صفحات العالم

سوريا تدخل مرحلة “ما بعد تعثّر إستراتيجية التخويف”

 


سعد محيو

هل خسر النظام السوري رِهانه على عامِليْ الخوف والزمن؟ سنأتي إلى عامل الخوف، الذي كان أحد الركائز الرئيسية للنظام الذي نسَج خيوطه الرئيس حافظ الأسد قبل أربعة عقود، بكثير من الدِّراية والدقّة، بعد قليل.

أما بالنسبة إلى عامل الزّمن، فالخسارة لهذا النظام تبْدو مؤكّدة وعلى المستوييْن معاً: الداخلي والخارجي. ففي الداخل، بات عامِل الزمن يعمَل لغيْر صالح النظام، حيث كل يوم يمُر، يحمِل معه مخاطِر جمّة جديدة، خاصة بعد أن اختار الرئيس بشار الأسد أسوأ “الكوكتيلات”: تبنّي فكرة الإصلاح، ثم قمع وقتل واعتقال كلّ من يُطالِب به، وإلغاء حالة الطوارئ ثم تطبيق إجراءات أسوأ منها بكثير.

وعلاوة على كل ذلك، عدم التَّأقلم مع الوقائع التي تُشير إلى أن النظام “لم يعُد مرتبطاً بشكل وثيق بمعتقدات الشعب السوري”، كما أبلغ الأسد “وول ستريت جورنال” قبل أيام من اندلاع الانتفاضة الشعبية في 15 مارس الماضي.

استمرار الانتفاضة وانتشارها

المستقبل الآن بات وراء الحُكم السوري، إلى درجة بات الحديث فيها عن “مسألة فقدان السيطرة” شِبه يومي، حتى لو بدا أن دَرْعا وبقية غالبية المُدن والدساكر السورية، أصبحت أشبه بكانتونات أمنية وعسكرية. فهذا التطوّر الأخير، دلالة ضُعف لا قوّة، وهو يكشف بشطحة قلم، أن ما كان جائزاً وممكناً في عام 1982، لم يعُد جائزاً ومُمكناً الآن.

في عام 1982، حين وقعت كارثة حَماة، التي قُتل فُيها ما يتراوح بين 20 إلى 30 ألف شخص وسُوّيت خلالها هذه المدينة بالأرض، كانت خطوط المعركة واضحة: نظام شِبه عِلماني خارج لتَوّه من معارك مواجهة مع إسرائيل عامي 1973 و1982، يخوض صِدامات مع منظمة أصولية متطرِّفة، هي جماعة الإخوان المسلمين، التي تريد فرْض صيغة مُغالية ومرفوضة من الإسلام، على كلٍ من الأقليات المسيحية والعَلَوية والدُّرزية والإسماعيلية، وعلى الغالبية السنُية في آن، وهذا ما لمّ شمْل الجميع آنذاك في صفّ النظام، على رغم إبداء التقزّز والاشمِئزاز من مستوى العُنف والقمع والعقاب الجماعي، الذي مورس ضدّ المدينة.

هذا كان في عام 1982، أما في عام 2011، فالمجابهة هي بيْن نظام بات أكثر طائفية وأقلّ عِلمانية، وبين معارضة شعبية لا رأس لها، حريصة كل الحِرص على رفْع الشعارات الوطنية، لا الدِّينية (من قبيل “لا سُنّية ولا عَلوية: وِحْدة وطنية” و”الشعب السوري، شعب واحد” و”الله، سوريا، الحرية”)، وتتحرك وِفق قانون البالُون المُمتلِئ بالماء: كلّما دُسْت عليه أكثر، كلَّما انتشر فيه الماء أكثر. وفي الحالة السورية، ترجم هذا نفسه طيلة الشهريْن الماضيين كالتالي: كلّما ازاد قمْع النظام، كلما انتشرت الإنتفاضة إلى أماكن أخرى.

الزمن لم يعُد يلعَب لمصلحة النظام من زاوية أخرى أيضا: التراجع التّدريجي لتماسُك مؤسسة الجيش، ما عدا الفِرقة الرابعة والحرس الجمهوري، اللذين يقودهما ماهر، شقيق الرئيس الأسد وآصف صِهره. حتى الآن، لا تزال الإنشقاقات في الجيش محدودة، حيث تحدّثت الأنباء عن إعدام بضعة ضبّاط برتبة لواء وعقيد وعشرات الجنود، لرفضهم تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين.

لكن استمرار الإنتفاضة الشعبية وانتشارها، سيضعان الجيش كمؤسّسة، عاجلاً أم آجلاً، أمام خيار من إثنين: إما انقلاب عسكري يقوده ضباط عَلويّون كِبار (على نمَط العقيد غازي كنعان)، لإنقاذ النظام من داخله والإشراف على مرحلة انتقالية إلى ديمقراطية موجّهة، كما الأمر الآن في مصر وكما كان قبلها في تجارِب تركيا وإندونيسيا والبرتغال وتشيلي، أو تفكّك الجيش على أسُس طائفية واندِفاع البلاد إلى حَمأة حرب أهلية، على النَّمط الليبي.

الأمور لم تصِل بعدُ إلى هذه المرحلة. فالثورة الشعبية السورية لم تحُرّك بعدُ “الكُتلة الحرجة” (critical mass) ، التي دفعت مئات الآلاف إلى الشوارع في مصر وتونس واليمن، بَيْد أن طبيعة التطورات المتسارعة، تشي بأن الأوضاع تتّجه بالفعل نحْو هذه المرحلة، وهذا ما سيجعل الضغوط لا تُطاق على الجيش.

والخارج يتحرّك

هذا على الصعيد الداخلي لمفاعيل الزّمن، أما على المستوى الخارجي، فلا تبدو الصورة أقَل قتامة للحُكم السوري، إذ أن الإتحاد الأوروبي، الذي فرض قبْل أيام عقوبات على 13 شخصية أمنية وسياسية سورية، بدأ يتحرّك بسرعة وقوة لإسقاط الشرعية الدولية عن النظام، سواء في المحافل العالمية أو حتى في محكمة الجنايات الدولية. والخطر هنا، أن فرنسا، أي الدولة الغربية التي أخرجت النظام السوري من عُزلته الدولية التي فُرضت عليه منذ عام 2005، هي بالتحديد مَن يقود الآن هذا التحرّك، ما يشي بأن الحكم السوري ربّما خسِر أهَم داعم دوليّ له في الساحة الدولية.

والإدارة الأمريكية، وبعد امتناع طويل عن اتخاذ مواقف جادّة ضد القَمع في سوريا، بسبب ما يقال عن علاقات تاريخية متينة، وإن خفِية، مع الأنظمة البعثية، بدأت تسير هي الأخرى باتِّجاه تبنِّي مواقف أكثر صرامة مع دمشق. معالِم هذا التوجّه بدأت تترى مع تواتر الحديث عن إستراتيجية أمريكية جديدة تُدير الظهر لأولوية تغيير سلوك النظام (خاصة ما يتعلق بروابطه مع إيران ومفاوضاته مع إسرائيل) وتضع مسألة تغيير النظام نفسه كهدف، سواء عبْر الإنقلاب العسكري أو الثورة الشعبية.

والأهم، أن تركيا – أردوغان، التي باتت تلعَب دوراً إستراتيجياً كبيراً في الشرق الأوسط، تبدو هي الأخرى وكأنها فقَدت الأمل في إقناع الرئيس الأسد بتزعّم المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، وهذا ما قد يدفعها في قادِم الأيام إلى ممارسة ضغوط قوية وشديدة على النظام السوري، وهي ضغوط تخشاها دمشق بقوّة، كما هو معروف، بسبب عوامل الجغرافيا والتاريخ والإستراتيجيات.

إسراتيجية الخوف

هذا على صعيد الزّمن، أما على صعيد الخوْف، فقد دلّت مُظاهرات “جمعة التحدّي” (6 مايو)، أن إستراتيجية التخويف التي أراد النظام إحياءها في دَرْعا، عبْر تحويل هذه المدينة إلى “فزّاعة جماعية”، لم تعُد تُجْدي نفعا.

فالمحتجّون في بانياس، وبدلاً من أن يرهبهم مشهَد الدبابات والمدرّعات، التي تقتحم الأحياء السكنية وأجهزة المخابرات التي تعتقِل مئات الشبان في دَرْعا، شكَّلوا سلاسل بشرية للتصدّي للدبابات. والمتظاهرون في حمص، قدّموا 12 قتيلاً. والمتظاهرون في دمشق (على قلّة عددهم)، هتفوا بشِعار ذي مغزىً كبير: “الملايين تريد الشهادة”. وحتى في دَرْعا المحاصَرة بالدبابات والقنّاصة الذين يمنعون أي تحرّك في الشوارع، كان المتظاهرون يلجؤون إلى أسطُح المنازل ليهتفوا من هناك ضد النظام.

كل هذا عنى أن حاجز الخوف سقَط بالفعل، وهذا أخطر ما يُمكن أن تتعرّض إليه الدّولة الأمنية أو البوليسية، التي تعتمد على سايكولوجيا الخوف للبقاء على قيْد الحياة ولإحْكام قبضتها على المُجتمعيْن، المدني والسياسي.

المعركة من الآن فصاعداً، بين المعارضة الشعبية وبين النظام، ستكون على استِمالة الطبقة الوُسطى السورية (على اعتبار أن الطبقة العُليا بمعظم أطيافها الطائفية لها مصالح مع النظام). فهذه الطبقة، هي التي ستكون “بيضة القبّان”، التي ستقرِّر لِمَن سيُكتَب له النصر بين الطرفيْن.

النظام من جهته، سيُواصل الرِّهان على أن “كوكتيل” التخويف والقمْع، سيُقنِع أعضاء الطبقة الوسطى (وغالبيتهم من صغار التجار والموظفين) بالبقاء في منازلهم ورفْع لواء الأمن والاستقرار.

والمعارضة، بقوّة تضحياتها وإصرارها، ستعمل على إفهام هؤلاء بأنه لم تعُد ثمّة عودة إلى الوراء، أي إلى ما قبل الانتفاضة، وأن الطريق الوحيد للإستقرار، هو إقامة نظام ديمقراطي جديد، هذا ما يُسمّى الآن في أدَبيات عِلم السياسة، “معركة الكُتلة الحرجة”: مَن يربحها، سيربح الحرب، ومن يخسرها، يخسر كل شيء، وهي معركة طويلة ومريرة وخطرة.. إلا بالطبع، إذا ما تحقّق سيناريو تغيير النظام من داخله، إذ حينها سيعمل الزّمن لصالح هذا الأخير ومن دون ضرورة أو حاجة لتطبيق إستراتيجية الخوف.

swissinfo.ch

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى