صفحات العالم

سوريا وحسابات الدور التركي


حازم صاغية

إذا فكّرنا بمنطق بارد وسألنا: لماذا يتردّد الأتراك في اتّخاذ مواقف أكثر مبادرةً وحسماً في الموضوع السوريّ، واجهتنا إجابات عدّة ومتفاوتة. ولكنْ لا بأس، قبل استعراض تلك الإجابات، بالقول إنّ السؤال هذا يغدو شاغلاً متعاظم الأهميّة لدى أفراد سوريّين كثيرين، وأفراد غير سوريّين، يؤرّقهم ما يحصل في سوريا من عنف همجيّ.

فأن يعلن أردوغان، رئيس الحكومة، أنّه قطع الاتّصالات بدمشق، وأنّه يفكّر في فرض عقوبات على سوريا، فهذا، على أهميّته ودلالته، يبقى أقلّ وأبطأ من بعض الرهانات، المعلنة أو المضمرة، على دور تركيّ. وإذ ترتفع يوماً بعد يوم نبرة المطالبة بالحماية الدوليّة للمدنيّين السوريّين، تتعاظم الأضواء المسلّطة على الموقف التركيّ واحتمالاته العمليّة، كما تكبر الفجوة بين الحاجات والأفعال، حتّى لو كانت مصادرةً لسفينة محمّلة أسلحةً للنظام.

والحال أنّ السبب الأوّل وراء التردّد التركيّ هو، على الأرجح، التردّد العربيّ إيّاه. ذاك أنّ من الصعب على أنقرة أن تقدم على عمل كبير في سوريا (العربيّة) من دون أن يكون هذا العمل مرفقاً بمساهمة عربيّة، أو أقلّه بغطاء عربيّ من النوع الذي توفّر لحلف “الناتو” في مهمّته الليبيّة الأخيرة. فليس طبيعيّاً أن تتقدّم تركيا في الحقل السوريّ بوصفها جزءاً من الأطلسيّ وحساباته من غير أن تستطيع التقدّم كبلد مسلم تربطه بجواره العربيّ روابط تاريخيّة ومصلحيّة شتّى. والحقّ أنّ عملاً كهذا لن يكون فحسب مثيراً لمشاعر عروبيّة ستبالغ دمشق في اصطناعها وتحريكها، وربطها بـ”الاستعمار التركيّ والعثمانيّ”، بل سيكون أيضاً مصدر تناقض مع النظريّة السياسيّة التركيّة لجهة أولويّة الانتماء إلى المنطقة والجوار الإسلاميّ على ما عداه. وهذه الطريقة في النظر هي بالضبط ما سبق أن هندسه وزير الخارجيّة ومنظّر دبلوماسيّة “حزب العدالة والتنمية” أحمد داوود أوغلو.

لكنّ ثمّة أسباباً أخرى وراء بطء أنقرة وتعثّر مبادرتها. فالنهضة الاقتصاديّة التركيّة التي قامت أساساً على التصدير الخارجيّ، وجعلت الاقتصاد التركيّ الاقتصاد الثامن عشر في العالم، كما شكّلت أحد أهمّ أسباب الانتصارات الانتخابيّة المتتالية لـ”حزب العدالة والتنمية”، تدفع إلى تدبير طرق بديلة عن طريق الترانزيت السوريّة إلى الأسواق المستورِدة الواقعة في الجنوب، بما فيها أسواق الخليج. وهذا فضلاً عن أنّ السوق السوريّة نفسها من أهمّ مصادر العوائد التجاريّة لتركيا. هكذا وفي ظلّ عجز ضخم في الموازنة ومديونيّة غير محمودة العواقب، تصبح تركيا مدعوّة لإجراء عديد الحسابات قبل الإقدام على خطوات سياسيّة وعسكريّة ذات انعكاس اقتصاديّ مباشر على طاقتها التصديريّة.

وهناك، إلى ذلك، إيران. فقد حرصت أنقرة طويلاً، على مدى السنوات القليلة الماضية، على الظهور بمظهر الصديق للحكم الإيرانيّ، كما بدا أنّها معنيّة بالتنسيق معه، ليس في ما خصّ المسائل الثنائيّة فحسب، بل أيضاً في خصوص القضايا الإقليميّة والمسائل المتفرّعة عن الملفّ النوويّ الإيرانيّ ومشاكل طهران مع البلدان الغربيّة. وقد بلغ الأمر، قبل أقلّ من عامين، حدّ الحديث عن “تحالف استراتيجيّ” يضمّ، إلى تركيا وإيران كلاًّ من سوريا والعراق. ولكنّ هذا ما لبث أن تبيّن أنّه نوع من التفكير الرغبويّ الذي لا يستطيع إلى ما لا نهاية أن يتجاهل المشكلات الموضوعيّة بين البلدين ونفوذهما. وقد انفجر الاكتشاف الواقعيّ مع اندلاع الانتفاضة السوريّة، فراح يتبيّن أنّ عملاقي العالم الإسلاميّ غير العربيّين يقفان موقفين شديدي التباين ممّا يجري في دمشق. ولئن حافظت تركيا على لغة هادئة عموماً هي أقرب إلى التكتّم على خلافها مع إيران، فإن الأخيرة ذهبت بعيداً في اتّهامها الأتراك بتنفيذ رغبات الغربيّين في سوريّا.

والواقع أنّ أنقرة إذا ما بدت مضطرّة لأن تحسب حساب القوّة العسكريّة الإيرانيّة واحتمالات ردّ فعلها، فإنّها هنا أيضاً مرشّحة لأن تصطدم بنظريّتها، أي نظريّة داوود أوغلو، عن العلاقات الإقليميّة والتموضع حيالها. ذاك أنّ تطوّراً كهذا سيؤول حتماً إلى استجلاب العالم الخارجيّ وقواه العسكريّة للتدخّل المباشر في المنطقة، خصوصاً أنّ تركيّا عضو فاعل في “الناتو”، فيما إيران ترتبط بعلاقة شديدة السوء مع البلدان الغربيّة بسبب المسألة النوويّة. وغنيّ عن القول إنّ إحدى الأطروحات التي سال حبر تركيّ كثير في الدفاع عنها هي جعل أهل المنطقة يحلّون شؤونها بعيداً عن “لعبة الأمم”.

وأخيراً، هناك ما كُتب عنه الكثير في الآونة الأخيرة ممّا يتعلّق بالأكراد والعلويّين السوريّين. فهنا سريعاً ما يتداخل الشأن السوريّ والشأن التركيّ الداخليّ، لاسيّما في ظلال استمرار الحرب الدائرة بين أنقرة و”حزب العمّال الكردستانيّ” وانحياز الكتلة العلويّة التركيّة للقوى العلمانيّة المناهضة لـ”العدالة والتنمية”، أتمثّلت في أحزاب اليسار أو تمثّلت في الجيش الأتاتوركيّ الذي يحرز ضبّاط علويّون مواقع أساسيّة فيه.

لكنّ خطاب أردوغان المصريّ الأخير ورحلته العربيّة ودور أنقرة في ليبيا وتداول حكومة “العدالة والتنمية” مع الروس في الشأن السوريّ، كلّها توحي بأنّ القيادة التركيّة لن تتخلّى عن محاولة الاستفادة من الوضع الراهن لزمن ما بعد الانتفاضات. ويقطع في هذا الاحتمال التدهور الذي قد يتواصل في العلاقة مع اليونان وقبرص ممّا يفاقمه الملفّ النفطيّ المتزايد الأهميّة. وفي هذا المعنى يمكن القول إنّ التصعيد التركيّ الأخير في مواجهة إسرائيل وحكومة نتنياهو ربّما كان أقرب إلى عمل استباقيّ وظيفته أن يحمي احتياطيّاً أيّ تحرّك تركيّ محتمل في سوريّا بعد أن تتوافر شروطه المطلوبة.

ذاك أنّ من المستبعد جدّاً أن يفكّر الأتراك في أنّ الباب العربيّ سيبقى مفتوحاً لدورهم الكبير والموعود من دون أن يُحسم الوضع في سوريّا بطريقة أو أخرى. وهذا التقدير هو ما يشجّع المتفائلين بدور تركيّ أشدّ مبادرة وحزماً على القول إنّها مسألة وقت لا أكثر. وهل يمكن أن يكون عديم المعنى احتضان أنقرة أطيافاً من المعارضة السوريّة وبعضاً من مؤتمراتها؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى