صفحات العالم

سوريا وحديث الممانعة

 


إبراهيم حمامي

بعد حادثة الصفعة الشهيرة في تونس وانطلاق شرارة الثورات العربية، وبدء تساقط الطغاة الواحد تلو الآخر في الجمهوريات التي يقودها العسكر، وبعد تذوق الشعوب العربية حلاوة الحرية ونسيمها، وتيقنهم أن إرادة الشعوب أقوى من جبروت الحكام الذين استملكوا البلاد والعباد ظناً منهم أنهم خالدون فيما هم فيه، وصلت نسائم الحرية لأبعد مما تصور البعض، لتزلزل عروشا، وتهز أخرى.

وحيث إن الشعوب العربية تعلمت دروس الثورة من بعضها البعض، صارت الأنظمة الدكتاتورية تتعلم من بعضها أيضاً، فنون القتل والبطش والكذب وتزييف الحقائق والمتاجرة بكل شيء.

لم تشذ سوريا عن نمط الأنظمة العسكرية، بل فاق النظام فيها الجميع بطشاً وتنكيلاً، مع منظومة إعلامية تجتر مصطلحات القرن الماضي في وصفها للشعب السوري الثائر، من عملاء ومندسين ومأجورين وسلفيين وغيرها، ضاربة بعرض الحائط كل ما يعرض وينشر ويوثق بالصوت والصورة، ومحملة قناة الجزيرة وحدها دون غيرها مسؤولية ما يجري.

لكن النظام السوري المترنح قام بابتداع إضافة جديدة لتبرير ما يقوم به من جرائم يندى لها الجبين، حين رفع راية المزايد على الجميع باسم المقاومة والممانعة، واصفاً كل من يطالب بحريته بأنه عميل لإسرائيل، وبأن النظام يتعرض لمؤامرة خارجية بسبب مواقفه في المقاومة والممانعة.

هي إذن أسطوانة قديمة جديدة لتكميم وإسكات أي صوت معارض بحجة أن سوريا دولة مواجهة، وعليه فإن كل ما يقوم به النظام مبرر ليستمر في مقاومته وممانعته المفترضة.

ممانعة ومقاومة مفترضة

لا شك أن سوريا وشعبها كان دائماً مع قضايا الأمة، ولا شك أيضاً أن الشعب السوري الثائر اليوم دفع وعن طيب خاطر ضريبة هذا الدعم، لكن النظام السوري وجد في ذلك ورقة مزايدة يستغلها لقمع ذات الشعب الذي ضحى ويضحي، ومن حقنا اليوم أن نسأل عن تلك الممانعة المفترضة.

منذ احتلال الجولان في يونيو/ حزيران من العام 1967 –ولن نخوض في تفاصيل تلك الهزيمة- لم تطلق رصاصة واحدة عبر الحدود باستثناء حرب عام 1973، التي سرعان ما بردت الجبهة بعدها، لتتحول مدينة القنيطرة المدمرة إلى مزار تجمع الأموال فيه، وتلتقط الصور التذكارية على أنقاضها، علماً بأن ما خسره الجيش السوري في انسحابه من شمال فلسطين وهضبة الجولان عام 1973 كان أكبر بكثير مما قدمه في الاقتحام والتحرير، بمعنى أن الجولان تم الانسحاب منه بقرار سياسي، وهو ما وثقه الكثيرون، حتى تبقى ورقة الجولان رابحة يبرزها النظام في وجه من يعارضه.

لم يتذكر النظام السوري جبهة الجولان إلا بعد أن ثار الشعب في وجهه مطالباً بحريته، فسمح وبشكل مفاجئ لمسيرة العودة بالتوجه إلى حدود هضبة الجولان يوم 15/5/2011 وليكرر ذلك في 5/6/2011، ليؤكد ما ذهب إليه أحد أركان النظام السوري -وهو رامي مخلوف- ومفاده أن إسرائيل لن تنعم بالأمن إذا تزعزع أمن سوريا، فقرن النظام القول بالفعل في تسخين جبهة الجولان بدماء المئات من الشهداء والجرحى.

النظام السوري وطوال عقود من الزمن مارس ما يسميه الممانعة والمقاومة عبر آخرين، كان دائماً يحصد ثمن تضحياتهم سواء كان ذلك من عمليات فلسطينية لفصائل تتخذ من دمشق مقراً لها بعد أن ضاقت بوجههم الدنيا، أو بانتصارات الشعب اللبناني في جنوبه، لتنحصر تلك المقاومة والممانعة بالشعارات الرنانة الفضفاضة التي لم تعد تطرب أحدا.

لم يكتف النظام السوري بذلك، بل كان السبّاق لدعم كل انشقاق أو فتنة فلسطينية أو لبنانية، ولا نجد حادثة واحدة واجه فيها الأخ أخاه إلا وكان النظام السوري ضالعاً فيها، وعلى طريقة فرّق تسد، ليعود من بعدها ويحتضن من اقتتلوا ويصلح بينهم ويجني بالتالي ثمرة ما يسميه مقاومة وممانعة.

وقد حاول النظام السوري لعب نفس اللعبة يوم 6/6/2011 الماضي في مخيم اليرموك، لينقل مشاكله لطرف آخر قد يغطي ولو مؤقتاً على ما يقترفه من جرائم طالت كل مكونات الشعب السوري الأبي.

كُر وأنت حر

حمل لنا التاريخ الجاهلي قصة عنترة بن شداد حين قال له أبوه بعد أن أغار عليهم قوم: كر يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلب والصر، فقال كر وأنت حر.

بهذه القصة القصيرة يتلخص وضع المقاومة والممانعة المفترضين، لا يمكن لشعب يعيش تحت قانون الطوارئ لنصف قرن، مسلوب الحرية والكرامة، يُقمع ليل نهار، مع نظام يمارس البلطجة السياسية ضده، لا يمكن لشعب كهذا أن يقاوم أو ينتصر.

مع غياب الحرية يفقد المواطن شعوره بالوطن والانتماء، يصل به الأمر لدرجة كراهية بلاده التي لا تقدم له إلا الذل والمهانة، لماذا يدافع عن وطن لا يشعر فيه بنفسه، أم أن المطلوب الدفاع عن النظام؟

نعم لا يكُر العبد ولا يمانع ولا يقاوم ولا ينتصر، بينما يبدع الحر الكريم، كما أبدع شعب مصر حين انخفضت مستويات الجريمة لأدنى مستوياتها بعد ثورته رغم غياب 90% من أجهزة الأمن، ليثبت أن من يصنع الجرائم هو النظام، ومن يحمي المجرمين هو النظام، ومن يحارب الفضيلة والأخلاق هو النظام، ومع أولى نسائم الحرية اكتشفنا كم هي عظيمة شعوبنا العربية، وكم هو راق مستواها وحضاريتها، وتعرت أنظمة ادعت المقاومة والممانعة والصمود والتصدي، لتقتل أبناء شعبها بدم بارد.

ومما يستدعي الوقوف طويلاً موقف الجيش السوري المفترض، والذي صدأت دباباته ومعداته في مخازنها، لتظهر فجأة ضد الشعب السوري المسالم والأعزل المطالب بحريته، أي جيش هذا الذي يرى العدو على مرمى حجر منه وهو يقصف ويقتل ويدمر في درعا، والجولان أمام بصره؟ كيف يمكن أن يكون هؤلاء من بني البشر وهم ينكلون بالأطفال والشيوخ ويرمونهم بكل موبقة ممكنة؟ لكنها العبودية التي رسختها الأنظمة العسكرية، جيش تابع ينفذ ما يؤمر به، جيش عماده الطائفية البغيضة، جيش خائف لا يجرؤ على رفض الظلم إلا من رحم ربي فانحاز للشعب.

ومما يسترعي الانتباه أيضاً أن كل من رفع شعارات المقاومة هو تلك الجمهوريات التي تحولت بقدرة قادر لجمهوريات وراثية، كل حسب حاجته، جمهوريات تتحكم فيها العائلة والأقارب، أخ الرئيس أو أبناؤه أو أبناء عمومته، أبناء يعدونهم ليكونوا رؤساء من بعدهم، دساتير تتغير في ساعة لتفصل على مقاس ابن الزعيم، وزعيم يُعد ولده وهو ليس بزعيم على حسب زعمه، وهكذا.

سقطت ورقة فلسطين

هي ورقة المتاجرة والمساومة والمزايدة، حملتها تلك الدكتاتوريات ولسنوات، باسمها ذبحت الشعوب، وباسمها سُرقت المقدرات، وباسمها سُنّت التشريعات التي أثقلت كاهل المواطن، حتى أن المواطن العربي بات يكره في تلك الجمهوريات البائسة اسم فلسطين وما يمت له بصلة.

سوريا زعيمة الممانعة -كما يدعي النظام- هي أيضاً زعيمة المتاجرة بفلسطين وقضيتها، اليوم تُعلن أن كل من يخرج مطالباً بحريته هو عميل لإسرائيل، وأن من يتحرك من أجل كرامته مدفوع من الخارج، وأن المؤامرة هي إسرائيلية للنيل من النظام المؤيد لفلسطين وقضيتها، دون أن ينسى النظام التذكير باحتضان سوريا لفصائل المقاومة وبشكل مبتذل يحمل الكثير والكثير من المن، رغم أن النظام السوري ما كان ليقبل بوجود أحد إلا من أجل مصلحته هو فقط، وليس محبة في فلسطين وقضيتها، وما قصة عبد الله أوجلان الذي باعه النظام السوري عند أول منعطف ببعيدة عنا، وهو ما يمكن أن يحدث لأي فصيل أو زعيم مقيم في سوريا اليوم.

يعترض الكثيرون على ذلك، تأخذهم الصدمة والدهشة من وقوف الشعوب مع بعضها البعض، يحاولون التمييز بين نظام وآخر، يجدون المبررات للنظام السوري إذا ما قورن بنظام مبارك مثلاً، يسردون القصص والحكايات عن الدعم السوري لفلسطين وحزب الله، لكنهم فجأة يقفون وعلى رؤوسهم الطير إذا سألنا سؤالين لا ثالث لهما، الأول لماذا يتنافخ النظام السوري شرفاً عند الحديث عن جنوب لبنان وكأنه صانعه ويُبقي جبهة الجولان نائمة؟ والسؤال الثاني: حتى لو افترضنا جدلاً أن النظام السوري هو بالفعل مقاوم ممانع هل يبرر له ذلك قتل شعبه وذبحه باسم تلك المقاومة والممانعة؟

لا يمكن لأي حر شريف إلا أن يقف مع الشعوب ومنها الشعب السوري البطل الذي قال كلمته، هذا الشعب الذي يرجع الفضل إليه وحده في احتضان القضية الفلسطينية والتضحية من أجلها لا لمجموعة استمرأت القتل والتنكيل بحجة فلسطين.

لم تعد ورقة فلسطين مدغدغة للعواطف كما في السابق، سقط القناع وانكشفت الأمور، وبشكل لا لبس فيه، بل لا نبالغ إن قلنا إن اللعب على وتر القضية والممانعة سيزيد من عزلة كل من يحاول المتاجرة بفلسطين، وسيشعر الجميع بضعف هذا النظام وعجزه، وحجم المأساة الأخلاقية التي يعيشها.

كما لم تعد حجج تلك الأنظمة باتهام قناة بعينها –الجزيرة– بأنها المحرك والمحرض، وهو ما يشكل إهانة بالغة للشعوب الثائرة ضد الظلم، ووسام شرف لمن يغطي ثورات تلك الشعوب، ومَضحكة لمن يردد هذه الاتهامات والادعاءات، تماماً كمن يتاجر ويزايد.

مع الشعوب بلا حدود

تغيّر الزمن الذي كان النظام يذبح فيه شعبه دون أن يعرف العالم الخارجي ما يجري، ليس الزمن اليوم كما كان يوم ذُبح عشرات الآلاف من السوريين في حماة، ولا تستطيع أبواق الأنظمة وأدواتها الإعلامية أن تغطي على الجرائم ومرتكبيها، حتى وإن نمّقت العبارات وألبستهم في العنق الربطات، وأسبغت عليهم الألقاب والشهادات.

الحرية لا تتجزأ، والكرامة هي هي أينما كانت، والقمع والتنكيل لا مبرر له تحت أي مسمى كان، ولا فرق بين نظام دكتاتوري وآخر، ولا بين نظام عميل أو نظام مقاوم كما يحلو للبعض التسمية حين يتعلق الأمر بالشعب وحريته.

يقف البعض في منتصف الطريق انتظاراً لنتيجة الثورة هنا أو هناك، خوفاً من أن يثبت هذا النظام أو ذاك نفسه، أو أن يُهزم الشعب لا قدر الله، وعليه يحفظ من اختار الوقوف في المنتصف خط الرجعة، وهناك من يجتهد فيخطئ بالوقوف ضد إرادة الشعوب تحت مسميات القومية والعروبة والتدخل الأجنبي، لكن لهؤلاء نقول: أنصاف المواقف أو المساواة بين الضحية والجلاد لا تصب إلا في خانة الظالم والسفاح.

نقف مع الشعوب العربية بلا تردد أو تحفظ، في كل قُطر وساحة، ندعو لهم ونناصرهم على الظلم والطغيان، مهما كانت نتيجة ثوراتهم، لأننا كلنا ثقة في وعي وأخلاق وحضارية ويقظة تلك الشعوب التي ستقطع الطريق وبكل تأكيد على المتربصين.

أما من يرفع شعارات الممانعة والمقاومة لقمع شعبه فنقول له: الحرية أولى، والكرامة أهم، وتباً لهكذا ممانعة ومقاومة لفظية كلامية إن كان ثمنها استعباد الشعوب وإذلالها.

نحن مع شعبنا العربي في سوريا قلباً وقالباً ومع كل الشعوب العربية الثائرة في كل مكان، هذا واجبنا ودورنا، وهذا ما يمليه علينا ديننا وضميرنا وأخلاقنا.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى