صفحات الناس

سوريا : مستشفيات بديلة

مروان أبو خالد

أثارت قضية مرضى الكلى في مستشفى المواساة بدمشق أواخر حزيران الماضي، استياء الشارع السوري من عدم اكتراث الحكومة ونهجها الاقتصادي لحقهم في البقاء على قيد الحياة. إذ رفض المتعهد في المستشفى شراء الأدوية الخاصة لغسل الكلى، بعد أن طالب المستشفى بتعديل قيمة العقد من 20 إلى 30 مليون ليرة، نظراً لارتفاع التكاليف المترتبة عليه بعد الانهيار المتزايد في قيمة الليرة، ولكن الإدارة رفضت طلبه وغرمته مقابل إخلاله بالعقد وامتناعه عن توفير الدواء بمليون ليرة فقط، من دون أن تتخذ بحقه إجراء ملزما بتوفير الدواء، أو أن تقوم هي بشرائه وتوفيره، الأمر الذي أدى الى توقف علاج مرضى الكلى في المستشفى المذكور. وهذا ما يثير مخاوف كبيرة حول مصير المرضى، لاسيما أنهم من الطبقات المفقرة العاجزة عن تحمل تكاليف العلاج في المشافي الخاصة والتي تصل تكلفة العلاج فيها لحوالي 10 ألف ليرة للجلسة الواحدة.

هذه الحادثة هي واحدة من المؤشرات الكثيرة التي تدل على هشاشة القطاع الصحي في سوريا، وسوء إدارة الحكومة له وعدم اكتراثها بصحة المواطنين، خصوصاً أن الحرب التي يشنها النظام منذ عامين ويستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة الحربية، قد أدت إلى دمار هائل في البنية التحتية الصحية في معظم مناطق سورية.

فقد تضررت أكثر من نصف المستشفيات الحكومية في سوريا، وتوقفت حوالي ثلث المشافي عن تقديم خدماتها المعتادة للمواطنين. وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى توقف ثلاثة أرباع المستشفيات الخاصة في حمص، ودمار ما يقارب الـ25 وحدة صحية فيها. أما في حلب التي تعيش وضعاً مأساوياً على الصعد كافة،  تعرضت معظم مشافيها لدمار كبير، كمشفى الحياة الذي اعتمدته قوات النظام كمقر لتحصن القوات قبل دماره بعد المعارك الطاحنة التي دارت في محيطه. يضاف إلى ذلك الصعوبات التي تواجه ما تبقى من المشافي العاملة، كالنقص الحاد في الأدوية، والانخفاض في عدد الأطباء، وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة والتي أُثرت سلباً على أداء مختلف الأجهزة الطبية.

وما يلفت الانتباه أن الكثير من الخدمات الصحية التي توقفت المشافي العامة عن تقديمها تحت حجج متعددة، تتوفر في المشافي الخاصة لكن بأسعار مضاعفة تفوق قدرة المواطن على تحملها، في ظل صمت حكومي وموافقة ضمنية صريحة على ممارسات المشافي الخاصة التي لا تستقبل الحالات الإسعافية إلا بعد دفع مبلغ مقدم يبلغ وسطياً حوالي 10 ألاف ليرة سورية، ومن لا يملك القدرة على الدفع، يترك ليواجه مصيره المحتوم دون أن يرف جفن لأصحاب المشافي الخاصة وسماسرة الصحة، ما داموا يدركون أن يد القانون لا يمكن أن تطالهم.

ولم تسلم الكوادر الطبية من العنف القائم في البلاد، فما يزيد عن 30 ألف طبيب غادروا سورية، وقد أفاد تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود أن ثلث أطباء درعا قد غادروا المحافظة، في حين أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن نصف أطباء حمص انتقلوا الى أماكن أخرى في الداخل والخارج. كما تم إعتقال عدد كبير من الأطباء بحجة مساهمتهم في معالجة مقاتلي المعارضة، وتعرض بعضهم للخطف من قبل جهات مجهولة مقابل طلب فدية للإفراج عنهم.

كما أدى استخدام سيارات الإسعاف لتنقل المقاتلين من قبل جميع الأطراف، إلى تعرض الكوادر الطبية للخطر، بحيث أصبحت سيارات الإسعاف هدفاً للأعمال الحربية، ما أدى لتضرّر 78% من سيارات الإسعاف في سورية، كما في حلب حيث أفاد بعض الناشطين أنه لم يتبق بمدينة حلب الآن سوى 4 سيارات إسعاف فقط.

وبعد أن كانت سورية تؤمن 90% من حاجتها للدواء من خلال الإنتاج المحلي، تراجع الإنتاج الدوائي بشكل حاد بعد توقف معظم معامل الأدوية المتركزة بشكل أساسي في دمشق وريفها وحمص وحلب، أي في أكثر المناطق التي شهدت عمليات عسكرية عنيفة، ما أدى إلى فقدان أصناف متنوعة من الأدوية، وبلغت نسبة فقدانها من الأسواق ما يقارب 50%، فانتشرت أنواع مهربة من الأدوية مجهولة المصدر، وفي حالات كثيرة بيعت الأدوية الوطنية على أنها أدوية أجنبية من قبل سماسرة الأزمات بأضعاف سعرها الحقيقي.

ونتيجة لهذا الواقع الكارثي الذي يواجه قطاع الصحة، حذرت منظمة الصحة العالمية من تفشي أمراض التهاب الكبد والتيفوئيد والكوليرا واللشمانيا وغيرها من الأمراض خلال هذا الصيف بسبب انعدام الشروط الصحية، نظراً لتراكم الجثث في الشوارع والأزقة، وتلوث مصادر المياه، وتراكم القمامة والنفايات في الطرقات، وظهور العديد من الحشرات السامة الناقلة للأمراض، وهذا ما سيقود الى كارثة صحية حقيقية في ظل نقص العلاج المخصص لهذه الأمراض بل وانعدامه تماماً في مناطق كثيرة. من ناحية أخرى، فقد أدّى دمار عدد كبير من المدارس، وعدم قدرة الأطفال على ارتيادها بعد نزوحهم القسري من مناطقهم، إلى حرمانهم من اللقاحات المخصصة لهم والتي كانت تعطى خلال العام الدراسي في المدارس الحكومية، ما يشكل خطراً كبيراً على سلامة نمو الأطفال الذين يحتاجون لقاحات أساسية ضد الأمراض السارية والمعدية.

هكذا، فانه إذا كانت الحرب الدائرة في البلاد قد تسببت بشكل مباشر بمقتل ما يزيد عن مئة ألف سوري حتى الآن، فإنها ستتسبب بمقتل مئات الآلاف بشكل غير مباشر كنتيجة حتمية للأضرار التي خلفتها بقطاع الصحة، وستهدّد بالتالي مستقبل الأجيال المقبلة التي لن تسلم من آثار التلوث وانتشار الأوبئة والأمراض.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى