صفحات العالم

سوريا ودواعي التدخل الأميركي

راي تقي

من الليبراليين دعاة التدخل الدولي إلى «صقور» المحافظين، تتعالى جوقة متزايدة من الأصوات في واشنطن ترى أن التدخل الأميركي في سوريا سيوجه رسالة قوية إلى إيران ويضرب قواعدها في الشرق الأوسط، فالعمل العسكري في سوريا سيثبت، كما يقول هؤلاء، أن أميركا جادة بشأن فرض خطوطها الحمراء ومتابعة احترامها، فيما إيران التي ستشعر بالإحباط وتنبهر بالقوة الأميركية ستراجع برنامجها النووي وتقلص منه تمهيداً للالتزام بمقتضيات اتفاقية عدم الانتشار النووي.

لكن بالنظر إلى أن تدخل إدارة أوباما في الصراع السوري سيكون على الأرجح مؤقتاً وغير حاسم، بدلاً من استخدام قوة عسكرية شاملة وكاسحة، فإنه سيؤدي فقط إلى إطالة أمد الصراع، ولن يساهم في إنهائه السريع والحاسم، أو إخافة حكام إيران. التدخل العسكري القادر فعلا على إنهاء الحرب نهاية تامة وتمكين الثوار من النصر سيتطلب أكثر من مجرد فرض منطقة لحظر الطيران، أو تسليح المعارضة، بل سيتجاوزه إلى ضرورة ضرب القوات الجوية السورية وتحييدها، ووضع الجنود على الأرض، وفي هذا كله سيكون على أميركا تولي القيادة مدعومة من الجامعة العربية، ومعتمدة أيضاً على معلوماتها الاستخباراتية وإمكانيتها، فضلا عن استخدام القوات الخاصة عالية التدريب، ثم بعد ذلك سيأتي دور إعادة تشكيل سوريا والتوسط بين طوائفها.

وعلى غرار ما رأينا في الحرب العراقية دائماً ما تكون عملية إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية وبنائها من أنقاض الحرب الأهلية أكثر كلفة وأثقل عبئاً من التدخل العسكري نفسه.

ولأن الأمر يستغرق كل ذلك وأكثر للإطاحة بنظام بشار الأسد وإسدال الستار نهائياً على الحرب، فإنه يتعين على أميركا القبول بفكرة التدخل القوي والشامل، فليس هناك حل سهل، أو طريق وسط، فبدلا من إخافة إيران سيكون لتدخل غير مكتمل في سوريا مفعول عكسي، حيث سيستنتج قادة إيران بأن أميركا لا نية لها في خوض الحرب ولا الدخول في صراع كبير في المنطقة.

والحقيقة أن ذلك يتأكد يوماً بعد يوم من خلال النقاش اللافت في واشنطن الذي ما زال يتحرج من الحديث عن التدخل العسكري في الشرق الأوسط، رغم مقتل أكثر من 70 ألف شخص في الحرب وتجاوز خط استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين.

وهنا يمكن تفسير هذا التحفظ والصمت الأميركي إزاء التدخل العسكري بتجربة العراق التي تلوح كبيرة في الأفق وتخيم بظلالها القاتمة على النقاش، فأميركا التي تعبت من الحروب وبذلت تضحيات كبيرة في أرض المعركة بالشرق الأوسط تجد نفسها مترددة جداً إزاء الانخراط في حملة عسكرية جديدة، والأمر ينطبق على البيت الأبيض كما على الكونجرس الذي يجمعون أن أميركا ليست مستعدة الآن للتدخل العسكري ولا شهية لها لخوض حرب أخرى.

كما أن هناك تردداً في قبول الحقيقة التي تقول إن أنصاف الحلول والإجراءات غير المكتملة مثل إقامة منطقة لحظر الطيران فوق سوريا، أو تسليح المعارضة لن ينهي معاناة الشعب السوري أمام تصميم أقلية علوية ترى أنها تخوض معركة وجود بقيادة الدائرة الضيقة والشريرة للأسد الذي لا يؤنبه ضميره البتة، وهو ينخرط في عملية تطهير عرقي ضمن معركة مستمرة حتى الرمق الأخير.

والمشكلة أن استطالة الحرب في سوريا ستمنح إيران الامتيازات ذاتها التي استفادت منها في العراق، فما أن استقرت أميركا في عملية البناء وإنشاء المؤسسات في العراق حتى أجمع الخبراء والسياسيون والعسكريون أنه ليس ممكناً فتح جبهة جديدة في المنطقة، وفيما كانت واشنطن تتصارع مع مشاكل العراق وتسعى لحلها تغاضت تماماً عن محاولات التخريب الإيرانية، وفي الوقت الذي كانت فيه إيران محصنة من التدخل الأميركي بسبب انشغالها بالعراق كان وكلاء إيران في المنطقة يهاجمون الجنود الأميركيين ويعكفون على إفشال مجهودها في إعادة بناء عراق قوي.

وبالموازاة مع ذلك كانت إيران تعيد إحياء برنامجها النووي الذي جمدته لفترة طويلة مستغلة الانشغال الأميركي وعدم رغبتها في دخول حرب أخرى. وربما تراهن طهران اليوم أيضاً على أنه في حال انخراط أميركا في أنصاف الحلول بسوريا وفي تدخل تدريجي ومتردد لا يجرؤ على مواجهة إيران مباشرة ووضع خطوط حمراء حقيقية ستحظى بنفس الامتيازات لمواصلة تطوير برنامجها النووي، والنتيجة ستكون إيران قوية وأكثر استعداداً لتخطي العتبة النووية وبسط هيمنتها على عموم الشرق الأوسط. وعلينا ألا نشك في أن تحقيق الثوار لانتصار ساحق على النظام وسقوط الأسد في سوريا سيمثل انتكاسة كبيرة لإيران لما تشكله سوريا من ممر لوكيلها «حزب الله»، لكن انتصار الثوار على النظام السوري غير قائم من دون تدخل أميركي حاسم.

والحاصل أن إدارة أوباما التي تواجه ضغوطاً لوقف العنف في سوريا قد تتدخل تدريجياً لتنخرط أميركا في حرب ستبقى نتائجها محدودة، لأن التدخل غير الحاسم لن يردع إيران المنخرطة في معركة أساسية لرسم مستقبل الشرق الأوسط.

كما أن إيران التي تتابع بفرح انتقال التركيز الأميركي صوب آسيا ورغبتها في التخلص من تركتها العربية لا تعتقد أن أميركا مستعدة للحرب.

وفيما سيكون للتدخل الأميركي الشامل والحاسم دور في وقف تقدم إيران ستبقى الاقتراحات الأخرى المكتفية بفرض منطقة لحظر الطيران، أو تسليح المعارضة قاصرة عن فعل الكثير، بل ستشجع طهران على المضي قدماً في البرنامج النووي بعدما سيتأكد لها أن أميركا باتت عازفة عن أي مواجهة كبرى.

راي تقية

باحث في «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى