صفحات العالم

سوريا كيان سليم فلا خوف عليها من الديمقراطية


بسمة قضماني

منذ أن اندلعت أولى مواجهات فى مدينة درعا جنوب شرق سوريا فى 13 آذار والمراقبون يتساءلون لماذا درعا؟ وما هى الخصوصيات الاقتصادية الاجتماعية أو الجغرافية التاريخية لهذه المدينة التى جعلتها تشتعل فجأة بينما لم نسمع عن حركة سياسية مهيمنة حاولت يوما أن تطلق من درعا نشاطا لمعارضة من أى نوع كان. فلا تواجد لحركة الإخوان المسلمين مثلا بل بالعكس إذا صح القول فإن أهل سوريا المتمعّنين فى الجغرافية السياسية للبلد يقولون إن درعا معروفة تاريخيا بتوجهها القومى بل الناصرى وسكانها ينتمون إلى طوائف مختلفة لم تكن يوما عامل تمييز أو محرّكا لخلافات أو مطالب خاصة عند سكانها.

إن ما يتضح من الرواية لتسلسل الأحداث التى أشعلت فتيل المواجهات هو أن مجرّد مجموعة من طلاب المدارس كتبوا بالطباشير على الجدران خارج مدارسهم شعارات معادية للنظام فانقضت قوات الأمن على هؤلاء الشبان المراهقين واعتقلوهم وأودوا بهم إلى دمشق. ثم تجمع أهالى البلدة فى المسجد الرئيسى للبلد ليتشاوروا حول أسلوب التعامل مع هذه الاعتقالات فدخلت عليهم قوات الأمن وأطلقت النار بشكل عشوائى. وعندما اتصل المعتصمون فى المسجد بطبيب لإسعاف الجرحى استجاب الطبيب على الفور واتجه نحو المسجد وبرفقته ممرضتان وأدوات الإسعاف وما إن وصلوا قرب المسجد حتى واجهتهم قوات الأمن بالرصاص الحى مسببة مقتل الطبيب وجرح مرافقيه. هكذا بدأت وتطوّرت أحداث درعا التى انتشرت منذ ذلك الحين فى مختلف أنحاء البلد. كان سببها الأساسى أسلوب تعامل قوى الأمن مع احتجاج بسيط ولو لم تتصرف قوى الأمن بالهمجية التى فاجأت الجميع لربما بقيت الحادثة دون أهمية. ويتّضح من خلال أحداث درعا أن آلية ضبط المجتمع التى يعتمد عليها النظام السياسى للحفاظ على الاستقرار ــ أى الأجهزة الأمنية ــ لا حدود لصلاحياتها، ولهذا السبب فإن نفس هذه الأجهزة هى المسئولة اليوم عن غضب أهالى درعا وزعزعة الأمن.

وإذا كان التساؤل لدى المراقبين هو إن كانت سوريا بدأت ثورتها أم لا فالجواب أصبح واضحا: نعم. إن سوريا تعيش حاليا بداية حركة مشابهة لتلك التى أودت بالأنظمة التونسية والمصرية وهى ثورة شعبية لم تخطط لها لا المعارضة السورية فى الخارج ولا الإخوان المسلمون فى الداخل أو الخارج ولا المعارضون فى الداخل الذين يعانون من رقابة دائمة واضطهاد يجعلهم كالمنبوذين داخل الوطن.

إن مخاطر الوضع الحالى فى سوريا تكمن فى الاستراتيجية التى قد يختار النظام اتباعها فى التعامل مع المزاج الثورى عند المجتمع. فأى دوافع قد تحرّكه؟

إذا اختار أن يسير وفق الدافع الأمنى كما فعل حتى الآن فسيستمر فى استخدام أجهزة الأمن لقمع الشعب ومحاصرة المجتمع وربما يشكّل ذلك أفضل ضمان للحفاظ على الاستقرار داخل أركان السلطة وأجهزتها وموازين القوة السائدة فيها منذ أن تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم قبل عقد ونيف. لكن هذا الخيار قد يواجه بعض القيود الآن منذ أن وضعت الدول الخارجية الكبرى ومعها الأمم المتحدة خطوطا حمراء للحد من استخدام القوة المفرطة ضد المظاهرات السلمية وخاصة منذ أن قررت التدخل فى ليبيا. المعارضة فى سوريا أيا كانت هويتها لن تطلب تدخلا أجنبيا وقد تبحث بكل صدق عن مخرج سلمى يجنّب البلاد مزيدا من العنف.

الجديد فى الأمر هو أن الثمن السياسى والدبلوماسى للقمع قد ارتفع بشكل ملحوظ. فالمجتمع الدولى أصبح يستخدم وسائل ضغط متنوعة من عقوبات وعزل وتجميد أرصدة مصرفية ووضع حظر على سفر المسئولين السياسيين والتهديد بالملاحقة القضائية. وفى الحالة السورية لا يمكن استبعاد سيناريو استخدام المحكمة الخاصة بالتحقيق فى اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريرى التى لم تصدر قرارها بعد لإحراج بعض المسئولين السوريين. قد يتفادى الرئيس بشار الأسد خلافات وانقسامات داخلية إذا تجنّب اتخاذ قرارات حاسمة تنقل سوريا إلى مرحلة سياسية جديدة واستمر فى قمع المظاهرات. لكن أى إدانة أو إجراء دولى قد يشكل فشلا شخصيا للرئيس السورى ولجهوده الذكية التى نجحت فى إعادة سوريا إلى مرتبة البلدان المؤثرة التى يتردد إليها قادة أجانب باستمرار.

هناك خيار ثانٍ وهو الرد بمنطق دولة الرفاهة القائم على توزيع منافع اقتصادية واجتماعية لإعادة بناء شعبية النظام وهو بمثابة الرشوة التى اعتادت اللجوء إليها دول النفط مرارا أى دول الخليج والجزائر وليبيا وهى إستراتيجية تجعل من المواطنين مجرّد أجساد وأفواه تحتاج لإرضائها بالوسائل المادية . لكن فاعلية هذه المقاربة تتضاءل عندما تُقدّم للشعب كجواب على مطالب سياسية وعلى خلفية قمع واعتقالات وقتل مواطنين تظاهروا سلميا. وفى الحالة السورية تتطلّب إمكانيات لا تتمتع بها سوريا.

لقد أصبح من المعروف من خلال تجارب أربع دول حتى الآن وهى تونس ومصر واليمن وليبيا أن الإصلاح السياسى عندما يُطرح بعد عقود من الرفض من قبل أركان النظام يتطلّب عملية تحوّل جذرى فى ممارسة السلطة وبناء العلاقة مع المجتمع على أسس غير الرقابة والتخويف والقمع وإعادة بناء أجهزة الأمن والإعلام وإطلاق الحرّيات الكاملة. ربما الأهم من كل هذه الإجراءات هو محاربة الفساد وهو الأصعب على الإطلاق ذلك لأن الفساد أصبح من أهم ركائز البنية السياسية للنظام إذا قررت أى جهة أن تتحدّى هذا الوحش لانقضّت عليها الأطراف المختلفة لمنعها من ذلك وتضعضعت بنية النظام بأكملها، فالفاسد ومهندس منظومة الفساد والساكت عنها والمستفيد منها سياسيا يشكلون جميعا أطراف هذا الوحش فلا أحد مستعد لتفكيك المنظومة لأنهم يرون جميعا أنها قد تعنى نهايتهم.

يبقى الرد الأخطر الذى يقوم على دافع العصبية والذى من شأنه أن يؤدى بالنظام إلى التلاعب على الفروقات الطائفية وتحويلها إلى انقسامات. الهدف هو ترويع المواطن العادى بفكرة أن تخفيف القبضة الحديدية قد يؤدى إلى انشقاقات وتمزّق فى النسيج الاجتماعى. وأن سوريا قد تتحول إلى عراق آخر فيقتنع المواطنون بأن القبضة الحديدية هى فى صالح المجتمع وسلامته.

هذا هو تحديدا المنطق الذى أصبح مرفوضا والذى ينبغى على كل مواطن سورى أن يبدأ فى التحدّث عنه بشكل صريح. المجتمع السورى ليس مصابا بأمراض لعينة، لا مرض التآمر على نفسه ولا مرض الطائفية التى لم تكن فى تاريخ سوريا الحديث عامل تصادم بين فئات المجتمع. فالعروبى الأكبر الذى نظّر للهوية العربية الإسلامية كان مسيحيا واليوم نرى أن من بين أكثر الأصوات احتراما ومصداقية فى الوسط الثقافى، هؤلاء الذين يبشرون بالمجتمع الديمقراطى ويدفعون ثمن التعبير عن رأيهم هم من الطائفة العلوية. إذا كانت محنة المواطن السورى عبر العقود الأخيرة أنه اعتاد العيش فى خوف دائم من النظام السياسى فليس هناك مبرّر اليوم لكى يستبدل هذا الخوف بخوف من نفسه. هنا تقع الأولوية إذا كان شعب سوريا يريد الحياة.

عن جريدة الشروق القاهرية 2/4/2011

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى