صفحات العالم

سوريا والعصابة المسلحة


علي إبراهيم

عندما يعقب مسؤول في السفارة الأميركية في دمشق لـ«بي بي سي» على اتهامات الحكومة السورية لعصابات مسلحة بأنها وراء الانتفاضة التي تشهدها البلاد حاليا بقوله: «توجد عصابة مسلحة واحدة في سوريا اسمها الحكومة السورية تنهب مدنها وتزرع الرعب في قلوب الكثير من الناس الذين خرجوا للتظاهر سلميا»، فإن ذلك لا يعكس فقط درجة الإحباط الدولي من الروايات الرسمية التي تسوقها دمشق لتبرير القمع ضد شعبها، وإصرارها على مواصلة هذا الطريق الدموي، غير عابئة بأي شيء آخر، ولكنه أيضا إشارة إلى بدء انقطاع الخيط الذي ترك للنظام هناك من أجل محاولة الإصلاح.

هذا الإحباط عكسه أيضا موقف الحكومة التركية التي كانت أبرز أصدقاء نظام الأسد، وما زالت تحافظ على شعرة معاوية معه بقولها: إن عمليات القمع الدموية تلقي بالشك على تصميم وصدق الحكومة السورية في حل المسألة بالوسائل السلمية، وحتى روسيا، التي ما زالت تعرقل مع الصين مشروع قرار في مجلس الأمن، بدأت تلمح إلى تغيير موقفها، وحتى الدول العربية بدأ يظهر بينها تململ وتلميحات بعدم قدرتها على مواصلة الصمت.

على مدار شهور الانتفاضة السورية الخمسة، تعددت الروايات الرسمية السورية في تبرير القمع واقتحام المدن؛ من مؤامرات خارجية، إلى متطرفين وعملاء، لكن كان القاسم المشترك هو أن هناك عصابات مسلحة هي التي تقوم بإطلاق النار وتقتل رجال الأمن، ولذلك ترسل قوات موالية من الجيش لقمعها.

وكان النظام يحتاج إلى هذه الرواية من أجل تبرير إطلاق النار على المتظاهرين الذين حرصوا حتى الآن على استخدام الوسائل السلمية فقط في التعبير عن رغبتهم في الحرية وتغيير النظام والدستور، وهي كلها مطالب مشروعة، وكان أقصى ما حملوه – كما تشير شرائط الفيديو والصور التي تأتي عبر النشطاء – هو العصي، في بعض الأحيان، وواجه بعضهم الدبابات بصدور عارية، وكسب هؤلاء معركة الإعلام، بينما تهاوت نظريات النظام واحدة بعد أخرى، لأنها من الأصل ليس فيها أي منطق أو تفكير سياسي حكيم.

وجاء الهجوم الدموي الأخير المتواصل على حماه، التي كانت مدينة شبه محررة على مدار أسابيع تخرج فيها كل يوم جمعة مظاهرة نصف مليونية، ليزيد الحيرة في الطريقة التي يفكر بها النظام. والتساؤل: هل هناك أحد في الحكم مقتنع حقيقة بأنه يمكن البقاء في السلطة على الجماجم والدماء؟ وإذا كان ما يقال في الخطابات والمؤتمرات عن وعود بالإصلاح وإنشاء أحزاب وانتخابات إلى آخره حقيقيا، فلماذا تستمر هذه الحملة الوحشية غير العابئة بأي شيء آخر؟

لا يوجد تفسير لذلك سوى أن الذين في يدهم مفاتيح القرار يخوضون معركة بقاء دموية تتسم بقصر نظر شديد، وأنهم لم يكونوا جادين من الأصل في الحديث عن الإصلاح، والاستجابة إلى رغبات الناس في الحرية والعدالة الاجتماعية، لسبب بسيط هو أن الاستجابة لهذه المطالب تعني في النهاية سقوط النظام، أو على الأقل انقلاب طرف فيه على الآخرين من أجل تحقيق المطالب، وعلى رأسها المادة الدستورية الخاصة بسيطرة حزب البعث على الدولة.

هي حسبة مصالح ومعركة بقاء بالنسبة للممسكين بمقاليد السلطة، فالإصلاح الحقيقي يعني فتح الباب لقوى أخرى في المجتمع للمنافسة سلميا على السلطة، ودخول نوعيات جديدة من الممثلين السياسيين القادمين بشرعية حقيقية. وهم حتى لو قبلوا بالإصلاح في إطار النظام سيبدأون في المحاسبة والمساءلة، وبالطبع فإنه لو فتح هذا الباب فسيطال رموزا أساسية في النظام.

نعم هي معركة مصالح في الأساس، لكنها أيضا معركة يائسة نهايتها الخسارة بالنسبة للنظام. فمهما بلغت درجة البطش والقمع والخوف، فلا أحد يستطيع أن يحكم من دون أن يكون هناك حد أدنى من القبول الشعبي، واستمرار القمع والقتل أشبه بالغوص أكثر فأكثر في الوحل حتى يغمر الرأس نفسه.

الشراع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى