صفحات العالم

سوريا بخير: النظام أكثر ارتياحاً والمعارضة تستعدّ للمستقبل


النظام السوري بخير، وكذلك المحتجون والتنسيقيات والمعارضة التقليدية. ثمة فائض من القوة والثقة بالنفس لدى مختلف الأطراف. الأمر الذي يحول دون أن يتمكن أحد هؤلاء من إغماض عينيه أو تذوق طعم الهناء. اما الرهان فيبقى على اكتشاف الجميع أن الحوار الجديّ هو الحل

غسان سعود

دمشق | «سورية بخير»، تردد لوحات السلطة الإعلانية. خلف الإعلان الجديد، إعلان آخر لمنتوج غذائي يقول: «أغمض عينيك وتذوق طعم الهنا». «سورية بخير»؟ ربما. الأكيد أن نظامها يشتهي أن يشرب ذلك المنتوج السحريّ الذي يتيح له أن يغمض عينيه ويتذوق طعم الهنا.

فمن أين يهنأ وقد قارب عدد التظاهرات التي تخرج كل يوم جمعة المئتين (بعضها يتألف من عشرة أشخاص وبعضها من مئة ألف)، وكيف يغمض عينيه هو المدرك أن عدد المتظاهرين إذا فعل ذلك، سيقفز خلال دقائق من عشرة أشخاص إلى مئة ألف. اسألوا حماه.

في سوريا تراجع الحديث أخيراً عن المندسّين والعصابات المسلّحة والسلفيين، والنظام الذي فوجئ بـ«الثورة» تنطلق من أحد معاقله الأساسية (درعا ثم اللاذقية) يرى نفسه اليوم أكثر ارتياحاً مما كان عليه في مستهل تلك الأسابيع. فهو تأكد من تماسكه على مختلف المستويات، فلم يخرج صوت جديّ واحد من النظام، سواء في أجهزة الاستخبارات أو الجيش أو الاقتصاد أو الإعلام أو الجهاز الدبلوماسي أو المؤسسات الدينية والقضائية وغيرها، يطعن بالنظام سعياً منه إلى الحفاظ على كرسيه إذا نجحت «الثورة». كذلك اطمأن إلى صلابة علاقاته في الداخل والخارج، وتأكد أن روسيا والصين لا تتخليان عن أصدقائهما في اللحظات الحرجة كما تفعل الولايات المتحدة. والأهم، اكتشاف النظام هوية الذين يتحركون ضده في كل مدينة وحي، فلم تعد المواجهة مع أشباح كما خيّل إليه في البداية. من هنا يمكن أن يكون الإعلان: «النظام بخير».

يمكن النظام أن يقول ذلك بثقة بعد تراجع الضغط الدولي، وانفضاح التضخيم الإعلامي، وسيطرة الجيش على المدن الحدودية، والتزام مدينتي دمشق وحلب حيث يقيم أكثر من نصف السوريين بتأييدهما للنظام. ما يحصل اليوم مسيطر عليه، يقول النظام ويشير إلى أن كرة النار التي كان يفترض أن تحرقه تنقلت دون فاعلية جدية من المدن الحدودية إلى الجيش فالعزف على الوتر الإنساني بموازاة ترهيب النافذين في النظام عبر إشهار سيف العقوبات الدولية لترغيبهم بالثورة.

النظام بخير إذاً، ماذا عن المعارضة؟ تتألف هذه من ثلاثة مكونات أساسية: أولها المحتجون الذين يشاركون في التظاهرة الاحتجاجية حين تنطلق لأسباب متنوعة، فيها الخاص وفيها العام. وهؤلاء غير المنظمين، العفويون بغالبيتهم، يريدون واقعاً حياتياً جديداً لا توفره المؤتمرات ولا الإصلاحات الصغيرة هنا وهناك.

ثانيها التنسيقيات التي تتأسس في المناطق لتنظيم المتظاهرين وتسليط الضوء إعلامياً على تحركاتهم. وتتألف هذه التنسيقيات كما يظهر ذلك بوضوح في صفحاتها على الفايسبوك من إسلاميين مطعمين ببعض الشيوعيين السابقين. وغالباً ما يكون شبان التنسيقيات هم المبادرون إلى الانطلاق بالتظاهرة واستقطاب المكون الأول. وثالثها الأحزاب والشخصيات المعارضة المسيسون والذين يحاولون انتزاع صفة الناطقين باسم الحراك الشعبي من المكونين الأول والثاني ومن النظام أيضاً.

لكن ماذا عن أوضاع هذه المكونات؟ المكون الأول لا يريد التعبير عن نفسه إعلامياً ولا سياسياً. والمعلومات الوحيدة بشأنه مستقاة من مصادر متنوعة تجمع على أنه بخير وأن العنف لم ينفع مع المحتجين وهم ليسوا في وارد العودة إلى منازلهم، أقله قبل اقتناعهم بأن تغييراً جدياً سيطرأ على حياتهم. اما النظام فمقتنع بأن حل المشكلة مع المكونين الآخرين سواء بالعنف أو الحوار سيحد كثيراً من فاعلية هؤلاء الذين ينضمون إلى التظاهرة لكنهم ليسوا من يطلقها.

أما المكون الثاني، التنسيقيات، فحددوا مساء الإثنين الماضي موعداً للقاء «الأخبار» في اليوم التالي عند العاشرة صباحاً. وفي الوقت المحدد عاودوا الاتصال ليقولوا إن الموعد عند الثانية عشرة ظهراً. وصلنا إلى المكان المحدد ولم يصلوا. اتصلوا ثانية، طالبين الانتقال إلى مقهى «هافانا» الدمشقي. ثم كرروا الاتصال، طالبين التوجه إلى مقهى آخر خلف «هافانا». وهناك كان رجل أربعيني ينتظر على الباب، طالباً مرافقته سيراً. سأل عن الأسئلة وعمّا نريد معرفته تحديداً، متمنياً بعد بضع خطوات أن يصار إلى مراسلة المجموعة إلكترونياً، متعهداً بالإجابة على الأسئلة، قبل أن يختفي في الازدحام. أما إلكترونياً فتذهب الأسئلة وتعود من دون أجوبة.

وبحسب الرسام السوري يوسف عبدلكي، تقف هذه التنسيقيات بين المكونين الأول والثالث، وهي تتأسس بمبادرات «بعضها شخصيّ»، علماً أن «آليات عملها وفكرها السياسي لم يتبلورا بعد». مع تشديد عبدلكي على محاولة الناشطين في هذه التنسيقيات الاتصال بالأحزاب السياسية والمعارضين التاريخيين للنظام، علماً أن مغادرة محترف عبدلكي بعد نصف ساعة على دخوله، كما يطلب عبر ملاحظة كتبها على جرس منزله، باتجاه محترفات يساريين آخرين تؤكد وجود اتصال مباشر بين معظم هؤلاء وشباب التنسيقيات الذين يحاولون تلوين تنسيقياتهم ـــــ السوداء في غالبيتها ـــــ بالألوان اليسارية المفرفحة.

أما المكون الثالث فالوصول إليه سهل وليس هناك أفصح منه في التعبير عن أفكاره، مع العلم أن حفاظ النظام على تماسكه من جهة وحفاظ مكونَي المعارضة الأول والثاني على تماسكهما أيضاً من جهة أخرى، يضاعف جداً أهمية هذا المكون الباحث عن حل يحترم وبعقلانية استثنائية توازن الرعب القائم.

في دمشق، خلف نصب يوسف العظمة، تقود حجارة الشارع الزائر إلى منطقة الصالحية وتحديداً حي الشهداء. يحجز لؤي حسين أحد الداعين الأساسيين إلى لقاء «سميراميس» مكاناً لدار النشر التي يملكها وسط بضعة محال للمفروشات. يكاد يكون هذا الرجل ـــــ المتهم من بعض النظام بالتعاون مع الأميركيين ومن بعض خصوم النظام بالتعاون مع النظام ـــــ أكثر من يحاول التواصل مع المحتجين أولاً ولا سيما «تنسيقيات الثورة» ومع القوى والشخصيات المعارضة ثانياً ومع السلطة ثالثاً. وسيتسنى للجالس في مكتبه التعرف إلى ممثلين للأفرقاء الثلاثة، من دون أن يكتشف هوياتهم الحقيقية.

من مكتب لؤي عرّاب «سميراميس» إلى مكتب حسن عبد العظيم عرّاب «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا» التي تضم الغالبية العظمى من القوى والشخصيات المعارضة في سوريا، يمكن الاستنتاج أن المعارضة التقليدية، والنظام والمحتجين والتنسيقيات وربما أكثر، بخير أيضاً.

قبل أربعة أشهر كانت تحلم هذه المعارضة بالاجتماع في قبو أو مع ضابط أمن صغير، وها هي اليوم تتكبر على دعوة إلى الجلوس مع نائب الرئيس السوري في أحد أكبر الفنادق السورية.

أهم ما قدمه «سميراميس» بحسب حسين كان إخراجه العمل السياسي من السر، ليصبح كالعمل الأمني، إلى العلن حيث يصبح مادة نقاش شعبي. وبحسب حسين فإن «الشرعية السياسية تستمد من اقتناع المواطنين بالأفكار لا من التضامن مع المضطهد أو مع صاحب السلطة».

ويؤكد حسين أن «سميراميس» أحد مكونات الاحتجاج الشعبي، منتقداً محاولة عزل كل محتج «يعرف أن يقول كلمتين» وكأن هناك من لا يريد للشارع أن يعبّر عن نفسه أو أن يقول إن لا علاقة للشارع بالكلام السياسي. وبرأي حسين فإن المعارضة حين تعبّر عن نفسها عبر لقاءات كهذه، تتقدم إلى الأمام. صحيح أن السلطة استغلّت «سميراميس» لتحسين صورتها في الخارج، وصحيح أن انتقاد بعض المعارضين للقاء ضعضع آراء الشارع السوري، إلّا أن اللقاء أكد، وفقاً لحسين، وجود واقع جديد يسمح للعشرات بأن يقولوا ما يودون قوله. ونتيجة لـ«سميراميس» يتابع حسين، بات الإعلام الرسمي والمجتمع السوري يتداولان مفردات كانت محرمة سابقاً. والأهم بالنسبة إلى شاهد عيان الجزيرة والعربية والبي بي سي العربية في بداية الأحداث، هو خروج صوت معارض يبحث عن جواب للغالبية السورية التي تسأل عن «بعد بكرا». فإذا كان اليوم للتظاهر وغداً لإسقاط النظام أو إزالته فماذا عن بعده؟ هذا ما يشغل الغالبية السورية التي أظهرت عقلانيتها وواقعيتها واتعاظها من التجارب العربية الحديثة الأخرى.

وعلى هذا الصعيد، المعارضة السورية عموماً بمختلف مكوناتها ليست بخير. فعلى المستوى الإقليمي لا شيء واضحاً عند هذه المعارضة التي يحاول بعضها المزايدة على النظام بالمواقف العدائية لإسرائيل لكنها تتفرج ـــــ بمختلف مكوناتها ـــــ على محتجين يحرقون أعلام حزب الله، فيما بعضها الآخر يصرح بأن ما يعنيه من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي هو تحرير الجولان (مع كلام جارح جداً عن الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية). ما هو بديل هذا النظام الذي يطلب الماركسي والإسلامي والناصري والاشتراكي والقومي وغيرهم سقوطه اليوم؟ يسأل مواطنون سوريّون كثر يعيشون في ضائقة اقتصادية واجتماعية يعتقدون أنها ستخنقهم قبل أن يتوصل هؤلاء إلى اتفاق على النظام البديل. حسن عبد العظيم يفاجأ بالسؤال عن موقف الأحزاب من القاعدة العسكرية الروسية المنوي إنشاؤها في طرطوس أو من الملف النووي الإيراني، ويستغرب السؤال عن موعد آخر لقاء جمعه بالسفير الروسي أو الصيني لطمأنتهما إلى استمرار العلاقات القائمة بين بلديهما وسوريا في حال تغير النظام. إذاً، دولياً لا تعليق للمعارضة الآن. إقليمياً لا كلام الآن. ومحلياً هناك نظام يعد المسودات لـ«إصلاح» قوانين الإعلام والانتخابات والأحزاب وتعديل الدستور مقابل معارضة لم تعد شيئاًَ من هذه الملفات ولا تكاد تملك إلا مسودة واحدة لـ«الإصلاح» على مستوى السلطة لا مؤسستها، عنوانه: «إشراكنا». يستحضر هذا كله نكتة يتداولها بعض الصحافيين السوريين في مقهى الروضة الدمشقي تقول إن مسؤولاً كبيراً التقى بثائر فتعهد له أن يحاسب الفاسدين ويحرر الإعلام وينشط الأحزاب ويقفل المراكز الأمنية ويعدل الدستور ليمنع الرئيس من التجديد وتجرى انتخابات ديموقراطية، فأجابه الثائر: «لا لا، لا أريد شيء من هذا كله، أريد أن يسقط النظام».

في النتيجة، قد يكون الإعلان الجديد محقاً: «سورية بخير».

يزداد طرفا النزاع اقتناعاً أن لا أحد منهما قادر على إطاحة الآخر، ورهان «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا» كبير على اكتشاف الطرفين آجلاً أو عاجلاً أن الحوار الجديّ هو الحل.

—-جنرالات الطوائف

أمير الحلبي في الخدمة. تنطلق السيارة. أصل الحلبي أو أبو العبد كما يُلقب نفسه، من بيروت وتحديداً من رأس بيروت، نزح والده إلى دمشق التي ولد ودرس وتزوج فيها، لكن التعقيدات الإدارية حالت دون حصوله وإخوته على الجنسية السورية: «نحن سوريون بالواجبات، لبنانيون بالحقوق». من شارع الحمرا البيروتيّ حتى الحمرا الدمشقيّ، يروي أبو العبد عن المرسوم الذي ينتظر توقيع الحكومة السورية عليه منذ 3 عقود، عن الأموال التي دفعها هنا وهناك وعن حقه المستباح. يقارن بين الفساد في لبنان والفساد في سوريا ليستخلص أننا شعب واحد في دولة واحدة. يتابع الحلبي الكلام، نشبه بعضنا: «ما عليك إلا استبدال زعماء الطوائف بجنرالات الأمن وستكون الصورة هي نفسها في المؤسسات التي ينخرها الفساد، في تحويل العام إلى خاص، في السلبطة الإعلامية، وفي الحيتان التي لا تشبع». وتزداد الحسرة: «أنا أعرف لبنان جيداً وسوريا، تكاد تكون استحالة التحرر من جنرالات الأمن هنا موازية لاستحالة التحرر من جنرالات الطوائف هناك»، منتهياً إلى القول إنه ينوي تنظيم اعتصام قبالة وزارة العدل «هكذا يضطر المعنيون الخائفون من الثورات إلى استرضائنا وإعطائنا الهوية وكل ما نريده كما حصل مع غيرنا».

قذافيّ في كفرسوسة

لو صدف أن قفز بعض المحتجين أمام أبو كمال في منطقة كفرسوسة لما كان قد تردد أبداً بدهسهم. بلغ توتره الذروة: «لم تعد الحياة تطاق، طرد ابني من العمل بعدما شارفت المؤسسة حيث كان يعمل على الإفلاس، أما ابنتي فاضطررت إلى منعها من العمل نتيجة الأوضاع الأمنية غير المستقرة وأنا لا أسترزق، الله وكيلك، براكب أجنبيّ واحد يرينا العملة الخضراء». يشتري خبزاً: «تخيل أن الدولة تشتري كيلو القمح بثلاثين ليرة وتبيع المواطن كيلو الخبز بتسع ليرات». يمطر المحتجين بالشتائم، غير مصدق كيف يمكن هؤلاء أن يثوروا على دولة توفر لهم مجاناً تقريباً الأكل والشرب والطبابة والتعليم والمياه

والكهرباء.

وأبو كمال شديد التأثر بالعقيد معمر القذافي، معجب بتعابيره ولا سيما وصفه المطالبين بالتغيير بالجرذان. والدليل على «جرذانيتهم»، خروجهم في الليل، يقول أبو كمال. لكن، يتابع، أنتم الإعلام لا تريدون سماع إلا ما يعجبكم، أنتم تقولون بألف طريقة يومياً، أني وغالبية الشعب السوريّ جرذان، ثم تفتحون أعينكم مدهوشين وتكتبون باهتمام حين أقول أمامكم إن أولئك الذين يناشدون الدول العظمى أن تنصرهم على شعبهم، جرذان.

ركبي في حماه

حولت رولى ركبي دمشق إلى محطة، ترتاح فيها بين مدينة وأخرى في مطاردتها الاحتجاجات. أعادت اكتشاف مدينتها حماه الأسبوع الماضي. سحرتها حماه. لا تريد رولى لتلك اللحظات التي أمضتها بين الأمواج الشعبية في ساحة العاصي أن تنتهي: «كانت ثورة بكل معاني الكلمة». تريد لمن حولها أن يصدق أن الساحة والطرق المتفرعة منها احتضنت خمسمئة ألف مواطن، تريدهم أن يصدقوا أن الشيوعي كان هناك والإسلامي والقومي وكل الآخرين، وأن يشعروا معها بقطرات الماء الذي رش من شرفات المنازل على المتظاهرين للتخفيف من حدّة الحر. تروي أن مجموعة من الشباب طوقوها وصديقاتها لإيصالهن إلى حيث النساء يحتشدن: «هذا تقليد حموي». هناك، تقول رولى، وجدن محتجات من الطوائف المسيحية «اضطررن إلى التحجب للتخفي خشية معاقبتهن لاحقاً». حماه تخرج يومياً، التظاهر بعد صلاة العشاء أجمل بنظر رولى من التظاهر بعد صلاة الظهر. في عينيها فرح، شغف، حماسة، تحدّ ورغبة بمزيد من هذا كله. تقنع علمانيتها بأن الشارع في سوريا إسلامي لكنه ليس إسلامياً سياسياً. الفرق؟ هو يتعاطف مثلاً مع الإخوان المسلمين لكنه ليس من الإخوان.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى