صفحات سورية

سوريا بين “الحل الأمني” و”الحل السياسي”


علا شيب الدين ()

قبل أشهر قليلة من اعتقال وتعذيب رجال الأمن لمجموعة من الأطفال في درعا، كانت وزارة التربية قد حدّثت المناهج الدراسية، وجنّدت كوادر تقوم بتدريب وتأهيل المدرِّسين الموغلين في مناهج رثّة أكل الدهر عليها وشرب، متوعّدة بمعاقبة كل من تسوِّل له نفسه ألا يكون حداثوياً بعد اليوم. والمطّلع على المناهج المحدّثة يشعر وكأنه بات يحيا في مدينة فاضلة، ديمقراطية، تحترم الإنسان وتحرِّض العقل على الإبداع والتفكّر والتأمّل؛ غير أن الواقع والوقائع التي يلفّها البعث وقد استحال منذ زمن بعيد إلى مخابرات تفصفص كل شادرة وكل واردة في كل زاوية من زوايا الوطن؛ تدفع بالمطّلع إيّاه على عدم أخذ أي تحديث على محمل الجد. سيما وأن مدير المدرسة الذي كان قد تلقى تدريباً على الحداثة إياها عمد إلى الوشاية بتلامذته الذين خطّوا على جدران المدرسة عبارات تحمل معاني التحرر من نظام مستبد، ثم سلّمهم إلى فرع الأمن السياسي كون هؤلاء الأطفال “يهدّدون أمن الدولة واستقرارها، ويهزّون هيبتها، ويعملون على إضعاف الشعور القومي، ويساهمون في وهن الأمة..!”.

تأتي هذه المقدمة كأنموذج ساطع على تطرّفيْن تبرع فيهما السلطة في سوريا، واحد في النَّظر وآخر في العمل. إنهما الخطّان المتوازيان اللذان طالما تأسّست بهما معاً واستمرّت عبرهما معاً. والغريب العجيب أنهما متوازيان يلتقيان.. يلتقيان عند سلطة متطرّفة، فالمحلل لـ”شخصية” السلطة السورية يستنتج عبر تجربة أكثر من أربعين عاماً أنها سلطة تجيد النّظر في حدِّه الأقصى بالتوازي مع العمل في حدِّه الأقصى أيضاً. يتشكّل النَّظر من كل ما تقدر المخيِّلة على التقاطه من قيم وطنية وأخلاقية، ومفاهيم ديمقراطية وحداثوية وعَلمانية، وشعارات عروبية وحدوية واشتراكية، وأفكار حول الصمود والتصدي، والممانعة والمقاومة، كل ذلك وأكثر أجادته السلطة وبتطرّف شديد على المستوى النّظري المحض. يوازي هذا المستوى مستوى آخر عملي محض.. نقيض محض، يوازيه لكنه يلتقي معه عند سلطة تعمل على هذا وذاك بنفس الآلية ونفس الدرجة، وبهذه الآليّة استمرّت في الحكم لعقود طويلة. وسنرى كيف أنها عبر نفس هذين الخطّين المتوازيين تعاطت مع رياح التغيير حين هبّت على العالم العربي مع بداية العام الجاري ووصلت إلى سوريا.

ولئن كانت “شخصية” السلطة في سوريا ممعنة في التطرّف كما أشرنا، قرّرت ما يلي: بما أنه من غير المسموح، ومن المعيب أخلاقياً، وإنسانياً، ووجدانياً، ومحلياً، وإقليمياً، ودولياً، وقانونياً، وتاريخياً، وعُرفياً و..و أن يُرفع السلاح بوجه الأعزل المطالِب بمطالب مشروعة ومحقَّة؛ لا بد من اختلاق “جماعة دينية متطرّفة تكفيريّة” تنزع إلى إقامة إمارات سلفيّة في دولة “عَلمانيّة”. ولمّا كانت السلطة المتخبِّطة في كيفية التعامل مع احتجاجات شعبية سلميّة قد شعرت أن رواية واحدة لتشويه الاحتجاجات لا تكفي ولا تقنع؛ قرّرت أن تختلق “عصابة مسلّحة إرهابيّة” تروِّع المواطنين الآمنين وتتنقل بين منطقة وأخرى، فيستغيث الأهالي طالبين استعانة الجيش، فيدخل الجيش “الوطني” المدن السورية المختلفة ليخلّص الأهالي من بطش تلك العصابات، أما الرواية القديمة الحديثة فهي تلك التي تتحدّث عن سوريا المُستهدَفة، والتي تُحاكُ ضدها مؤامرات خارجية قاصية ودانية تريد النّيل من موقفها “الممانِع، المقاوِم”، وراحت تسهب في الحديث عن شتّى المؤامرات، فتارة هي حريريّة وتارة بَندريّة وأخرى موساديّة و.. و.. و.. ينبغي العلم هنا أن السلطة السورية قررت التعاطي مع هذه “المؤامرة” وبالتحديد مع “العصابات المسلّحة” من خلال “حلّ أمني”، وهو الحلّ الأمثل لتأديب سوريين صاروا بين ليلة وضحاها “عصابات مسلّحة” و”مندسِّين” و”مخرِّبين” و”متآمرين” على الوطن وأمنه واستقراره، هكذا اقتُحمَت المدن السوريّة بالدبابات والمدرَّعات والمجنزرات، أي زُجّ بالجيش العربي السوري “حماة الديار” في معركة ضد أبناء جلدته بعد ثنيه لعقود عن القيام بمهمته الأساسية على الحدود؛ فأصبح العدو هو السوري المدني الأعزل (ابن الوطن)، وقد أُرفِقَ قمع الجيش بقمع أجهزة الأمن وميليشيات حكوميّة (شبيحة). جنَّدت السلطة فرق موت متعدّدة تتقن القتل والاعتقال والاغتصاب والتجويع والترويع والتهجير والتشريد والتمثيل بالجثث… يأتي “الحل الأمني” هذا في سياق المستوى العملي المحض الذي وكما أشرنا تجيده السلطة بتطرّف شديد.

أما المستوى الآخر لقمع الاحتجاجات السلميّة، وهو مستوى نظري محض، فهو “الحل السياسي”، يشتمل هذا الحل على حوار وطني لحل “الأزمة”. مُنحت قيادة هذا الحوار لمن يأخذ الدور السياسي في نفس السلطة، فقد وزِّعت الأدوار بخبث ومكر شديدين بين من يتولى قيادة الحلول الأمنية العسكرية القمعيّة، ومن يتولى قيادة الحلول السياسية الحواريّة الإصلاحيّة، وبذلك تكون الحرب على ثورة الحرية والكرامة حرباً على كافة الجبهات. يتضمن الحل السياسي “إصلاحات” اقتصادية وسياسية عبر إصدار قوانين ومراسيم تبيّن للرأي العام، و- لكبريات الدول خصوصاً- أن السلطة في سوريا “جادّة” في الإصلاح وماضية في التغيير نحو الديمقراطية، وأنها دولة تحترم الإنسان وحقوقه و(إن حصل بعض الأخطاء على الأرض فهي أخطاء بسيطة من بعض رجال الأمن والشرطة “غير المؤهلين للتعاطي مع التظاهرات”)، وأنها مع الحداثة والإصلاح والمعاصَرة وأنها وأنها.. كل ذلك يسنده إعلام يسهب في التضليل والتعمية ولا يتوانى عن تخوين كل من يخرج على “سنّة” البعث المتعارَف عليها منذ أكثر من نصف قرن، فهو الإعلام الذي صُمِّم كي يكون معبّراً عن السلطة، موالياً لها جملة وتفصيلاً.

وهكذا، بين الحل الأمني والحل السياسي قُسِّم السوريون المحتجّون بين “عصابة مسلّحة” ينبغي التعاطي معها عبر العسكر والأمن و”الشبيحة”، وأخرى – إن تم الاعتراف بها أصلاً- هي صاحبة مطالب مُحِقّة وهي من تسير الإصلاحات “الحقيقية” مواكبة لمطالبها.

وبالعودة إلى الخطّين المتوازيين المذكورين آنفاً، نعتقد أنه ينبغي التأنّي عند الحكم على السلطة السوريّة بأنها كاذبة بالمطلق وأن كل ما تتفوّه به صوريّ وشكلانيّ لا يُطبّق على الأرض؛ فإن كان “الحلّ السياسي” إيّاه كاذباً بلا أدنى شك بشأن الإصلاح والتغيير، فإن “الحلّ الأمني” إياه صادق بلا أدنى شك في قمعه لمتظاهرين سلميين. وإن كانت السلطة لا تقرن القول بالفعل بشأن الإصلاح الذي يؤدي إلى التغيير الديمقراطي، فهي تقرن قولها بفعلها وبأمانة تامة فيما يخص الحلّ الأمني؛ ذلك أن “جيشها” ودباباته، ورجال أمنها و”شبيحتها” برشّاشاتهم وسواطيرهم يطبّقون على الأرض كل قول وبأدق التفاصيل، فأين الصوريّة أو التنظير ها هنا؟!

()كاتبة من سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى