحلة.

للأسف هذا المخطط يأتي بناؤه في ظل انهيار النظام الإقليمي العربي وانهيار احتمالات قيام شرق أوسط بهوية إسلامية متفاوتة، ورغم الجهود الفردية المتناثرة التي تبذلها بعض الأطراف العربية إلا أنها لا تشكل شبكة حماية كافية لسوريا من المخططات السود التي تحاك لها.

أما على الصعيد الدولي، وبعيداً عن تفنيد مواقف أطرافه، إلا أن الواضح بأن الإرادة الدولية، بالعموم، وحسب التفسير الخاص لكل طرف، تبحث عن حل سياسي ينهي الصراع ويعيد الهدوء إلى سوريا. لكن الإشكالية أن مفهوم الحل السياسي لدى هذه الإدارة فضفاض ومرن، بمعنى أنه مستعد للقبول بما تفرزه المعطيات وتكرسه الوقائع. وهنا مكمن المخاطر التي يستشعرها السوريون.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى