صفحات العالم

سوريا والحياد الفلسطيني المستحيل


نبيل عمرو

منذ بداية الأحداث في سوريا، وإلى أجل غير مسمى، قتل فلسطينيون كثر في معظم المناطق السورية، ولا ضمانة في ألا يقتل آخرون.

وكلما ارتفع منسوب الدم الفلسطيني، سمعنا عبارات محددة لا تتغير في وصف ما حدث، وطريقة استهجانه واستنكاره. والعبارة الأكثر استخداما هي أن الفلسطينيين ضيوف على الشعب السوري وأنهم محايدون فيما يجري. وقد نتفهم دوافع هذه العبارة حين تصدر عن سفير أو وزير أو رئيس.. فهي من العبارات الدبلوماسية التي يراد من قولها عدم القطع مع النظام المتورط في حرب داخلية شرسة، وعدم المشاركة الطوعية في حمل وزر الدم السوري من أي جسد نزف.

غير أن واقع الوجود الفلسطيني وتاريخه وكيفية انتشاره وتغلغله في الجغرافيا السورية والمجتمع السوري، تجعل من وصف الفلسطينيين في سوريا بالضيوف أمرا غير واقعي، بل ينطوي على تبسيط مبالغ فيه، وتوصيف بعيد عن الحقيقة والواقع.

فالفلسطينيون في سوريا، يؤرخ لمخيماتهم تحديدا منذ عام 1948، ناهيك بالوجود الملحوظ قبل ذلك بحكم الوحدة الجغرافية لبلاد الشام التي تشكل فلسطين جزءا عضويا منها.

الفلسطينيون والحالة هذه، كفوا عن أن يكونوا ضيوفا بالمعنى الشعبي المتداول.. فلا ضيف يبقى ضيفا قرابة ثلاثة أرباع القرن، وخصوصا حين يتمتع بالكثير من الحقوق التي يتمتع بها المضيف، وسوريا من أفضل المجتمعات التي أحسنت معاملة الفلسطينيين إلى حد الاندماج الفعلي.

وإذا ما نظرت لتوزيع المخيمات على الجغرافيا السورية، فإنك تجدها منتشرة في كل أرجاء الوطن السوري، من أقصى الشمال على حدود تركيا إلى أقصى الجنوب، وإذا كانت دمشق هي الوسط كونها العاصمة، ومن العواصم التاريخية للسوريين والعرب، فإن الوجود الفلسطيني في دمشق وحولها هو من الكثافة والتداخل مع السوريين بمختلف طوائفهم يجعل من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – فرز الفلسطيني عن السوري. ولأنني عشت بعضا من سني حياتي في دمشق وفي مخيم اليرموك، وذلك كان منذ أربعين سنة، فإن من عرفتهم من جيران في ذلك المخيم الشهير من الدروز والعلويين الهاربين من غلاء المدن والعواصم، كانوا يزيدون على عدد الفلسطينيين. وأستطيع الاستنتاج بعد أربعين سنة، بأن المخيم وجيرانه السوريين قد ابتلعوا بعضهم بعضا، وصاروا وحدة سكانية لا مجال للتفريق بين مكوناتها.

ولأن من حق الفلسطينيين ودون قيود تذكر التملك والسكن والعمل في أي مكان بما في ذلك الجيش وأجهزة الأمن والدوائر الحكومية، فإن التجار الفلسطينيين في المدن الكبرى ومنهم الموظفون والعاملون في مجالات القطاع الخاص، والأشغال الحرة شاطروا سكان المدن حياتهم اليومية وتوسعوا في القرى المحيطة، بعد أن أصبح الحصول على متر مربع من الأرض في دمشق من رابع المستحيلات بسبب الغلاء الفاحش.

غير أن وضع الفلسطينيين في سوريا تطور كثيرا على صعيد المشاركة في السلطة وحتى القيادة والزعامة، وذلك ازداد منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في زمن صلاح جديد، وبعده زمن حافظ الأسد وبشار، ففي هذه الحقبة الطويلة أي منذ بدايات الستينات، شارك البعثيون الفلسطينيون بفاعلية في أجهزة ومؤسسات النظام من خلال الانتماء الحزبي، كما شارك بعضهم أو جلهم في الصراع على السلطة، حد التورط في انقلابات عسكرية. فحين انقض حافظ الأسد على رفاقه وكان رمزهم آنذاك اللواء صلاح جديد، وقام بتصفية وجودهم في السلطة بالاغتيال أو الاعتقال طويل الأمد، كان الحزبيون الفلسطينيون قد انقسموا وتورطوا في النزاع على جانبي الصراع، وقام كثيرون منهم بذات المهام التي قام بها زملاؤهم السوريون والعراقيون والعرب، بما في ذلك تصفية خصوم النظام على الأراضي السورية واللبنانية وأي مكان آخر متاح.

وحتى في زمن منظمة التحرير والفصائل اختار جزء من الفلسطينيين سوريا ليس كمجرد ملاذ قسري وإنما كانتماء تحالفي، يؤدون منه الولاء الفعلي للسلطة القائمة في سوريا، ويتخذون المواقف الحرفية للنظام بحماس يكون غالبا أكثر حرارة من حماسة العلويين الموالين أو البعثيين السوريين.

ومن خلال السيطرة السورية طويلة الأمد على لبنان، دخل الفلسطينيون جميعا دائرة الصراع الساخن على مساحة لبنان كله وامتدادات الوجود الفلسطيني حتى في سوريا ذاتها فغصت السجون السورية بالفلسطينيين من الاتجاه الإسلامي والفتحاوي، ودارت حروب على أرض لبنان كان الجيش السوري ومن ضمنه حلفاؤه الفلسطينيون واللبنانيون على جانب، وقوات الثورة الفلسطينية وحلفاؤها من القوى الوطنية اللبنانية على الجانب الآخر.

ذلك هو واقع الحالة الفلسطينية على الجغرافيا السورية وامتدادها اللبناني وهو واقع يستحيل النجاح في أمر تجنيب الفلسطينيين السنة النار المشتعلة في سوريا، تماما مثلما كان مستحيلا في الماضي تمرير مصطلح ضيوف على لبنان أو أن لبنان وسوريا ممر وليس مستقرا.. إن هذا المصطلح فيه جزء واقعي وهو أن الفلسطيني يرغب من أعماقه في أن يعود إلى وطنه ويحمل هويته ويستظل بخيراته ويستمد كرامته من مواطنته فيه، وفي ذات الوقت فيه أمر واقعي مختلف، وهو أن الفلسطيني الذي يوجد على أرض ما وضمن مجتمع ما مدة خمس وسبعين سنة ويرى حلم العودة إلى الوطن الأصلي محفوفا بالصعوبات، فإنه لا يملك موضوعيا إلا ترتيب أوضاعه في المنفى، والاندماج قدر الإمكان. والاندماج لا يستثنى السياسة هنا ولا حتى التورط الموضوعي – أرادوا أم لم يريدوا – حتى في الحروب الداخلية.

إن نصف مليون فلسطيني يعيشون على أرض سوريا، من خلال هجرات متعددة قسرية أو من خلال استسهال الحياة طوعيا في ذلك البلد، واتصال هذا المجمع الكبير بمجمع مماثل في لبنان، يجعل من الحياد الفلسطيني أمرا مستحيلا حتى لو رغبنا بشدة في ذلك.

أخيرا.. إن مصير الفلسطينيين في سوريا مرتبط تماما بمصير السوريين، ونسأل الله أن يكون المستقبل مشرقا لكل من يقيم على أرض هذا البلد العربي المهم.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى