صفحات العالم

سوريا: جدل العنف والتسوية

 

د. أحمد يوسف أحمد

فاجأ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض كافة المعنيين بالشأن السوري والمتابعين لتطوراته بمبادرته التي انطلقت من إمكانية الحوار مع النظام السوري شريطة الإفراج عن مئة وستين ألفاً يحتجزهم في سجونه، وتجديد جوازات سفر السوريين المقيمين في الخارج، ولاحقاً أضاف الخطيب ما يُعد شرطاً ثالثاً وهو أن يكون الحوار مع فاروق الشرع نائب الرئيس السوري الذي لا يعرف عنه أحد شيئاً في الوقت الراهن. وثمة ملاحظات أساسية ترد على هذه المبادرة منذ الوهلة الأولى: الملاحظة الأولى أنها يمكن أن تكشف عن قدر كبير من عدم الإلمام بالسياسة وقوانينها إن كان القصد منها حقاً هو التوصل إلى تسوية مع النظام، فليس بعد هذا القدر من العنف والدماء والدمار والتشريد يمكن التوصل إلى مثل هذه التسوية. غير أن هذه المبادرة قد يكون المقصود بها تقوية المعارضة وشق صفوف النظام على أساس إثبات مرونة الأولى وإرباك النخبة الحاكمة في سوريا في وقت أزمة ضاغطة يمكن أن تمثل لها مبادرة الخطيب حبل نجاة. ولكن مبادرة كهذه بالمقابل يمكن أن تؤدي إلى بلبلة في أوساط الائتلاف الوطني المعارض الذي يرأسه الخطيب نفسه، بل وداخل صفوف المعارضة ككل، وهو ما يبدو أنه قد حدث بالفعل بدليل حرص الائتلاف في الاجتماع الذي عقده في الرابع عشر من هذا الشهر بمدينة القاهرة على أن يؤكد أن مبادرة الخطيب قد انتهت مع تبرير هذا الموقف بما لا يمثل إحراجاً لرئيسه، وذلك بالقول إن انتهاء المبادرة مرده أن النظام السوري لم يستجب لها. ومن ناحية أخرى اتفق الائتلاف في الاجتماع ذاته على رفع توصية إلى هيئته العامة في اجتماعها المقبل بالقاهرة يوم عشرين فبراير الجاري بتشكيل حكومة انتقالية من المعارضة في الداخل والخارج. والمعضلة الآن أن مبادرة الخطيب على رغم كل التطورات السابقة ما زالت تمثل مرجعية أساسية لدى الجامعة العربية والأمم المتحدة التي لا يخفي أمينها العام تأييده المبادرة وترحيبه بها كأساس للانطلاق نحو تسوية، وهو بالتقريب موقف مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي.

وعلى الجانب الآخر يتواصل القتال الشرس في الحرب الأهلية السورية، ووفقاً لمفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فإن عدد قتلى الحرب السورية منذ بدايتها حتى الآن قد بلغ قرابة سبعين ألفاً، بل إن هذه الحرب بدأت تكتسب أبعاداً جديدة بالغة الخطورة حيث أضيف إلى طابعها السياسي العسكري الأمني طابع مجتمعي طائفي وبغيض، ففي بداية هذا الأسبوع بلغ عدد المختطَفين على أساس طائفي من الجانبين ما يزيد على ثلاثمائة، كما أن عدداً غير مسبوق من النساء والأطفال كان من بين هؤلاء المخطوفين. وفي هذا الإطار التصاعدي بدأ الحديث مجدداً عن تسليح المعارضة السورية وخاصة أن الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على هذا التسليح ينتهي بنهاية هذا الشهر، ومن الواضح أن ثمة انقساماً في هذا الصدد بين دول أوروبية أساسية، ففرنسا وإيطاليا وبريطانيا تؤيد رفع الحظر فيما تعترض على ذلك كل من ألمانيا والسويد، ومع هذا يلاحظ أن الدول التي تؤيد رفع حظر إمداد المعارضة السورية بالسلاح إنما تفعل ذلك لهدف سياسي وهو تقوية هذه المعارضة بحيث تكون قادرة على فرض وجهة نظرها في أي جهود قادمة للتسوية، ويتسق هذا مع ما صرحت به مصادر فرنسية بأن فرنسا وإن كانت تؤيد رفع الحظر عن توريد السلاح للمعارضة فهي لا تفعل ذلك لأنها تعتقد بإمكان أن يكون هناك حل عسكري للأزمة ولكن لتقوية فرص الحل السياسي. ومن ناحية ثانية صرح جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة بأن سياسة أوباما حيال سوريا “تنطلق من تفضيله الحل السياسي عبر التفاوض” بما يؤدي إلى رحيل الأسد، وهو موقف تنطبق عليه الملاحظات ذاتها التي سبقت الإشارة إليها في هذا المقال بخصوص ما تكشف عنه سياسات كهذه من عدم إلمام بالسياسة وقوانينها، اللهم إلا إذا كان الغرض من هذه السياسة هو تفادي الحرج الذي تجد القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها فيه نتيجة عجزها الواضح عن التأثير في مجريات الأمور في سوريا.

ومن الواضح أن القوى الكبرى ذات المصالح في الشرق الأوسط عامة وفي سوريا خاصة تواجه الآن معضلة حقيقية من منظور قدرتها على التأثير في التطورات السورية، ففي البدء نظرت جميع هذه القوى باستخفاف إلى ما يجري في سوريا، واعتبرته فرصة للخلاص من نظام كان يمثل عقبة إزاء تنفيذ مخططاتها في المنطقة وللقيام بدور محوري في إعادة تشكيل النظام السياسي السوري بما يحفظ مصالحها ويعززها. وهكذا راحت هذه القوى تؤيد بدرجات وأنماط مختلفة الثورة على نظام الأسد، وتتخيل أن هذه الثورة سرعان ما ستنجح في تحقيق أهدافها أو على الأقل هدفها الرئيس أسوة بما حدث في تونس ومصر، وبعدها تتفرغ للحصاد، غير أن النظام السوري أبدى تصميماً لا يلين وقدرة واضحة على التصدي لمعارضيه، بالإضافة إلى ما تبين من أن معارضي النظام تغلب بين صفوفهم العناصر المتشددة، وهو آخر ما كانت تلك القوى تفكر فيه: أي أن تستبدل بنظام الأسد نظاماً أصولياً قد لا يكون لها سابق معرفة بقواه وقياداته الرئيسة، وزاد من هذه الورطة أن مسيحيي سوريا خاصة والمنطقة عامة أخذوا ينظرون بقدر واضح من الوجل لاحتمال سيطرة الأصوليين على الحكم فيها، وذلك كما اتضح بجلاء أثناء تنصيب بطريرك الروم الأرثوذوكس الجديد في سوريا بحضور الكاردينال بشارة الراعي بطريرك المسيحيين الموارنة في لبنان حيث كانت نغمة تأييد النظام عالية وكذلك التحذير من نزعات أصولية لا تمت إلى الدين بصلة. وهكذا غلَّت تطورات الوضع في سوريا أيادي القوى الكبرى عن التدخل الفاعل فيما يجري والتأثير فيه، وعاد نموذج “الإقليمي والعالمي” يطل برأسه من جديد، بمعنى أنه على رغم الفارق الواضح في ميزان القوى المادية بين القوى الإقليمية والعالمية فإن الأولى تبدو أحياناً أكثر قدرة على الفعل والتأثير في المواقف التي تنشأ في محيطها الإقليمي لأنها تعمل في إطار قيود أقل وطأة، وهكذا ربما تكون قوة إقليمية كتركيا أكثر قدرة على التأثير من دول كالولايات المتحدة وفرنسا.

تواجه سوريا إذن مصيراً غامضاً، فالحرب الأهلية مستمرة فيها دون أن نكون أكثر قدرة على التنبؤ بمجرياتها كما كان الأمر في السابق، وإذا كانت المعارضة تحقق إنجازات لاشك فيها إلا أن أحداً لا يستطيع أن يفهم الموقف العسكري بدقة الآن وخاصة أن الإعلام يركز على هذه الإنجازات أكثر مما يركز على علامات صمود النظام، بل إن هذه الحرب كما رأينا تكتسب شيئاً فشيئاً أبعاداً طائفية بغيضة، كما أن قوى المعارضة المسلحة تكشف بالتدريج عن نزعات أصولية متطرفة يمكن أن تحدث استقطاباً حاداً إذا وصلت إلى الحكم، ناهيك عن أعباء إعادة إعمار ما دمرته الحرب وبناء الاقتصاد السوري المخرب من جرائها، فهل يكون مصير سوريا مثل مصير رأس تمثال أبي العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء التي قطعها الأصوليون في بلده “معرة النعمان” في إشارة لا تخطئها عين إلى الجهل بالدين والتاريخ والسياسة معاً؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى