صفحات سوريةناهد بدوية

سوريا والتصحر السياسي

 


ناهد بدوية

دعوة للتشكل

سورية تشهد فراغا سياسيا مريعا حتى تبدو سوريا اليوم وكأنها صحراء لم تعرف السياسة يوما وكأنها لم تعرف يوما وجود أحزاب وقوى ووزارات ومؤسسات دولة وبرلمان ونقابات وجيش.

زحف التصحر السياسي السوري باطراد نتيجة التحطيم المستمر من قبل أجهزة الأمن لكل حالة انتظام سواء كان ذلك في الدولة أم خارجها حتى لم يبق في سورية من جهة سوى الجهة التي تقوم بهذه المهمة منذ عقود. وأساس هذه المهمة هو تحطيم الفرد الحر الكريم ذو الميل الطبيعي للانتظام في مؤسسة أو جماعة يختارها هو بحرية.

كثيرا ماتم تداول فكرة أن النظام نزع السياسة من المجتمع اي القضاء على العمل السياسي بين الناس بتحطيمه للأحزاب وحظر العمل السياسي. لكن الذي حصل فعلا هو نزع المؤسسات وحظرالعمل المؤسسي في المجتمع والدولة معا، الذي حصل فعليا هو تحطيم المؤسسات الناظمة للمجتمع والدولة معا فسورية ليست محرومة من العمل الحزبي والمدني فحسب بل هي محرومة من كافة أشكال المؤسسات ففي سورية لا يوجد مؤسسة قضائية ولا اقتصادية ولابرلمان ولا وزارات ولا نقابات ولا جيش يوجد هياكل مؤسسات بدون وجود فعلي، فوجود المؤسسات الفعلي يكون بوجود الأفراد الأحرار الذين لايخشون شيئا ولا سلطة عليهم سوى سلطة القانون ومرجعيتهم هي فقط ضميرهم و النظام الداخلي للمؤسسة التي يعمل بها. على عكس الواقع في سورية حيث الأجهزة الأمنية هي مرجعية كافة المؤسسات وذلك ماينفي وجودها نفسه. ولذلك ليس أمرا مفاجئا أن لا نشهد طرفا فاعلا الآن في أحداث سورية سوى الأجهزة الأمنية. في مواجهة الانتفاضة الشعبية.

الشعب السوري قاوم هذا التحطيم على مدى خمسين سنة، شكل أحزابه السياسية المتنوعة وبكافة ألوان الطيف السياسي وناضل وتعرض للسجون والملاحقة والتعذيب والنفي والتحطيم لأن حلم الحرية والكرامة والفرد الذي ينبع رأيه من ارادته الحرة كان من أكبر المحرمات.

كنا، من خلال عملنا السياسي المعارض نناضل ونبتكر الخطط من أجل الوصول إلى الناس واقناعهم بجدوى الاهتمام بالشأن العام وبضرورة أن يصنع البشر حياتهم بأيديهم. نحاول اقناعهم بأن هذه البلاد لنا وأنه من حقنا أن يكون رأينا الخاص ودورنا الخاص بأن نتشارك جميعا في البناء والادارة والثروة وكنا ننجح أحيانا ونفشل في أحيان كثيرة.

لكن الأفراد في سورية بدأوا بالتكون والتمايز بأعداد هائلة منذ عشر سنوات فقط، منذ بدأت امكانية الخروج من بيئة تفتيت الفردية بدون الخروج من البلد، بدأت مع أول امكانية اختيار لمصدر المعلومات أي منذ عصر الفضائيات عندما دخلت أنماط الحياة المختلفة الى المنازل رغم أنف التربية الغبارية، (أي تحويل البشر الى غبار غير منتظم). وساهم في ذلك أن تطور التكنولوجيا سار في الاتجاه الشخصي والفردي تحديدا، فالهاتف الخليوي والكمبيوتر والكاميرا هي عبارة عن وسائل فردية بحتة والموسيقى والفيديو ودروس اللغة متوفرة على فلاشة صغيرة تسمح للشباب بخلق بيئتهم الخاصة والفردية بعيدا عن سطوة الأسرة والمدرسة والسلطة، تكونت فرديتهم رغم أنف القمع السياسي والمجتمعي. إذن نستطيع القول بأن التصحر لم يعد ملائما لعصريتهم.

اليوم نزل الجيل الجديد الى الشارع كي يطالب بحقه في الحرية والعيش الكريم، نزل الشباب الى الشارع كي يكون لهم صوتهم الخاص بهم ومن ثم يطالبون بمؤسساتهم التي ينتظمون بها ويمارسون بها واجباتهم وتصون لهم حقوقهم وتعبر عن حداثتهم. تلك الحداثة المرعبة للأجهزة الأمنية الديناصورية والتي أصبح من ألد أعدائها كلمة حرية موبايل ولاب توب وفيس بوك وتويتر والفضائيات. وهذا مايؤكده كل التحقيقات مع الشباب في المعتقل والتي تتركز على هذه المفردات.

وهكذا يتدفق اليوم الناس دفعة واحدة الى حلمنا وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ سورية، فأين نحن؟ أين الحركة السياسية المعارضة؟

اليوم نعيش لحظة لم نكن نحلم بأننا الزمن سوف يكرمنا بأن نشهد لحظة مواتية لنا كهذه اللحظة، فماذا نفعل الآن؟

أجزم أن حلمنا مازال طازجا ولكني أجزم أيضا أننا نجلس في زاوية الحلم نحاول استطلاع الأحداث المتسارعة وأجزم بأن عيوننا، وإن كانت تعلوها غباشة القمع التاريخي، تذرف دموع الفرح بما يحصل. لكن أكتافنا تنوء بثقل خلافات الزمن الرديء وعقولنا تحتاج قليلا من التجاوز للقديم.

كما أجزم أن الكثير من الأفراد منا يعمل الآن من أجل الثورة ولكن هذا لا يكفي في زمن الثورات، أجزم أن المئات من الأفراد من الحركة السياسة التاريخية هم الآن خارج الهياكل التنظيمية للأحزاب الحالية بسبب التشتيت المستمر الذي فعله قمع السلطة والذي منع كافة أحزاب المعارضة من التقاط انفاسها من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة هذه الهياكل السياسية الباقية على استيعاب المتغيرات التي تسارعت منذ بداية عقد التسعينات. وأجزم أن هذا الجسم الكبير من الحركة السياسية الموجود خارج كافة الهياكل التنظيمية الحالية، يتململ الآن ويبحث عن أي شكل من أشكال التعبير والتشكل.

انه زمن اعادة التشكل واعادة التجمع واعادة التوافق واعادة النظر بتفرقنا وخلافاتنا التي تنتمي لزمن آخر.

فهل نستطيع إعادة التشكل والتجمع والتوافق؟ هل نستطيع أن نكون كما يليق بنا وبأحلامنا وتاريخنا وشعبنا وسوريتنا؟.

فهل نستطيع أعادة التشكل والتجمع والتوافق؟ لا لنكون بديلا عن الجديد الذي يولد الآن في قلب الحركة بل لنسمع صوتنا المنحاز للحركة وكي يكون هادرا بدلا من الأصوات المتفرقة التي عادة ماتضيع في ضجيج الحدث التاريخي الكبير.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى