صفحات العالم

سوريا: مطلوب موقف مصري- خليجي


د. خالد الحروب

لم يعد بالإمكان قبول أي مسوغ للصمت العربي إزاء ما يحدث من جرائم يرتكبها النظام في سوريا وأجهزته الأمنية ضد المواطنين العزل في المدن والحواضر السورية. ما قتلته تلك الأجهزة تجاوز بكثير ما قتلته إسرائيل في حربها المجنونة ضد قطاع غزة في أواخر عام 2008. والصمت العربي يوفر المبرر للشلل الدولي الذي لا زال يسم أي موقف أو تحرك تجاه المجزرة اليومية التي يشهدها العالم في سوريا. كما أن الموقف المتخاذل الذي تتخذه روسيا والصين يتذرع بالموقف العربي، ويقول إنه لا يمكن أن نكون حريصين على الشعب السوري أكثر من العرب أنفسهم. والموقف الأوروبي الذي يحاول أن يتطور باتجاه موقف أبعد عن التردد المُعتاد يواجه نفس المعضلة. وفي الجوار الشرق أوسطي، العرب يراقبون تركيا وخطواتها وحركاتها وتصريحات قادتها حول الشأن السوري ويتصرفون وكأن ما يحدث لا علاقة لهم به ولا يؤثر عليهم من قريب أو بعيد. وخلاصة ذلك كله هي الانتهاء إلى مشهد مأساوي يُترك فيه الشعب السوري لرحمة المواقف والتدخلات الغربية وخاصة الأميركية.

وعندما يتخاذل العرب عن نصرة الشعب السوري في مواجهة نظام لا يتردد في ارتكاب أبشع المجازر ضده وفي دك مدنه العزلاء بالدبابات التي لم تعرف طريق الجولان منذ أربعين سنة يصبح الحل الوحيد هو التدخل الخارجي. ولا يريد أي عاقل أن تصل الأمور في أي بلد عربي لمرحلة التدخل الخارجي الذي له سمعة وتاريخ سيئ في المنطقة ماضيّاً وحاضراً. وما يتمناه كل محب لسوريا ولكل وطن من الأوطان العربية أن تتحرر من الطغيان والقمع والديكتاتورية على أيدي أبنائها فقط، كما حدث في تونس ومصر. ولكن ماذا يمكن للشعوب أن تعمل بعد أن تثور سلميّاً لشهور مديدة وتقدم زهرات شبابها وفتيانها على مذبح الحرية في وجه أنظمة تعلن أنها مستعدة لإبادة مدن وتدميرها على رؤوس ساكنيها، ولا ترعوي عن استخدام كل أنواع الأسلحة لطحن شعوبها، كما في ليبيا وسوريا واليمن؟ أين هو الحل السحري الذي يمكن أن يُقدم لهذه الشعوب لفك المعادلة المستحيلة التي تفرضها الأنظمة الباطشة عندما تتعامل مع سلمية الثورات بوحشية وشراسة تفوق التوقع بل والخيال. من كان يدور في خياله مثلاً أن النظام في سوريا سيقدم على قصف حماة مرة ثانية بالدبابات بعد جريمته التاريخية والشهيرة في أوائل الثمانينيات حين أباد عشرات الألوف من أبنائها؟ كيف يمكن التعامل مع أنظمة تحولت إلى نهب مقدرات البلدان وثرواتها واستعباد الناس.

إن المعادلة المستحيلة التي واجهها الشعب الليبي عندما أعلن القذافي حرب الإبادة عليه هي ذاتها التي يواجهها الشعب السوري اليوم: إما الاستسلام للإبادة وإما التدخل الخارجي. والذين يتوترون من فكرة التدخل الخارجي موقفهم وتوترهم مشروع، ولكن أين هو البديل الذي يمكن أن تحتمي به الشعوب من نار ديكتاتورييها وقمعهم؟ النار التي أحرقت الليبيين فيما الكل يراقبهم قبل صدور قرار مجلس الأمن الذي كان يسابق قوات القذافي المتقدمة إلى بنغازي مستهدفة إراقة دماء أهلها بيتاً بيتاً وزنقة زنقة. ألم يكن غريباً ومدهشاً ومحزناً ومؤلماً ومريراً في آن معاً أن تجأر حناجر مئات الألوف في ميدان بنغازي بالدعاء وهم يراقبون شاشات التلفزة الكبيرة تنقل مداولات التصويت على قرار التدخل الغربي لأن يكون التصويت لصالح ذلك التدخل؟ ولكن من يمكنه أن يلوم الليبيين وقد انسدت السبل أمامهم؟ ومن يمكنه أن يلوم السوريين اليوم وكل الطرق تنقطع بهم، وأهمها طريق إخوانهم العرب؟

حتى لا يترك السوريون يواجهون معادلة مستحيلة أخرى، حيث النظام الوحشي من أمامهم والتدخل الخارجي من ورائهم لم يبق إلا فرصة أخيرة تتمثل في موقف مصري خليجي مشترك ضد بطش النظام. صحيح أن مصر تواجه مشكلات من العيار الثقيل داخليّاً، ولكن هذا لا ينبغي أن يبقيها على الهامش في السياسة الإقليمية وفي التقدم نحو مواقع القيادة في المنطقة. كما أن توجيه النظر إلى مجلس التعاون الخليجي مرده إلى أن النظام العربي متهالك اليوم وليس فيه كتلة شبه متماسكة إلا الكتلة الخليجية. وكما كان الموقف الخليجي هو المساعد الأساسي للشعب الليبي الذي أفسح المجال لقرار مجلس الأمن بالتدخل، فإن موقفاً خليجيّاً (ومصريّاً) مشابهاً بات مطلوباً اليوم إزاء سوريا. وقد يقول قائل هنا إن مثل هذا الموقف لن يكون سوى غطاء لتمرير التدخل الخارجي الغربي، ولكن هذا القول لا يتعدى السجال الذي لا معنى له في وقت يواجه فيه السوريون آلة بطش النظام يوميّاً ويسقط منهم العشرات كل أسبوع.

والمهم هنا أن يتبلور موقف عربي يقدم للسوريين يد العون ويثبت لهم أنهم ليسوا وحيدين وأن مصيرهم ليس متروكاً بالكلية لكل الأطراف غير العربية: من واشنطن، إلى بروكسل، إلى موسكو، وبكين، وصولًا إلى طهران وأنقرة. ويفيد مثل هذا الموقف في احتلال مساحة من الفراغ القيادي القاتل الذي تعاني منه المنطقة في ظل غياب الدول العربية وهو فراغ يغري الآخرين وفي مقدمتهم إيران وتركيا، وحتى إسرائيل لملئه والتحرك فيه بكل حرية ووفقاً لمصلحة كل منها. وعلى دول الخليج ومصر أن تعي أن المنطقة في طور حراك دراماتيكي حاد وتتشكل بسرعة كبيرة وأن مصلحتها والمصلحة العربية تحتم عليها ألا تقف موقف المتفرج من الأحداث الكبرى التي تتسارع في المنطقة وعلى رأسها الحدث السوري الراهن.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى