صفحات العالم

سوريا والمحور الخليجي- التركي


عبدالله بن بجاد العتيبي

الرئيس الأسد غارقٌ حتى أذنيه في مواجهة شعبه، وحين يقارن نفسه برؤساء عربٍ آخرين يتأمل فيجد أنّه ليس مثل زين العابدين مستعدٌ للهرب سريعاً. وليس مثل مبارك الذي أصرّ على الاتكاء على تاريخه وعسكريته ورفض أمرين: الخروج من بلاده أو تسليط الجيش على الشعب. وهو ليس مثل صالح يسمح بالمظاهرات ويقابلها بمثلها. ولكنّه أقرب ما يكون للقذّافي حيث سلّط القوّات العسكرية بكامل عتادها على شعبه، مع فارقٍ بينهما، أنّ القذّافي لا يملك ملجأً آمناً خارج بلده في حين يرى “الأسد” إيران فاتحةً ذراعيها حين يجدّ الجدّ، فلا يجد عن الرحيل بديلاً.

بعد خمسة أشهرٍ على الانتفاضة الشعبية السورية وإلى الأسبوع الماضي كان الرئيس السوري يرى أنّ باستطاعته تسليط الجيش على الشعب دون أن يتحرّك أحد، فامتلأ عقله بهذا الطريق السهل، فلا العرب احتجّوا، ولا الغرب تحرّك، ولا حلفاؤه حيث الصين وروسيا وإيران –بالطبع- تغيّروا، ومن هنا كان الطبيعي أن يؤثر المسير في ذات الطريق.

لكنّ الوضع تغيّر اليوم، فبعد خطاب الملك عبدالله التاريخي تجاه المجازر والوضع المضطرب في سوريا بدأت كثيرٌ من الدول العربية والجامعة العربية باتخاذ مواقف عملية ضد النظام هناك، من الكويت والبحرين إلى المغرب.

يتجافى الأسد الابن عن المجازر الكبرى التي كان يؤثرها والده، ولكنّه يتبع طريقة البطيء الفعّال، يقتل كل يومٍ عدداً محسوباً، ويفتك كل أسبوعٍ بقريةٍ معينةٍ، ويحاصر كل شهر مدينةً كبرى، ويسعى لغرس الخوف والذعر في بلده من جديد. لكنّ عينيه تعشيان وأذناه تصمان وعقله يتجاهل أن شعبه لم يعد كما ورثه، ولئن مرّت في ساقية العاصي دماء جديدة تردف القديمة، فإن ذات النهر يخلق اليوم أرواحاً جديدةً مصممةً وحاسمةً باتجاه هدفها المعلن وغايتها المرجوّة حيث التغيير الكامل سيّد الأحكام.

الحراك الأميركي تجاه سوريا بطيء وغير فعّالٍ، ويظهر أنّ أميركا تقيس كل خطوةٍ من خطواتها بمقياس الذهب، فهي لا تريد الدخول في تحرّكٍ عسكريٍ يرهق قوّاتها وميزانيتها بعد تجارب العراق وأفغانستان ثم ليبيا التي انسحبت منها، كما أنّها لا تريد أن تتم مواجهة أيٍ من مشاريع قراراتها في مجلس الأمن بفيتو روسي أو صيني، من هنا تستمر في تصعيد لهجتها السياسية ضد النظام دون أن تتخذ قراراتٍ حقيقيةٍ تؤثر في مصيره، ولئن كانت العقوبات الاقتصادية مؤثرةً في الوضع السوري فإن أميركا لا تملك منها الكثير.

أمّا الاتحاد الأوروبي، فيتخذ مواقف أكثر تقدماً تجاه سوريا، وقراره الاقتصادي يؤثر عليها، إلا أنّه لم يزل فاقداً لحماسةٍ مماثلةٍ لما فعله في ليبيا، ومن هنا تظهر تركيا كقائدٍ للحراك الدولي تجاه سوريا، بدعم وتنسيق مع أميركا أولاً والاتحاد الأوروبي تالياً، فمعلوم أن لدى تركيا مشاكل مع الاتحاد الأوروبي كانت أميركا هي الداعم الأكبر لتركيا تجاهها.

عربياً، فإن تركيا الحديثة التي أسسها أتاتورك نأت بنفسها عن الخلافة واتجهت لبناء الدولة الوطنية، التي لم تكن معروفة آنذاك في المنطقة، وقد وصل نظامها المدني بها أن تترك اللغة العربية وحروفها وأن تتجه لاستخدام الحروف اللاتينية في كتابة اللغة التركية في مسعىً طويلٍ وشاقٍ للحاق بركب الغرب المتحضر واجهته شتى أنواع العراقيل.

لقد مرّت تركيا بمراحل في تاريخها الحديث، بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية، ثم أتاتورك وتأسيس الدولة العلمانية، وصولاً لدخول الإسلاميين في النظام السياسي الذي يحميه الدستور والجيش، وحيث قدّم الإسلاميون هناك شتى أنواع التنازلات السياسية لدرجة التحالف العسكري مع إسرائيل، بيد وقلم “أربكان”، الأب الأكبر لإسلاميي تركيا، وصولًا لخلفه أردوغان، وحين سدّت الأبواب الأوروبية في وجه تركيا حاول “أربكان” تحويل ضعفه لقوة حين أسس تحالف مجموعة الثمان التي أراد بها الحضور الأقوى في العالم كلّه والمسلم منه تحديداً.

إنّ ذلك التحالف لم يخلق لتركيا المكانة التي تسعى إليها كلاعبٍ قويٍ في المنطقة، فاتجه التركيز للمنطقة العربية، فها هي تركيا تلامس غالب الملفات السياسية الساخنة في الشرق الأوسط من غزة إلى مصر ومن ليبيا إلى العراق، وبالتأكيد فإن أهم الملفات بالنسبة لها هو الملفّ السوري.

الحدود التركية السورية تعجّ بالكثير من القضايا الحسّاسة، فالعلويون في تركيا يقدرون بعشرة ملايين تقريباً في حين أنهم لا يتجاوزون المليونين في سوريا، وما يجري في سوريا يؤثر عليهم في تركيا، قل مثل هذا في شأن الأكراد الذين يشكل ملفهم الداخلي واحداً من أصعب الملفات السياسية داخل تركيا، وها هم يتحركون سياسياً في سوريا على مرمى حجرٍ من الحدود التركية، واللاجئون السوريون من بطش النظام يملؤون المخيمات التي أقامتها تركيا على الحدود.

تمرّ منطقة الشرق الأوسط باضطرابٍ كبيرٍ سقط فيه نظامان في تونس ومصر، ويعيش بلدان آخران حرباً أهليةً في ليبيا وعنف نظامٍ غير مسبوقٍ في سوريا، ويبقى الاضطراب لاعباً مهماً في دولتين أخريين هما اليمن والبحرين.

لم يكتف الاضطراب بأن ينال من كيان الدول فقط، بل تجاوزه للمحاور والتحالفات، فالمنطقة ما قبل 2011 ولسنواتٍ كانت مسرحاً لتجاذبات محوري الاعتدال والممانعة، الاعتدال الذي كانت تقوده السعودية ودول الخليج مع مصر انثلم أحد أركانه بزوال النظام المصري السابق. والمحور الآخر، يواجه تحدياً خطيراً بانثلامٍ مماثلٍ في النظام السوري، بحيث تتثلم المحاور لتبقى المنطقة مشرعةً على تخلّق محاور وتحالفاتٍ جديدةٍ.

في المحاور الجديدة يتجلى في المشهد الشرق أوسطي محوران يجدر أخذهما بالاعتبار، المحور الأصولي أو محور الإسلام السياسي، ذلك الجامح في مصر، والطامح في سوريا، والمترقب في اليمن، والمحور الآخر يمكن خلقه ورعايته وهو المحور الخليجي- التركي.

بالنسبة للخليج، فإن تركيا دولة مهمة في المنطقة، لها استراتيجيتها ومواقفها وسياساتها التي تحاول النأي بها عن الغرب، خاصةً بعد أن رفعت كفّها من محاولة الانضمام إليه، ولها ثانياً مواقفها السياسية تجاه أحداث المنطقة من مصر وتونس إلى ليبيا واليمن، وبالتأكيد سوريا المتاخمة لحدودها –كما سبق- وهنا يجب أن يثور تساؤل: هل الدور التركي نقيض للدور الخليجي وينبغي لدول الخليج أن تخاف منه؟ أم هو بديل له؟ أم أنّه بالإمكان التنسيق بين الدورين ليتكاملا في محور سياسي جديد؟ مع استحضار علاقة تركيا بالمحور الأصولي وعلاقة المحور الأصولي بإيران.

إنّ الموقف تجاه سوريا قد يكون بدايةً لمثل هذا المحور فالفرصة التي منحها الملك عبدالله في خطابه للنظام السوري واضحة، إما الإصلاح العاجل وإما الفوضى، وذات الفرصة تمنحها تركيا للنظام السوري، عبر تصريحات وزير خارجيتها أوغلو ورئيس وزرائها أردوغان ورئيس جمهوريتها غول، الذي حذر الأسد من الندم ولات ساعة مندم.

يبقى هل نظام الأسد قادر على اجتراح حلٍ جديدٍ أم لا؟

المنطق يقول إن تاريخه لا يسمح له بغير الحل الأمني. وتجربته لا تخبره بغير القتل. وحزبه لا ينصحه بغير العنف. فهل يستطيع النظام هناك أن يتحمل تشكيل حكومةٍ تقودها المعارضة؟ وهل يمكن له أن يتصوّر أن الشعب هو مصدر الشرعية السياسية لا الحزب؟

عبدالله بن بجاد العتيبي

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى