صفحات الرأي

حرب الجبل بوصفها مفتاح السياسة الدرزيّة

 1 من 3

حازم صاغيّة وبيسان الشيخ

حين يُذكر «الشوف الأعلى» يُقصد العمق الداخليّ للدروز. فإذا صحّ اعتبار كسروان عاصمة «الانعزال» المارونيّ، صحّ اعتبار الشوف الأعلى عاصمة «الانعزال» الدرزيّ. فهو، على عكس مدينة عاليه مثلاً، لا يملك تقاليد تجاريّة وإن غزته التجارة في السنوات الماضية، كما أنّه غير معروف بالسياحة والاصطياف واستقبال الوافدين «الأجانب».

وفي بعقلين، أكبر قرى الشوف الأعلى، يتجمّع الكثير من مواصفات منطقتها. فهذه البلدة التي تعدّ قرابة ثلاثين ألفاً، ويقترع فيها أكثر من ستّة آلاف، يشكّل آل حمادة ثلثهم، لا يقيم فيها مسيحيّ واحد على رغم مجاورتها قرى مسيحيّة ربّما كانت دير القمر أهمّها. ويقرأ لنا المدرّس واللغويّ شوقي حمادة من مذكّرات عارف النكدي: «لا أعرف قرية درزيّة في فلسطين ولبنان وسوريّا عرفت الرجالات التي عرفتها قرية بعقلين».

لكنّها بلدة بالغة المحافظة أيضاً. فكثيرون من «الرجالات الذين عرفتْهم» كانوا قضاة مذهب وقضاة شرع يقضون بالأحكام الإسلاميّة تبعاً للمعايير العثمانيّة، وقد ظهر من أبنائها ثلاثة مشايخ عقل من آل حمادة، وكان أحدهم، الشيخ حسن، يزعجه أن يمرّ مسؤول فرنسيّ على المختارة قبل زيارته. وقد برز في بعقلين سياسيّون كبهيج تقيّ الدين وقحطان حمادة والنائب الحاليّ مروان حمادة.

لكنْ في بعقلين، كما في القرى المحيطة بها، بدأت تكثر المصارف والمؤسسات التجاريّة، كما تنشأ الجامعات.

وفي موازاة الهجرة بين الشبّان، تراجع الدخل من الأرض إلى حدود بعيدة، لا سيّما منذ 2005 حين أدّى التوتّر السياسيّ إلى انقطاع جزئيّ عن بيروت أساء إلى تصريف المنتوج الزراعيّ. وزاد في ضمور الريف أنّ علاقات السوق باشرت دخولها منذ أواخر الثمانينات، مع تسوية الطائف، وكان لتحسّن المواصلات دوره المؤكّد في ذلك. والآن، وكما يروي سناء أبو شقرا، الأستاذ الجامعيّ والقياديّ الشيوعيّ السابق، غدت السلع كلها متوافرة في القرى، ونهض نوع من التمديُن المتعدّد الأوجه. فبلدة بقعاتا التي لم يكن فيها إلاّ دكّان واحد ولم يكن يقيم أحد فيها، يسكنها الآن آلاف السكّان الآتين من القرى المحيطة بها، كما تتوزّعها مدارس عدّة ومستشفى وسوق تجاريّة كبرى. والشيء ذاته يصحّ في كفرحيم أو بتلون التي ارتفع عدد سكّانها إلى ثلاثة آلاف.

وعن هذا التمديُن نشأ تحوّل في منظومة القيم. فمن قبل، على ما يروي أبو شقرا، كان شبّان القرية يتجمّعون لمساعدة من يبني منهم بيتاً، أما اليوم فلا يلتقون إلاّ لقاءات عابرةً في المآتم. حتّى السلوى كفّوا عن تلقّيها مجتمعين، إذ صار التلفزيون الذي يقسمهم أفراداً أو عائلات صغرى، مصدر تسلّيهم. لقد غدوا، في هذا، أفراداً لا مجموعات.

والتعليم الذي بدأ يتوسّع نسبيّاً في الخمسينات، ليندفع مع تأسيس ثانوية بعقلين في 1964، جعل من تلك البلدة مركزاً يؤمّه للدراسة خمسة آلاف تلميذ من جوارها. وتحضن بعقلين اليوم فرعين لـ«الجامعة الأميركيّة للثقافة والتعليم» و»الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم». وهنا أيضاً يحتلّ العام 2005 موقعاً مفصليّاً: هكذا يذهب هيثم نمّور، مدير الجامعة الأميركيّة للثقافة والتعليم، إلى أنّ تلك السنة وما عرفته من استقطاب قلّلا النزول إلى بيروت، فازدهرت جامعتهم التي يقصدها أبناء الطبقات الوسطى والدنيا، كما يفوق عدد فتياتها عددَ فتيانها، خصوصاً أنّ الفتيات «الشيخات» لا يدرسن خارج الجبل.

تفكّك العائلات

وترافق التعليم والهجرة ووفادة التجارة مع تفكّك عائلات طالما اشتُهرت بصلابة لحمتها وحصريّتها. ففي بيئة الدروز، وهم أسياد الشكل واللياقة والمراتب، تنضوي العائلات في مراتب ثلاث كانت شبه مغلقة على ذاتها تقليديّاً: فهناك العائلات السبع أوّلاً (إرسلان، جنبلاط، العماد، تلحوق، عبد الملك، النكدي، مزهر) التي جمعت بين ملكيّة الأرض الواسعة وبين السلطة السياسيّة في هذه الفترة أو تلك. ولربّما كان بشير جنبلاط، في القرن التاسع عشر، أبرز من مثّل تلك العائلات بنفوذه الذي نافس نفوذ بشير الشهابيّ وبملكيّاته التي شملت 133 قرية. هذا علماً أنّ معظم تلك العائلات بدأ يفقد نفوذه وسطوته منذ الاستقلال. ثمّ هناك عائلات «رؤوس العاميّة» أو «القصبات» (حمادة، تقيّ الدين، هرموش، القاضي، العقيليّ، العيد، الحلبي، أبو شقرا، عبد الصمد، الأعور، هلال، صعب، مكارم، روضة، طليع، عزّ الدين، علم الدين، خير الدين، أبو علوان، شقير، أبو حمزة، عطاالله وسواهم…)، وهي ذات الملكيّات الزراعية والتي تحتلّ مكاناً وسيطاً بين العائلات السبع وسائر العائلات «العاميّة». وأخيراً، هناك العاميّون.

وقد درجت العائلات على حصر التزاوج في الخانة التي تنتمي إليها، وهذا ما كان الأصعب على العائلات الوسيطة التي لا تتزاوج مع العاميّين، من دون أن يتاح لأبنائها التزاوج مع العائلات السبع. لكنّهم، وقد حصروا زيجاتهم في ما بينهم بما راح يهدّدهم بالانكماش، صاروا يتزاوجون مع مَن هم «دونهم». وإلى تقويض هذا المرتكَز الداخليّ للحياة الدرزيّة، شرعت تتزايد نسب الزواج من خارج الطائفة. وكان أحد أسباب هذا التحوّل دراسة شبّان دروز في بلدان الكتلة السوفياتيّة السابقة واقترانهم بفتيات منها.

بيد أنّ التحوّلات الاقتصاديّة الاجتماعية والتعليميّة لا تنعكس، على ما يبدو، على الحياة السياسيّة للشوف وسائر المناطق الدرزيّة. فوليد جنبلاط يبقى الأوّل هناك ويبقى الأخير، ثابتاً راسخاً كما لو أنّه من طبيعة الأشياء. ولسوف يكون من الصعب الخوض في كلام لا يرد فيه اسم جنبلاط، أكان الموضوع الذي يجري تداوله كبيراً أم عاديّاً بسيطاً.

أمّا السبب وراء صمم السياسة والزعامة عمّا يجري في المجتمع فيردّه سناء أبو شقرا إلى واقع الطوائف وفكرة العدوّ، بحيث «تختفي التناقضات الطبقيّة داخل الطائفة أمام العدوّ الخارجيّ للطائفة».

فالأمن، أمن الطائفة، يأبى أن تتفكّك الزعامة الحامية. ويرى الباحث نائل أبو شقرا أنّ المجتمع الدرزيّ «بسبب من حدّته»، يتّكل على من يراه منقذاً، وحتّى المثقف حين ينصهر في الجماعة يتبنّى خطاب الجماعة. ذاك أنّ الشعور بالانتماء الطائفيّ شعور بالقوّة والاعتزاز.

فكيف وأنّ «البيك»، هناك، أب بطريركيّ قبل أن يكون مستثمراً، الأمر الذي يحاصر التناقضات التي من طبيعة اقتصاديّة بينه وبين جمهوره. فوفق سناء أبو شقرا يوجّه «الإقطاعيّون» في الشوف أنظارهم في الاستثمار صوب مناطق أكثر خصوبة في الساحل، أي أن «الإقطاعيّ» لا يمارس وظائفه الاقتصاديّة على أبناء منطقته المباشرين.

والحال أنّ القصص الشائعة عن توزيع كمـــال جنبلاط أراضــي وقرى على الفلاّحين تزيد في إضعاف الثنائيّة المتداولة عن «الإقطاعيّ» والفلاّح في الشوف نفسه.

هذا، على عمومه، يغذّي ما يعتبره نائل أبو شقرا حبّ الدروز لواحديّة التمثيل التي تمنع الصراع في ما بينهم أو تكبحه. فكأنّما الانقراض أفق التنازع الداخليّ، فيما شرط البقاء استبعاد الخلاف. هكذا، مثلاً، يقول نمّور عن جامعته إنّ «السياسة ممنوعة» فيها، وهو ما بات مستغرباً في الجامعات وطلاّبها المسيّسين. كما يُخبرنا القيّمون على نادي بتلون الذي يعود تأسيسه إلى 1963، والذي نشأت عنه ثانويّة رسميّة هي موضع افتخار سكّان المنطقة، أنّ النادي «حرّم السياسة» منذ نشأته، ولهذا استطاع أن يعيش هذا العمر المديد وأن يزدهر.

تاريخ متحوّل

على أنّ الحال لم تكن هكذا دائماً. فالدروز لم يُعرفوا في السابق بتلك الوحدة التي تُنسب إليهم كما لو أنّهم جسم مغاير دائماً لسائر الأجسام. وفي المعنى نفسه، لم يكن آل جنبلاط زعماءهم التي تفيض زعامتهم عن المراحل التاريخيّة وظروفها المتفاوتة.

فقد تعرّض الدروز لتحوّل كبير تمثّل في انتقالهم من الإمارة إلى المتصرفيّة بعد 1860. ويروي المحامي المولع بالتاريخ سليمان تقيّ الدين أنّهم شهدوا، مع المتصرفية، تشكيل إدارة في جبل لبنان عبّرت عن عشرات العائلات التي نافست نفوذ «الإقطاع»، فتراجعت أُسر أرسلان وجنبلاط وصعدت الأُسر الوسيطة. ثمّ، ووفق تقيّ الدين، نشأت المدرسة الداوديّة التي خرّجت وجوهاً درزيّة جديدة، وقد درست نخبة الدروز، إبّان المتصرفيّة، في مدارس مارونيّة كالحكمة وعينطورة، ومع العهد الاستقلاليّ في الليسيه الفرنسيّة التي أصبحت اليسوعيّة.

قبل ذلك، في فترة الانتداب، انجذبت أكثريّة الدروز إلى ثورة سلطان الأطرش في 1925 وشاركت فيها، ضدّاً على مواقف فؤاد ونظيرة جنبلاط. أكثر من هذا، عرفت بيوت آل جنبلاط أنفسهم نزاعات ومنافسات في ما بينها، وفي عهد المتصرفيّة كانت زعامتهم الأبرز في عهدة جنبلاطيّي صيدا – البراميّة. ثم في الأربعينات، وقبل أن تترسّخ مكانة كمال جنبلاط السياسيّة، كانت الإرسلانيّة المظلّة الدرزيّة الأكبـــر. فكـــمال كان أوّل المتعلّمين في عائلته بيـــنما معظم رموز الإرسلانيين، وفي عدادهم شكيب وعادل، كانوا متعلّمين ومثقّفين. لقد وسّعت الجنبلاطيّة دورها في 1958 بدعم جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب. وبعد عامين رُسم الشوف دائرةً انتخابيّة يتربّع عليها كمال جنبلاط، مثلما رُسمت عاليه دائرة أخرى للأمير مجيد إرسلان.

إلاّ أنّ هذه الثنائيّة لم تختصر التعدّديّة، فبقيت في المتن الجنوبيّ زعامات عائلات الأعور ومزهر وصالحة، وفي راشيّا الداوود والعريان. وإذ بقيت حاصبيّا تابعةً لنفوذ الإرسلانيّين، ظلّ بهيج تقيّ الدين، حليف جنبلاط في الشوف، ممثّلاً لزعامة مستقلّة نسبيّاً.

واستمرّ التفويض الدرزيّ الممنوح لكمال جنبلاط مشروطاً ونسبيّاً. فهو، مثلاً، وعلى ما يذكّرنا تقيّ الدين، افتقر إلى المقاتلين الذين احتاجهم في 1976، سنة صدامه المفتوح مع سوريّة، حيث وقف كثيرون من الدروز مع دمشق.

واحديّة التمثيل والزعامة

فق عادل عبد الصمد، النقابيّ السابق ومؤسّس «المنتدى الأدبيّ» في عمّاطور، بدأ مسار جديد مع مقتل كمال في آذار (مارس) 1977. ذاك أنّ القوّات السوريّة قتلت «شخصيّة عالميّة» هو موضع افتخار الدروز جميعاً، بمن فيهم من لم يؤيّدوا جنبلاط. إلاّ أنّ واحديّة الزعامة ولدت مع حرب الجبل الدرزيّة – المسيحيّة أوائل الثمانينات. فآنذاك شرع يختفي الانقسام اليزبكيّ – الجنبلاطيّ الضارب في الانشطار القيسيّ – اليمنيّ القديم.

والحال أنّ حرب الجبل أتاحت لوليد جنبلاط أن يقتل الأب بالمعنى الفرويديّ للكلمة. فهو عبّأ الدروز جميعاً وحوّلهم كتلة متراصّة سبق للشاعر الزجليّ طليع حمدان أن وصفها في زجليّته «الملحميّة» الشهيرة. وهم، بدورهم، أعطوه ما لم يعطوا لأيّ زعيم بسبب تلك الحرب.

وهذا ما كان له قبلُ وبعد. فقد نشأ الإرهاص المبكر بالوحدة الدرزيّة في 1972، حين توصّل كمال جنبلاط ومجيد إرسلان إلى تشكيل لائحة موحّدة في عاليه. وهذا ما لم يعمّر طويلاً إذ ضربته انقسامات حرب السنتين جاعلةً منه ذكرى قابلة للاستعادة في ما لو توافرت شروطها.

وبالفعل وفّرت حرب الجبل تلك الشروط، خصوصاً وقد ترافقت مع وفاة معظم الزعماء الدروز الآخرين أو هرمهم. بعد ذاك كان كلّ تحوّل يفيض بثماره على وليد جنبلاط. فغياب الدولة يفيده لأسباب واضحة، فيما حضورها، بعد اتّفاق الطائف، وفي ظلّ الرعاية السوريّة التي كان حليفاً لها، يفيده أكثر.

تقنيّات الزعامة، الثابت منها والمتحوّل

 2 من 3

بعدما تناولت حلقة الأمس حرب الجبل بوصفها مفتاح السياسة الدرزيّة، هنا التتمّة:

إذا صحّ أنّ حساسيّة البقاء أقوى الحساسيّات الدرزيّة، صحّ أنّ وليد جنبلاط خير من يمثّل الحساسيّة تلك. فهو سليل العائلة التي تتولّى زعامةَ طائفتها إبّان النزاعات والحروب، على ما كانته الحال في 1860. وهو في سنوات السلم الظاهريّ والبارد، وهي معظم التاريخ اللبنانيّ، السائر الدائم على حدّ السيف، ما يجعله صاحب طريقة في سياسةٍ لبنانيّة لا تحتلّ القيم والمبادئ موقعاً أساسيّاً فيها.

ولئن نجح جنبلاط أخيراً في التحوّل عن 14 آذار من دون أن ينضوي في 8 آذار، نجاحه في الجمع بين مناكفة «حزب الله» وتأييد «المقاومة»، فهو في حرب الجبل تعاون، مثله مثل خصومه الموارنة، مع الإسرائيليّين، إلاّ أنّ تعاونه كان أشدّ تركيزاً وأكثر وظيفيّة وفعاليّة من تعاونهم. وأبعد من هذا أنّه في موازاة تعاونه ذاك، متّن تحالفه العسكريّ والسياسيّ المفتوح مع سوريّة. وفي هذه الغضون غطّى سياساته المناهضة لإسرائيل ولـ «الانعزال الطائفيّ» بلغة تستوحي إسلاميّة جدّه لأمّه شكيب أرسلان، مثلما تستوحي أباه كمال في حقبة «الحركة الوطنيّة». بيد أنّ العين كانت دائماً على التوازنات الفعليّة والدروب الآيلة إلى تحقيق النصر، لا على اللغة التي تغطّيها: «ففي أزمنة الحرب نسمّيه زاباتا، وفي أزمنة السلم نسمّيه سانتا ماريّا»، على ما يقول مثل مكسيكيّ.

من الطائفة إلى الطائفة

ربّما كان ممّا يميّز زعامة وليد جنبلاط عن زعماء لبنانيّين كثيرين، بمن فيهم والده، أنّ تمويهه الواقعَ بالإيديولوجيا طفيف جدّاً. فهنا لا تُستخدم «المقاومة» ولا «الوطنيّة» أو سواهما إلاّ لماماً لمواربة الهدف الطائفيّ الصريح. وهذا ما يسهّل انتقال جنبلاط من موقع إلى آخر بأقلّ قدر من حمولة الأعباء، فيما يقوّي لديه قدرة وظيفيّة على النسيان إذ ليس ثمّة ما تُشحن به الذاكرة أصلاً.

فلقد أنشأ كمال جنبلاط «الحزب التقدميّ الاشتراكيّ» في 1949، ومن بعده «جبهة الأحزاب والقوى» فـ «الحركة الوطنيّة»، في الستينات والسبعينات، لتكبير حجم الطائفة الدرزيّة الصغيرة وتكثيره. إلاّ أنّ وليد لم يُضطرّ إلى هذه المداورة. صحيحٌ أنّ النظام السوريّ كان ليردعه عن مثل هذه الخيارات «الوطنيّة» لو حاولها، غير أنّ توقّعه مثل هذا الردع أعفاه أصلاً، غيرَ آسف، من مهمّة كهذه. ذاك أنّ «الوطنيّة»، بمعناها ذاك، مكلفة جدّاً فيما الوجود السوريّ يُشرف من فوق، و«حزب الله» يقضم من تحت.

بعد ذاك تولّى اغتيال رفيق الحريري تقديم وليد جنبلاط زعيماً عابراً لطائفته، وكان بهذا يسدّ فراغاً قياديّاً لم ينجح سعد الحريري في سدّه. وبدوره كسب زعيم الشوف ودّ البيارتة السنّة الذين كانوا، في الثمانينات، يحقدون على الميليشيات العابثة بالعاصمة، ومنها ميليشيا حزبه، كما كسب ودّ كثيرين من المسيحيّين الذين خاض ضدّهم حرب الجبل. لكنّ 14 آذار تحوّلت، هي الأخرى، عبئاً في 2008، حين غدت الترجمة العنفيّة للانقسام السياسيّ حادّة ومباشرة. وبعدما درج كمال جنبلاط على أن يقدّم مرشّحين للانتخابات في معظم محافظات لبنان ودوائره، ومن مختلف الطوائف، من نجدت هاجر وتوفيق سلطان السنيّين في طرابلس، إلى فريد جبران المسيحيّ في بيروت ومحمّد عبّاس ياغي الشيعيّ في بعلبك، عزف نجله عن هذه العادة التي تشتّت الجهود مركّزاً على الدروز وحدهم. كذلك بعدما كان كمال يزيّن حزبه بقيادات غير درزيّة، كنسيم مجدلاني ومحسن دلّول وعبّاس خلف وتوفيق سلطان، وقبلهم عبد الله العلايلي وكلوفيس مقصود وموريس صقر، باتت قيادات الحزب، اليوم، ذات أكثريّة درزيّة كاسحة.

«بَلاط مفتوح»

لكنّ مهارة وليد هذه لا تختزل سائر مهاراته. فهو، كي يرأب الصدع التقليديّ والعصبيّ بين الدروز الذين خاضوا معاً حرب الجبل، اختار نوّابه من عائلات اليزبكيّين، العريضي وشهيّب وحمادة، المناوئة تقليديّاً للمختارة. لكنّه أيضاً، ومنذ البداية، حرص على ملء «الحصّة» الدرزيّة في الإدارة بكوادر وموظّفين معظمهم يزبكيّ، كما فعل الشيء نفسه في اختياره قيادات حزبه.

وهو لم يقتصد في استثمار ضعف الزعامات التي طرحت نفسها منافساً، وفي الإفادة من تناقضاتها وتعثّر خياراتها. فقد بدأ بقضم الزعامة الإرسلانيّة مستفيداً من عزوف رئيس الجمهوريّة يومذاك أمين الجميل عن احتضان فيصل أرسلان. أمّا أخوه طلال أرسلان فكان ما سهّل الانقضاض عليه أنّه «لم يفهم المزاج الدرزيّ»، وفق عارف بالخريطة السياسيّة للجبل. لقد ماشى السوريّين وحزب الله، ضدّاً على ذاك المزاج، ثمّ إنّ ضعف مواصفاته الشخصيّة جعل «كتف المير طلال لا يقوى على حمل الثقل الإرسلانيّ». ومن ناحيته فجنبلاط المتربّص خبير بأكل الأكتاف.

ولئن بقي وئام وهّاب حالة خارجيّة تفسّرها الخدمات التي يقدّمها له «حزب الله»، لم يحاول أغنياء الدروز الطامحون تحدّي وليد، والشيء نفسه يقال عن الطامحين من المتعلّمين المصابين بإحباط ناجم عن انسداد الآفاق في وجوههم.

ولئن قدّر المحامي سليمان تقيّ الدين المعارضة لزعيم المختارة بثلث الدروز، بقي أنّ هذا الثلث موضع تجاذب بين زعامات صغرى كثيرة في الشويفات وعاليه والمتن الجنوبيّ وحاصبيّا. وتجاذبٌ كهذا يفتّته ويلغيه كفاعل سياسيّ.

ثمّ إنّ وليد جنبلاط، في نَحته زعامته، جدّد طرقاً وأساليب فيها، فيما حافظ على البعض الآخر الموروث عن والده. فهو وسّع نطاق الخدمات التي تُقدّم لأفراد وعائلات ومؤسّسات، إذ أدخل عليها التقديمات النقديّة التي كان الأب المتقشّف يتعالى عليها، والتي لم تكن تنسجم مع حياة درزيّة تميل إلى التعفّف والاقتصاد. وهو، عبر دعمه البلديّات، بات يساهم في مشاريع ويؤمّن مولّدات كهربائيّة للإنارة والريّ، مستفيداً لهذا الغرض من علاقاته مع بلدان الاتّحاد الأوروبيّ والدول المانحة لمشاريع ريفيّة.بطبيعة الحال، بنى وليد على الخدمات الكثيرة التي سبق لكمال أن وفّرها. فالأخير، مثلاً لا حصراً، شغل الوزارات الخدميّة، لا سيّما الأشغال العامّة، في حكومات عدّة، وغالباً ما كانت جبهته النيابيّة تتمثّل بأكثر من وزير واحد. وبفعل علاقاته مع البلدان الاشتراكيّة السابقة، ساهم في تعليم الكثيرين في تلك البلدان.

كذلك ورث النجل عن تقليديّة الأب بعض ممارسات الزعامة التقليديّة، كالحضور الشخصيّ في مناسبات العزاء، وعدم التدخّل في السلطة الأخلاقيّة للمشايخ، علماً أنّها ترتّب أكلافاً باهظة على الحياة الاجتماعيّة للشوفيّين. ففي بعقلين المحافظة لا مكان للسهر مثلاً، ومَن شاء أن يفعل كان عليه النزول إلى بيروت، وربّما إلى دير القمر المسيحيّة المجاورة. أبعد من ذلك أنّ مدارس العرفان الدينيّة تخرّج اليوم، وفق هيثم نمّور، ثلاثة آلاف تلميذ سنويّاً على الأقلّ.

إلاّ أنّ وليد، في المقابل، يرعى ما يسمّيه الناشط والأكاديميّ مكرم رباح «بَلاطاً مفتوحاً» لتعدّدٍ عريض النطاق ولمروحة من الاهتمامات تعثر دائماً على من تخاطبه. وفي السياق هذا يُستخدَم لون من الشبابيّة التي لا تخلو من إثارة المفاجأة. فهناك اكتراثه بالبيئة وهندسة العمارة، بحيث يقول الصناعيّ طارق حسن مفتخراً إنّ «وليد بك يمنع قطع شجرة أو رمي كيس على الطريق». وغالباً ما يشار إلى تشجيعه رؤساء البلديّات التي تُزعّمه عليها على حضّ السكّان كي يبنوا بيوتاً سطوحها من قرميد. وهو، على ما يبدو، يساهم ماليّاً في ذلك.

وفي مواكبة منه لاهتمامات تفيض عن المألوف التقليديّ، يقرأ وليد صحفاً أجنبيّة وينثر أسماء كتّاب وعناوين كتب بين مجالسيه، فضلاً عن استضافة صحافيّين غربيّين أو مصادقتهم. ولا يخلو أمره من استعراض هواياتٍ ليس التعلّق بهذا الغادجيت أو ذاك بعيداً عنها. وبدورها، فإنّ زوجته نورا تضفي على زعامته بُعداً اجتماعيّاً، سياحيّاً وبيروتيّاً، يقوّي حضوره في صالون «البورجوازيّة اللبنانيّة» العابرة الطوائف.

وقد جعل الزعيم الدرزيّ الحزبَ الذي ورثه يستوعب صعود المتعلّمين والطامحين الدروز. وهناك أكثر من وائل أبو فاعور واحدٍ وصل إلى النيابة فالوزارة من موقعه الحزبيّ في الحركة الطلاّبيّة. لقد وسّع الحزب لهؤلاء أكثر كثيراً ممّا فعل كمال حين كان يعهد لغير الدروز بمواقعه القياديّة التجميليّة.

هكذا بات في وسع مُدافعٍ عن وليد جنبلاط أن يراه القوّة «الأكثر تقدّماً» في البيئة الدرزيّة، خصوصاً أنّ الأحزاب التي كانت تنسب التقدّم إليها ضمرت وذوت تباعاً. فالحزبان الشيوعيّ والسوريّ القوميّ الاجتماعيّ اللذان تمتّعا بقوّة لا يستهان بها في الشوف في العقود الماضية، انتهيا على نحو بائس: الأوّل صدّعته الانقسامات الداخليّة الكثيرة، وليس من دون دلالة أنّ أكثريّة الشيوعيّين الدروز انحازوا إلى المعارضات الشيوعيّة وإلى جماعة «اليسار الديموقراطيّ»، مستأنفين الوقوف على أرض قريبة من أرض وليد. أمّا الثاني الذي لطالما اعتدّ بحضور هائل في بعقلين، فانتهى بؤراً متناثرة وقليلة الفعاليّة.

إذا كان من الصعب تجاهل البراعة التي يدير بها وليد جنبلاط زعامته، وتعدّد أعينه التي ترصد شؤونها، فمن الصعب أيضاً عدم الانتباه إلى ثقة بالنفس تلغي كلّ حاجة إلى توكيد الزعامة. ذاك أنّ منطقة الشوف مثلاً تخلو خلوّاً تامّاً من الصور والملصقات والشارات التي تعجّ بها مناطق لبنانيّة أخرى. وعلى مستوى آخر، يحلّ في بيت الطائفة الدرزيّة واثقاً مطمئنّاً حليفه الشيخ نعيم حسن، لا شيخ العقل الآخر، القريب من طلال أرسلان، نصر الدين الغريب. ويتحوّل وليد، على ما بات وصفاً شائعاً في الصحافة، «بيضة قبّان الحياة السياسيّة اللبنانيّة». وهذا التموضع، في الطائفة كما في السياسات الوطنيّة العامّة، يريح الدروز عموماً، سيّما وأنّه لا يحرمهم التعبير عن مشاعر وحساسيّات يؤثر جنبلاط ألاّ يعبّر عنها شخصيّاً.

ومن دون مبالغة يمكن القول إنّ وليد جنبلاط ليس «زعيماً درزيّاً»، بل هو زعيم الدروز العابرين للحدود الوطنيّة. وفي ذلك استفاد من الوضع الملتبس لطائفته في إسرائيل، كما من المصادرة المديدة للزعامات الدرزيّة السوريّة في ظلّ نظام البعث الأمنيّ والعسكريّ.

لكنّ هذا كلّه لا يلغي ظهور انتقادات بالغة الحدّة في بيئة معارضيه. هكذا يقول أحدهم إنّ «ما من أحد يتوظّف في الشوف من دون الذهاب إلى المختارة»، ويضيف أنّ وليد يترك الواجهة الأمنيّة للمخفر والقضاء، إلاّ أنّ المسائل الأساسيّة يحلّها بنفسه. ويحدّثنا آخر عن أنّ «مدرسة عمّاطور لا يُسمح لها بأن تصير ثانويّة بسبب الخوف من التعليم فيها ومن الماضي الحزبيّ لأبنائها». ويتحدّث ثالث عمّا يسمّيه ابتزاز وليد لكلّ مَن ينوي الاستثمار في المنطقة، وهو ما يحصل بالتخويف أو بفرض خوّة باهظة، مشيراً بالاسم إلى بعض ضحايا هذا السلوك. ذاك أنّ وليد «يعطّل كلّ مشروع لا علاقة له به ولا يستطيع، في الوقت عينه، أن يبتزّه».

وإذ يذكّر بعضهم بقصص المال والمحاسبات الماليّة التي ترشح دائماً من أخبار علاقاته بأقطابه ومعاونيه، يشير آخرون إلى أنّه لا يتردّد في تهديد كلّ من قد يفكّر بالترشّح ضدّه أو ضدّ حلفائه. وهو، وفق واحد من نقّاده، لا يحتمل ثانياً له. فهو، مثلاً، لا يريد مروان حمادة نائباً يمارس موقعه الـسـياسيّ في الشـوف، بل يريده حصراً نائباً يمارس نيابته في بـيروت والخارج.

شيعة ومسيحيّون وسوريّون وشيء راسخ من الماضي

3 من 3

بعدما تناولت حلقة الأمس تقنيّات الزعامة، الثابت منها والمتحوّل، هنا التتمّة الأخيرة:

لا تتعادل تماماً السياسات المعلنة لوليد جنبلاط، بما فيها تقلّباته الوظيفيّة، مع المشاعر الدرزيّة التي تترجّح بين الخفاء والإعلان. فأحياناً تذهب هذه المشاعر أبعد ممّا تبلغه تلك السياسات، وأحياناً تتكتّم السياسات على المشاعر تلافياً لحرج قد ينجرّ عنه خطر أو تورّط غير محسوبين.

في الحالة الأولى ينتقد الدروز وليد جنبلاط على حكمته، وفي الحالة الثانية يتصرّف الأب تصرّف الخائف من تهوّر أبنائه أو شجاعتهم. ولأنّ الحكمة والشجاعة صفتان إيجابيّتان، تضيق مجدّداً الهوّة بين الناقد والمنقود فلا يبقى إلاّ تنافر جزئيّ بين طائفة تقدّس الشكل وزعيم لا يعبأ بأيّ شكل. هكذا يلوح، في النهاية، أنّ تواطؤاً داخليّاً عميقاً يحكم العلاقة بين الـ «فوق» الذي يقال والـ «تحت» الذي يُحسّ، وأنّ التكامل هذا هو ما تُكتب له الغلبة في اللحظات الحاسمة.

فمعظم الدروز الشوفيّين الذين تحدّثنا إليهم أجمعوا على أنّ يوم 7 أيّار (مايو) 2008 كان يوماً مفصليّاً في حياة الطائفة وقناعاتها، فيما ربطه بعضهم الأكثر حماسة بالكرامة الدرزيّة. حتّى الشاب الذي عاش طويلاً في الخارج وصار يتكلّم العربيّة بصعوبة، قال إنّه حمل السلاح يومذاك «دفاعاً عن عِرضنا». وقد تركَنا هذا الشابّ الذي يجد كلمة table أسهل نطقاً عليه من كلمة طاولة، على شيء من الحيرة، إذ من أين جاء بمفردة «عِرض» التي يصعب أن يكون لها معادل في اللغات الأوروبيّة؟!

واقع الحال أنّ التباين بين أجيال الدروز، حيال ما يتراءى لهم أمورَ مصير وبقاء، يكاد لا يُلحظ. والراهن أنّ يوم 7 أيّار، حين قاتلوا بالسلاح المتوفّر ومن دون أن يكونوا مدرّبين، دفع الكثيرين من شبّانهم إلى الدين والإيغال في التديّن. وإذا كان سهلاً ربط التديّن بحروب الهويّة والمصير عموماً، بقيت هناك تفاصيل مهمّة لجلاء المشهد هذا. ذاك أنّ المشايخ، لا سيّما في الشويفات، نقطة الاحتكاك الأبرز مع الشيعة و «حزب الله»، بدوا منظّمين مع اندلاع القتال، فشكّلوا لسواهم نموذجاً مرغوباً. لهذا أقدم كثيرون على ترك «ملذّات الحياة» وراحوا «يقرأون في الدين ويذهبون كلّ خميس مساءً إلى الخلوة، فضلاً عن ارتداء الزيّ الخاصّ بالمشايخ».

وثمّة من ذهب أبعد، فحدّثنا عن نشأة عادات مستجدّة على الطقوس الدينيّة بعد 7 أيّار، وأنّ تلك العادات تنحو إلى تقريب الممارسات الدرزيّة من ممارسات الإسلام السنّيّ. ففضلاً عن الارتياح التاريخيّ للسلطنة العثمانيّة، يزكّي الحاضر تلك اللوحة في رسم التحالف والتعاطف الدرزيّين. ذاك أنّ «تيّار المستقبل»، كما وصفه أحدهم، ليس هجوميّاً أو توسّعيّاً. صحيح أنّ المشاكل مع سعد الحريري لم تكفّ عن الظهور، لا سيّما بسبب احتكاك الجسدين السياسيّين في إقليم الخرّوب، المجاور للشوف، إلاّ أنّ تلك تبقى خلافات قابلة لـ «الحوار» وشديدة البعد من أن تتحوّل عنفاً.

«تنظيم المشايخ»

وفي هذا السياق ثمّة كلام كثير يُتداول عن «تنظيم المشايخ» الذي يقال إنّه غامض وذو تمويل غامض، والذي لعب دوراً ملحوظاً في معركة الشويفات. فهو ينتشر هناك في مناطق التماسّ مع الشيعة أكثر ممّا في الشوف. ويغمز البعض من أنّ التنظيم المذكور يحظى بغضّ نظر جنبلاطيّ يراعي المساحات التي يُخليها الزعيم الدرزيّ لرجال الدين «الراديكاليّين» القابلين للاستخدام حين يحين أوان استخدامهم. فوليد لا يسلّح، لكنّ شعاره «خلّوا أعينكم مفتوحة للدفاع عن أنفسكم»، يخلق التباساً مفيداً للجميع. وفي المقابل، فالشيوخ التقليديّون المتحفّظون على وليد لأسباب شتّى، يتعاملون معه باعتباره ضرورة ماسّة للطائفة ولكيانها، خصوصاً أنّه لا يتدخّل في أمور القيم ونوعيّة الحياة، أي السلطة الثقافيّة المتروكة لرجال الدين.

كذلك يتحدّث البعض عن حركة الداعي عمّار بزعامة علاّم نصرالدين الذي قتل في تلك المجابهة مع «حزب الله» ليرثه نجله. لكنّ هؤلاء، على ما يبدو، أقرب إلى جماعة أصوليّة متشدّدة يتحفّظ عليها المشايخ التقليديّون، علماً أنّهم، وفق البعض، يعدّون ما بين 400 و500 نفر.

لقد قتلوا ناصر العيتاوي، أحد القادة العسكريّين لـ «حزب الله» في معركة الشويفات، ثمّ قُتل عدد منهم ليرتسم خطّ كثيف وحادّ للعداء والتباغض. وكان ما عزّز وحدة الاصطفاف الطائفيّ في المواجهة هذه أنّ «حزب الله» اتُّهم، بعد أشهر قليلة على توقّف المعارك، باغتيال صالح العريضي، المسؤول العسكريّ في «الحزب الديموقراطيّ اللبنانيّ» لطلال إرسلان المحسوب حليفاً للحزب الشيعيّ.

والمؤكّد أنّ العداء للشيعة حالة شعبيّة جامعة بين الدروز. فبيع الأراضي لهم، بعد 7 أيّار، صار أقرب إلى محرّم، لا سيّما في الشويفات وجوارها. ومَن يُسأل منهم عن ذلك يحمّل المسؤوليّة الحصريّة إلى «حزب الله» الذي استهدف «مناطقنا»، و«حاول لغرض الهيمنة أن يربط قريتي كيفون والقماطيّة الشيعيّتين في قضاء عاليه».

ومن موقع المراقب يشرح سناء أبو شقرا ما يسمّيه «قلق الدروز من أيّة طائفة مسلّحة»، ولأنّ الشيعة اليوم هم الفائقو التسلّح، بلغ القلق الدرزيّ حيالهم قمّته الأعلى. أمّا سليمان تقيّ الدين فيعترف بأنّ العداء الراهن الدرزيّ – الشيعيّ فاق بأشواط ما كان عليه العداء الدرزيّ – المسيحيّ إبّان حرب الجبل، «وحتّى الدروز المؤيّدون للمقاومة، لأسباب عقائديّة، ليسوا اليوم مع الشيعة».

«الفارس» و «الفلاّح»

إذا كان الشيعيّ عدوّ الحاضر المشرع على المستقبل، فإنّ المسيحيّ عدوّ الماضي الذي يرغب دروز الشوف في أن يطووا صفحة العداء معه. لكنّ التاريخ يحضر هنا حضوراً ثقيلاً، من محنة بشير جنبلاط، إلى إحراق القرى المسيحيّة والتهجير الواسع في 1860، ثمّ تهجير المسيحيّين الصغير في 1958 وتتويجه بقتل النائب نعيم مغبغب، فالتهجير الكبير في حرب الجبل، ناهيك عن المقتلة التي حلّت بالمسيحيّين إثر اغتيال كمال جنبلاط في 1977. وهي صفحات مريرة تستعصي على الطيّ البسيط وتبادل القُبل.

والحال أنّ شعور «الفارس» الدرزيّ حيال «الفلاّح» المارونيّ انطوى دائماً على تعالٍ ممزوج بالحاجة.

ذاك أنّ فائض التباهي عند «الفارس» وجهه الآخر الافتقار إلى التقاليد التجاريّة والسياحيّة التي تُركت لـ «الفلاّح» وحده. وفعلاً تردّت الخدمات نوعيّاً بعد تهجير المسيحيّين من الجبل، بحيث نُسب إلى وليد جنبلاط قوله: «كنّا نريد إضعاف المسيحيّين لكنْ ليس إلى هذا الحدّ». فعودتهم اليوم مطلوبة درزيّاً لأنّها وحدها ما يعيد النجّار والحدّاد وصاحب المطعم والمقهى والفندق إلى تلك القرى والبلدات. وهذا ما قد يفسّر، بين أمور أخرى، الارتياح الدرزيّ الراهن لمواقف سمير جعجع وأقواله، في رمزيّةٍ دالّة حيال واحد من أكثر الذين قاتلوا الدروز في حرب الجبل.

بيد أنّ المسيحيّين لا ينوون العودة، ومن عادوا منهم يتراوحون، في أحسن التقديرات، بين الربع والثلث. ذاك أنّه «ينبغي أن تنشأ في الجبل جاذبيّة اقتصاديّة تشدّهم، وهذا غير قائم»، وفق مكرم رباح. أمّا سناء أبو شقرا فيرى أنّ المسيحيّين لم يرجعوا «بسبب الفارق بين وضع الشابّ المسيحيّ اليوم، وقد تعلّم وهاجر وأثرى، ووضع أبيه وجده. فهو مثلاً لم يعد يسكن البيت الذي سكنه أهله من قبل». وهذا معطوف على أنّه لم يعد يشعر بالطمأنينة لبيئة الجبل بحروبها وأعمال تهجيرها الكثيرة.

سوريّة والسوريّون

ولا يخفي الدرزيّ المتوسّط تأييده الكاسح للثورة السوريّة، وربّما كان المحرّك الأهمّ لهذا التأييد اغتيال النظام السوريّ كمال جنبلاط. وما كان أنكى من الاغتيال، على طائفة فخورة ومُعتدّة، ذاك الاضطرار المديد إلى كتمان الحزن والغضب، وإلى التظاهر، سنة بعد سنة، بمودّة القاتل.

فالشوفيّون وسائر الدروز نظروا إلى مصالحة وليد جنبلاط والنظام السوريّ على أنّها من أجل البقاء، فيما استعاد بعضهم ما نُسب إلى الستّ نظيرة من أنها قالت، حين سئلت عن تقرّبها من الفرنسيّين، «اليد التي لا تقدر عليها قبِّلها وادعِ عليها بالكسر».

ويبدو أنّ تأييدهم الثورة ذهب بعيداً، بحيث تردّدت أخبار عن انتقال عناصر من «الجيش السوريّ الحرّ» واستقرارهم في بعض قرى الشوف بعد هزيمتهم في القصير.

بيد أنّ تأييد الثورة شيء ومسألة العمالة السوريّة «الغريبة» شيء آخر. فـ«العمّال السوريّون الذين كانوا هنا أتوا بعائلاتهم، ففي قرية كعمّاطور مثلاً ارتفع العدد من 30 الى 300، وهكذا باقي القرى». أمّا في بتلون حيث يقيم أيضاً 300 عامل و100 عائلة من السوريّين، فـ «في البداية كان كلّ شيء طبيعيّاً، ثمّ حصلت في البلدة أعمال سرقة وتحرّش ربّما قام بها سوريّون وربّما غير سوريّين. لكنْ من قبيل الاحتياط وحفاظاً عليهم وعلى أشغالهم، منعناهم من مغادرة البيوت بعد الثامنة أو الثامنة والنصف، وهذا معمول به في معظم القرى».

ولا يلبث محدّثنا الذي يعتزّ بموقف وليد جنبلاط من الثورة السوريّة، أن يختم معلناً قلقه «من تكاثرهم»، ومتسائلاً: «كيف ندبّر أمرهم إذا راحوا يتكاثرون؟».

الحياة على إيقاع حربيّ

تلوح حياة الشوفيّين بسيطة على رغم التعرّض للتمديُن وزخم امتداد الرأسماليّة في العقود القليلة الماضية. وأغلب الظنّ أنّ العداوات والحالة شبه الحربيّة المستدامة، وما تستدعيه من لحمة وتضافر، أقوى أثراً من تلك العوامل التي تفتّت الجماعة وتحيلها أفراداً.

«فنحن»، كما قال أحدهم بخليط من جدّ ومزاح، «نقلّد مشايخنا، والمشايخ حين يتبضّعون لبيوتهم يتبضّعون لعام كامل إذ يفترضون أنّ الحياة محفوفة باحتمال الحصار الطويل».

والراهن أنّ الوجدان الجمعيّ الدرزيّ عالق هناك في زمن الجماعة المتّصل. ففي الشوف لا تسمع عن إسهامات في الميادين والأنماط الثقافيّة الأحدث عهداً، ويبدو أنّ النشاط الأبرز هناك هو ما ترعاه المكتبة الوطنية في بعقلين، التابعة بدورها، لوزارة الثقافة.

بيد أنّك تسمع عن متضلّعين في النحو، وعن مؤرّخين شفويّين، وتقرأ إعلانات تجاريّة عن «سهرات زجليّة كبرى». فكأنّنا أمام تمثيل متواصل لـ «التراث»، أو أمام قطعة من الماضي متروكة في قلب الحاضر تستهوي أيّ أنثروبولوجيّ مفتون بالجماعات أو العادات «الغريبة».

والبساطة هذه تغذّيها أزمة اقتصاديّة مستحكمة يتصدّرها تراجع الزراعة. ذاك أنّه «إن لم يحمل موسم الزيتون فهناك من أهل الطلاّب من لا يستطيعون أن يدفعوا أقساط أبنائهم». وهكذا يناط بوظيفة الدولة والتجارة الداخليّة، فضلاً عن تحويلات المهاجرين، أن تعوّض بخل الأرض وشحّة الاكتراث بها.

أمّا السياحة في الشوف، وهي ضعيفة أصلاً، فيكفي القول إنّنا تناولنا الفطور وحدنا في قاعة الطعام الواسعة في فندق المير أمين، وهذا علماً أنّ الفندق المذكور ومهرجان بيت الدين الصيفيّ هما المصدران الوحيدان للدخل السياحيّ في تلك المنطقة.

ويشير غير واحد ممّن التقيناهم إلى ظاهرات تتنامى هناك من نوع تأخّر سنّ الزواج وتراجع نسب الإنجاب. أمّا المديح الوحيد للحياة الاقتصاديّة فأتانا في صيغة سلبيّة، إذ «المصاريف قليلة هنا، على عكس بيروت»، على ما ذكر طارق حسن.

فعلاً، بيروت بعيدة جدّاً من الشوف.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى