صفحات المستقبل

سوريا: ترول و روبيكون و غيرها من الهواجس

 


هناك حدّ يجب أن يتوقف قبله كلّ شيء, أن يصمت الضجيج و أن تعود السياسة إلى قواعدها غير سالمةٍ. حدّ يجب أن ندقّ ناقوس الخطر الوجودي عند اﻻقتراب منه و أن نحرق أنفسنا (بصورةٍ غير مشرّفة, غير “بوعزيزيّة”) إن ﻻ مسناه, فما بالك إن عبرناه..

نزع الإنسان من إنسانيّته, أو الإنسانيّة من الإنسان, هو هذا الحد. عندما نرى تسفيه قيمة حياة إنسانٍ (خصوصاً إن كان طفلاً) و هزّ الأكتاف (أو ترقيصها) عند إزهاق روحه. إن وصلنا إلى هذا الحدّ علينا أن نفكر بشكل جدّي في طبيعة المعركة التي نخوض, و إن كان لزاماً علينا أن نحارب أنفسنا قبل التفكير في محاربة غيرنا.

ﻻ سياسة تبرر نزع الإنسانيّة و احتقار قيمة الحياة و الإنسان, و بالتأكيد ﻻ وطن يُبنى بالموت و مشتقاته. الوطن هو مشروع إنسان, أولاً و أخيراً إنسان.

إيّ حوار؟ أيّ إصلاح؟ ماذا يجب يمكن علينا أن ننتظر إن كان سفك الدّم و الهتاف بالرغبة بشربه هو طقس التزاوج و التكاثر لدى غربان العدم (الوطني و المُبارك), الذين ﻻ صوت يعلو فوق صوت نعيقهم, وﻻ حتّى صوت المعركة, أيّ معركة..

ﻻ أخبار عن غودو منذ أن قرر أن يعبر الروبيكون سباحةً. ﻻ تنتظروه, و إن سُئلتم عنه أنكروا سماعكم باسمه من قبل.

يُستخدم مصطلح “ترول” (Troll) في عالم اﻻنترنت للتعريف عن الذين يدخلون في النقاشات (في المنتديات, الشبكات اﻻجتماعية, المدوّنات.. الخ) بقصد تشتيتها و حرفها عن سياقها و إضاعة هدفها و إدخال مفاهيم و “حقائق” مغلوطة أو محوّرة, و استفزاز جزء من المشاركين في النقاش أو جميعهم, و محاولة استثارة ردود أفعال متوقعة بالمس بانتماءات أو عقائد معيّنة. قد يكون قصد الـ”ترول” مجرّد التسلية أو ربما يفعل ذلك لمصلحة معيّنة, قد يكون أسلوبهم بسيطاً و سطحياً و مبتذلاً, أو قد يكون على درجة عالية من اﻻتقان و الدّقة و الحرفيّة.

نعاني, للأسف الشديد, من وسط إعلامي ﻻ مهمّة له إﻻ لعب دور الـ”ترول” في المجتمع, حيث يستبدل الخبر و المعلومة الموثّقة بالعتمة المقلقة, و يقوم بتذويب ما هو جدير بالنقاش اﻻجتماعي و السياسي العميق في بحرٍ من التفاصيل المتصافعة و الهائجة و عديمة الأهمية و القيمة, و التي ﻻ يُقصد منها إﻻ إثارة البلبلة و الخوف و الضياع و الشعور الخانق بالأسر في حلقة مفرغة من اللاستقرار المرعب.

أعيد طرح سؤال مركّب, أو مجموعة من التساؤﻻت المجتمعة, سبق و أن طرحتها في نصّ سابق, و أعتقد أن الجواب على هذه التساؤﻻت من قبلنا كمواطنين عاديين هو السقف الذي يجب أن تنتظم تحته كلّ التفاصيل الأخرى و تُعالج تباعاً. هل تؤمن بالمواطَنة و العدالة و المساواة و الحرّية لكلّ أبناء شعبك؟ هل تعتقد بضرورة إيجاد عقد اجتماعي جديد (بغض النظر عن رأيك بالأسلوب الأمثل لإيجاده) يضمن الحقوق و الحرّيات, السياسية و اﻻجتماعية و اﻻقتصادية, لكلّ المواطنين (و المواطنات) دون تلكؤ أو تسويف أو وضع في أسفل سلّم ﻻ متناهي من الأولويات؟ هل تؤمن بإنسانية الإنسان و حقه في الحياة و الكرامة و الحرّية و ترفض العنف و القمع و الإلغاء كأساليب للتعامل معه؟

إن هذه الأسئلة, برأيي المتواضع, هي المفاتيح التي يجب أن نمنع ضياعها في شيطان تفاصيل اللف و الدوران و المراوغة و التبرير و المزاودة. ﻻ شك أن التفاصيل التي ستأتي تحتها كثيرة و صعبة و متشعّبة, و قد تطول معالجتها لسنوات, لكنّ الخطوة الأولى ﻻ تحتاج لأكثر من لحظاتٍ تتم فيها مشاورة المبادئ التي نحملها في عقولنا و قلوبنا.

بالعودة إلى موضوع الـ “ترول”, يلخّص خبراء اﻻنترنت الطريقة المثلى للتعامل مع هذا النوع من الشخصيات بجملة واحدة (Do Not Feed The Troll) أي: ﻻ “تُطعم” الترول.

هناك من ﻻ يكفّ عن الترديد المجتر و الفارغ, بنبراتٍ عالية الضجيج و طافحة بالكراهية الوقحة و الرغبة المتعطّشة للاكتساح الإلغائي, أنه يلعن الزمن الذي “أصبحت فيه الخيانة وجهة نظر” كلّما سمع ما ﻻ يروقه, دون أن يلتفت إلى أن الزّمن الذي يقصده هو بالذات الزّمن الذي ساد فيه و أمثاله وسادت فيه “قيمهم” بمنطق القوّة, ﻻ بقوّة المنطق.

ﻻ يجد هؤﻻء حرجاً, هم الذين يدافعون بشهوانية سيكوباتيّة عن الإقصاء و الإلغاء و العنف و اﻻعتقال (و القتل أحياناً) و ﻻ يخجلون من منح أنفسهم صلاحية إعطاء الدروس في الديمقراطية و احترام الرأي الآخر و الحقّ في التعبير لمن يعبّر لهم عن استنكاره و رفضه لنبرتهم الإلغائية الكارهة أو لمن يرفض الاستماع لهدير حقدهم الأعمى, و ﻻ يُجدي نفعاً شرح أنّ الفارق بين استنكار كلامٍ أو رفض الإصغاء إليه و بين إخراس من يقوله و إلغائه كالفارق بين قاعة محاضرات و قاعة تعذيب أو زنزانة. كلّ ما ﻻ يعني اﻻستسلام الصّامت لضجيجهم العدمي سيء, و “يكافحونه” بليّ ذراع مفاهيم الـ “ديمقراطيّة” أحياناً, و بالقمع و القوّة أحياناً أخرى (أو بالأصح, غالباً, أي كلّما تمكنوا من ذلك).

هذا هو النتاج الطبيعي و الحتمي لعقودٍ كانت فيها كلّ وجهة نظر هي خيانة, ﻻ العكس. عقودٌ استبدل فيها سقف الانتماء الوطني بجدران خرسانية خانقة تخيف من بداخلها و تُرعب ممّا في خارجها.

هذه العقود هي نفسها عقود الهزيمة.. ألم يحن الوقت لكي نرميها من على كاهلنا التّعب؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى