صفحات العالم

سوريا في النقاش الإسرائيلي

                                            ماجد كيالي

منذ بداية الثورات العربية، التي اندلعت من تونس ومصر مروراً باليمن وليبيا وصولاً إلى سوريا، بدا واضحاً أن إسرائيل تضرّرت كثيراً، سياسياً وأمنياً، إذ إنها خسرت نظام مبارك، ومعه البيئة الإقليمية الآمنة، بعد أن كانت خسرت سابقاً إيران، ثم تركيا.

والأهم من ذلك أن هذه الثورات، بالنسبة لإسرائيل، لم تكن مجرّد خسارة لأنظمة إذ بات هناك أيضاً، تغيّر نوعيّ في معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، مع صعود المجتمعات العربية إلى مسرح التاريخ، ما نجم عنه، أيضاً، احتساب هذه المجتمعات ضمن معادلات موازين القوى، بعد أن كانت هذه المجتمعات مغيّبة أو مهمّشة، هذا فضلاً عن فقدان إسرائيل لمكانتها الأثيرة، كالديمقراطية الوحيدة في صحراء الشرق الأوسط، بعد أن بات عدد من الدول العربية يتحول نحو الديمقراطية.

على أية حال ليست الاستنتاجات السابقة مجرّد رأي وإنما هي واقع أقرّ به كثير من المحللين والمهتمين، ومنهم غراهام فولر، المحلل الأميركي في الشؤون الإستراتيجية، ونائب رئيس مجلس الاستخبارات في الولايات المتحدة الأميركية سابقاً، والذي عدّ إسرائيل بمثابة الخاسر الأكبر والأول، من الثورات العربية في مقال كتبه في “كريستيان ساينس مونيتور بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وعنوانه “من هم أكبر الخاسرين والكاسبين من ربيع العرب؟”.

هكذا، ومع أن التخوّفات الإسرائيلية من الثورات العربية معلنة وواضحة ومسلّم بها، لا سيما بما يتعلّق بسقوط نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، إلا أن تعيين الموقف الإسرائيلي مما يجري في سوريا يثير عددا من التساؤلات، فهنا ثمة غموض متعمّد، والتباس، وحيرة، ما يعني أن ثمة موقفا إشكاليا يحتاج إلى مزيد من إمعان النظر والتفحّص لسبر أبعاد هذا الموقف، وتبّين تعقيداته، ومعرفة حقيقته.

والثابت، حتى الآن، أن إسرائيل تنتهج عمداً سياسة قوامها عدم توضيح وجهة نظرها في شأن مصير النظام السوري، وثمة فيها من يعبّر عن قلقه إزاء ما يحصل، على الرغم من أن نظام الأسد محسوب على ما يسمى محور “الممانعة والمقاومة”، وهو أمر مدهش حقاً، ويثير التساؤل، وذلك من دون صلة مع تفسيرات المؤامرة، أو العمالة، ففي الصراعات السياسية المتداخلة والمعقدة لا تجري الأمور على هذا النحو الساذج أو المبسّط.

مثلاً، من المفترض، وبالنظر إلى ادعاءات النظام السوري عن نفسه، أن ثمة مصلحة لإسرائيل بانتهاء هذا النظام، الذي تعتبره بمثابة قاعدة خلفية لحزب الله، لا سيما أن انتهاءه يؤدّي إلى فكفكة محور دمشق حزب الله طهران. لكن الملاحظ أن إسرائيل لا تتصرّف على هذا النحو البتّة، فهي لا تبدو متحمّسة لإنهاء هذا النظام، بل إن بعض المحللين يعتقدون بأن إسرائيل هذه تلعب دوراً كابحاً لأيّة تدخّلات خارجية، وخصوصاً أميركية، قد تتيح سقوطا سريعاً وسهلاً لهذا النظام.

ويحاول إيال زيسر -الخبير الإسرائيلي في الشؤون السورية- شرح حقيقة الموقف الإسرائيلي، مما يجري في سوريا، بالكلمات التالية: “لم يستقر رأي القدس بعد أهي معنية بإسقاط الأسد أم هي معنيّة إلى جانب إيران وحزب الله وروسيا ببقائه على كرسيه؟”. (“إسرائيل اليوم”، 23/5/2013).

لكن لماذا يحصل ذلك؟ أو كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وكيف جرى وأن إسرائيل ليست في عجل من أمرها في إسقاط هذا النظام؟ للإجابة على هذين السؤالين ربما نحن بحاجة إلى تفكيك المشهد إلى العناصر الأساسية المكونة له، بالنسبة لإسرائيل، وهي سوريا وحزب الله وإيران وحركة الثورة السورية.

والحال، فمن وجهة نظر إسرائيل تبدو “سوريا الأسد”، دولة منضبطة وتتحمّل مسؤولياتها إزاء الحفاظ على أمنها، بواقع أن حدودها مع سوريا حظيت بهدوء مطلق على مدار أربعة عقود، إلى درجة باتت معها هضبة الجولان من أهم المنتجعات السياحية في العالم، والمعنى أن ما يهم إسرائيل المواقف العلنية، لا الشعارات ولا الادعاءات اللفظية، فهكذا يشتغل العقل الإسرائيلي.

أما بالنسبة إلى حزب الله، فهو لم يعد يشكّل تهديداً لإسرائيل، بعد انسحابها الأحادي من جنوب لبنان (2000)، وبعد وقفه المقاومة من حينها (باستثناء لحظة خطف الجنديين الإسرائيليين في العام 2006)، ولا سيما أيضا بعد تحوله إلى الداخل اللبناني، وغرقه في اللعبة السياسية فيه، وأخيراً بسبب انغماسه في معترك الصراع الجاري في سوريا، الأمر الذي أدى إلى تدهور مكانته، وانكشافه عن مجرد حزب طائفي، يشتغل وفق الأجندة الإيرانية.

وبشأن إيران، فإذا تجاوزنا سعيها لامتلاك الطاقة النووية، فلا يبدو أن لإسرائيل أية مشكلة معها، لأن الأسلحة التي تورّدها لحزب الله لا تغيّر من موازين القوى، وهذه يمكن لإسرائيل التعامل معها، كما تبيّن في أكثر من حرب.

وما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا أن إسرائيل تستفيد عملياً من إيران، وإن بشكل غير مباشر، وهي تستثمر في السياسات التي تنتهجها هذه الدولة في الشرق الأوسط، لا سيما أن هذه استطاعت شقّ مجتمعات المنطقة، وإثارة النزعات الطائفية والمذهبية فيها، وهو ما لم تستطعه إسرائيل طوال أكثر من ستة عقود.

بقي موقف إسرائيل من الثورة السورية، التي باتت تشكّل هاجساً بالنسبة لها، مهما آلت إليه الأمور في دمشق، مع علمانيين أو متدينين أو قوميين أو يساريين، ذلك أن الثورات الشعبية العربية، مكّنت الشعب من السياسة، ومن التقرير بشؤونه المصيرية، فضلا عن أنها أدخلت المجتمعات العربية في حسابات موازين القوى، في الصراع العسكري أو السلمي مع إسرائيل، بعد أن كان هذا الأمر محصوراً في الجيوش العربية، القابعة في ثكناتها.

القصد من ما تقدم القول بأن موقف إسرائيل من ما يجري في سوريا تحكمه عوامل عديدة، وأنه موقف مركّب ومعقّد، لا سيما أن هذه معنيّة بعدم تحوّل سوريا إلى مكان تسوده الفوضى، أو الجماعات الجهادية المتطرفة، كما أنها معنية بعدم انتقال أسلحة من مستوى معين إلى حزب الله، قد تمكّنه من تغيير معادلات القوّة والردع، ويأتي ضمن ذلك عدم تسرب أسلحة كيمياوية إلى هذا الحزب، ولا إلى الجماعات المسلحة المعارضة للنظام.

ولعل ايتمار رابينوفيتش -سفير إسرائيل السابق في واشنطن، ورئيس وفدها للمفاوضات مع سورية (في حكومة إسحق رابين في مطلع التسعينيات)- هو خير من تحدث عن تعقيدات وحيثيات موقف إسرائيل من ما يجري في سوريا فهو مثلا يستعير عبارة “الشيطان الذي نعرفه خير من الشيطان الذي لا نعرفه”، والذي كان أرييل شارون -رئيس الوزراء الإسرائيلي في العام 2005- قد استخدمه عندما شرح للرئيس الأميركي السابق جورج بوش أسباب معارضته دفع نظام الأسد إلى الانهيار، حينها.

وهذا بدوره يذكّر بموقف إدارة بوش التي كانت آنذاك تحاول، وبتشجيع من تيار المحافظين الجدد، استثمار الغزو الأميركي للعراق، واستكماله في سوريا، وفق نظرية “الدومينو”، لكن إسرائيل بحسب رابينوفيتش كبحت هذا التوجه، ما يعني أن ثمة سابقة لإسرائيل في ممانعة سقوط نظام الأسد.

ويقول رابينوفيتش “مع أن شارون لم يستطب على نحو خاص الرئيس السوري، إلا أنني أعتقد بأن التعاطي مع النظام المعروف في دمشق، أفضل من بديل ليس مؤكدا. لقد كان الأسد حليفاً لإيران، ووفّر لها جسراً برياً لحزب الله في لبنان. ودعم حماس والجهاد الإسلامي، ولكن إلى جانب ذلك حافظ على حدود هادئة في هضبة الجولان، وورث سمعة أبيه كعدو يتصرف بشكل معروف ومتوقع. على إسرائيل أن تسعى مرة أخرى نحو السياسة التي ميّزتها على مدى معظم أيام الحرب الأهلية، أي الامتناع قدر إمكانها عن الإنجرار إلى الأزمة السورية، وحماية مصالحها الأمنية الحيويّة بتصميم، وإن كان بحذر وبكتمان.” (نشرة “نظرة عليا”، 23/5/2013).

وهذا ألون بنكاس، يشرح الأمر بصورة أكثر وضوحاً، إذ يقول: “اختلافات الرأي وفوارق المصالح بين الولايات المتحدة وروسيا وفي الوسط إسرائيل، في موضوع المستقبل السياسي لسوريا تشوّش حقيقة أساسية واحدة تتشارك فيها الدول الثلاث: كلها تريد استمرار حكم بشار الأسد، كلها تفضّل اليقين الذي يطرحه الأسد على الفوضى المحتملة التي تكمن في إسقاطه. استمرار حكم الأسد هو الأفضل بين البدائل السيئة والسيئة جداً. في الحالة السورية، يحتمل ألا يكون مفرّ. الأسد هو أخونا.” (“يديعوت أحرونوت”،20/5/2013).

هذا ما يتحدث عنه، أيضاً، غابي بسيوني، بقوله: “إن إسقاط الأسد قد يُحدث فوضى عارمة في المنطقة. وهكذا ستجد إسرائيل نفسها تواجه في هضبة الجولان عدداً كبيراً من المنظمات الإرهابية تعمل على الحدود المتوحّشة التي ستنشأ في هضبة الجولان السورية. إن مثالاً على تطوّر مسار كهذا يُرى في هذه الأيام في شبه جزيرة سيناء”.

ويضيف “إن تحوّل حدود إسرائيل مع سوريا إلى حدود إرهاب، يحكمها خليط كبير من منظمات خطيرة جداً، سيجعل من الصعب إنتاج هدوء أو أي نوع من أنواع الردع الفعّال مع عدم وجود عنوان مركزي، إن الحفاظ على النسيج اللطيف الذي ما زال يوجد معه عنوان واضح في سوريا هو مصلحة إسرائيلية رفيعة، إلى جانب منع أو تأجيل سيطرة جهات إسلامية على الأقل على سوريا”. (“إسرائيل اليوم”، 21/5/2013).

عموماً، لم يعد خافياً على أحد أن النخبة السياسية والعسكرية والاستخباراتية الحاكمة في إسرائيل يتنازعها اليوم ثلاثة تيارات، بما يتعلق بالموقف من الأحداث الجارية في سوريا، الأول، يرى أن سقوط نظام الأسد سيضعف محور إيران سوريا حزب الله، وأنه مع انهيار النظام سينتهي خطر الجيش السوري وسيضعف الحزب، وستتضرّر إيران، وأن الديمقراطية لا تضرّ إسرائيل.

والثاني يرى أن إسقاط نظام الأسد سيقود إلى الفوضى، وتفكّك القوة العسكرية المهيمنة، وحينها ستتركّز منظمات المعارضة على الحدود مع إسرائيل، ما يهدد أمنها.

أما الثالث، فيعتقد أن من الأفضل ترك الأمر، واعتماد سياسة الغموض، مع مراقبة الوضع جيداً. ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه ينبغي ترك الأطراف تتقاتل وتستنزف نفسها، لأن ذلك يسهم في إضعاف سوريا، وزيادة التشقّقات المجتمعية فيها، ونزع التهديد الذي قد تشكّله مستقبلاً عليها.

وعلى الأرجح فإن وجهة النظر هذه هي السائدة، وهي التي تكمن وراء التردد الأميركي في التدخل، بأي شكل، لوقف القتل والتدمير في سوريا.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى