صفحات مميزة

سوريا وطننا… إلى أين

 


مقاربات أولية لبعض قضايا الثورة الراهنة

حزب العمل الشيوعي – جريدة الآن

دخلت  التحركات الشعبية الواسعة في شتى مناطق البلاد شهرها الثالث، مكررة مطالبها بحق الشعب في الحرية والكرامة، ومتمسكة بالوحدة الوطنية ، وهي ما تنفك تزداد اتساعا وغضبا أسبوعا وراء أسبوع، برغم ، بل و بتحريض شديد من، العنف الدامي الذي اعتمده النظام سبيلا لمواجهتها تحت عنوان ( الحل العسكري ـ الأمني ). وفي حين سقط أكثر من ألف ومئتي شهيد من المواطنين برصاص أجهزة الأمن ،كما استشهد وجرح العديد من العسكريين في شتى المناطق ، فقد اعتقل أكثر من عشرة آلاف  وتعرضوا للتعذيب الوحشي والإهانات الإجرامية ومحاولات الإذلال و تحطيم المعنويات في أقبية المخابرات.

في الوقت نفسه، يتابع إعلام النظام لا سيما الشفهي ( الإشاعات) حملاته المتسمة بالغباء الشديد و الكذب والتضليل ، لإخفاء الطابع الحقيقي لهذه التحركات وتشويه صورتها عبر وصفها بأنها تحركات ( سلفية) مرة ، وبأنها ( عصابات مسلحة) مرة أخرى، وبأنها ( مؤامرة خارجية ) ضد سوريا مرة ثالثة، وبأنها حركات تخريب وفوضى ،أ وتحركات طائفية، أو بأنها تحركات شعبية ومطالبها محقة لكن ثمة ( مندسين ) فيها يشوهونها ويحرفونها باتجاه مآربهم الخاصة، مرة رابعة وخامسة وسادسة .

وبعد ما لجأ النظام إلى إنزال الجيش في عدد من المناطق والمدن، بآلياته وعتاده، ففرض حصارا عسكريا على مدينة درعا ثم بانياس و حمص وتلكلخ  وجسر الشغور وغيرها، وأقحمه في مواجهة مع أبناء الشعب أدت إلى تصاعد كبيرفي  أعداد الشهداء ، زاد غضب الجماهير في كل مكان من هذه السياسة القمعية ، وارتفع سقف المطالب في مواقع كثيرة من المطالبة بالإصلاح والحرية ، إلى المطالبة بإسقاط النظام ومحاسبة رموزه.

وفي مواجهة ارتفاع هذا السقف صعد النظام من العنف وسفك الدماء والضغوط على الجماهير المحتجة.

فإلى أين تسير الأمور ؟ وإلى أين يدفع النظام والخارج الإمبريالي والإقليمي بها ؟

* * * * ** * * * * * *

من المعروف للحس الشعبي العام، ناهيك عن مايعرفه كل مهتم بالتاريخ والسياسة ولو بأبسط الدرجات، أن سوريا كانت وستبقى موقعا ذا أهمية استراتيجية كبرى، اقليميا وعربيا وعالميا، بحكم الجغرافيا والاقتصاد والتركيبة الاجتماعية والتاريخ، وأن مايجري فيها سيؤثر تأثيرا كبيرا على جوارها( وحاسما على بعضه لا سيما الوجود  الصهيوني الطارئ تاريخيا)، كما سيمتد تأثيره بدرجة أو بأخرى إلى مناطق واسعة لا سيما في الإقليم العربي والإسلامي الذي هو موضع تشابك مصالح عالمية كبرى. ومن البديهي بالتالي أن تكون موضع اهتمام ورصد دقيق ومتابعة من كل أطراف هذه الدائرة الواسعة، وأن يحاول كل طرف أن يدفع بالأمور في الاتجاه الذي يناسب مصالحه أكثر.

لهذا فإن الحديث عن ( المؤامرة، والتدخلات الخارجية) هو حديث لا يقدم أي جديد ، فمن البديهي أن تكون هناك محاولات من كل أصحاب المصالح للتدخل في كل ما يجري في البلاد،  في المجتمع و في الدولة، ولا يمكن الاستناد على ذلك لفهم جوهر  ما يجري ، لأن الخارج لايستطيع خلق أو افتعال أحداث كبرى في البلاد، لاسيما حين تنخرط أوسع الجماهير في الحركة.

وحين تكون أسباب هذه الأحداث قد تراكمت بفعل سياسات النظام الحاكم على امتداد عقود حتى أوصلت الشعب إلى نقطة بات يرفض فيها بأي شكل من الأشكال استمرار الحال على ما هو عليه، لاسيما بعد استلام الأسد الإبن للسلطة ، ووعوده الإصلاحية التي لم تتمخض عن شيء في أحد عشر عاما، بل زادت الأمور سوءا في المجال المعيشي وغيره، فإن على  النظام أن يلوم نفسه ومستشاريه وأصحاب القرار فيه، و أن يتحمل المسؤولية عن ما آلت إليه الأمور ،وعن ارتفاع سقف مطالب الجماهير إلى مستوى المطالبة بإسقاطه، وليس  أن يلوم الخارج ويحمله المسؤولية عن غضب الشعب وثورته.

أما اتهام جماهير الشعب الواسعة بأنها مندسة أو عميلة أو سلفية لأنها تحركت مطالبة بحقوقها المشروعة التي حرمت منها عقودا طويلة، فليس سوى دفن للرأس في الرمال كي لا ترى العين ما هو شديد الوضوح أمامها وأمام الشعب وكل العالم .

لقد تفجرت حركات الاحتجاج الشعبي إثر اعتقال الأمن السياسي في درعا لعدد من الأطفال، ورفضه إخلاء سبيلهم رغم كل تدخلات أهاليهم ووجهاء من المدينة، بل وإهانة هؤلاء جميعا في استخفاف مطلق بحقوقهم كمواطنين وكبشر، وهو سلوك دأبت أجهزة النظام على ممارسته على مدى عقود طويلة، وكأن النظام هو رب البشر وخالقهم ، أو كأن الشعب ليس سوى جمع من العبيد الذين يملكهم ، يعطيهم مايشاء ويحرمهم مما يشاء دون أن تكون لهم أي حقوق مشروعة يكفلها دستور ، ولا حتى حق السؤال عن ما تفعله أجهزة الأمن بهم وبأبنائهم !

كانت حادثة أطفال درعا هي القطرة التي فاض بها الكيل، فهب الشعب بداية من درعا ليقول للنظام : كفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى !

كفى استخفافا بحقوقنا وكرامتنا وعقولنا ، كفى استبدادا و قهرا واعتداء علينا وعلى أبنائنا، كفى تصرفا كسلطة مطلقة تعتقد أن احتكارها للسلاح وأجهزة القمع والمال يعطيها الحق بمعاملة الشعب كقطيع من الكائنات غير البشرية ، فتكم أفواه أبنائه كالعبيد وتلقي بهم في السجون حين تشاء، وتتحدث باسمهم بما تشاء وحيثما تشاء دون أي اعتبار لهم ، و تستولي على ثروات وطنهم وثمار عملهم لتلقي لهم بأقل القليل منها وتزيدهم فقرا يوما بعد يوم، ولتخص حاشيتها وشركاءها بالحصة الكبرى فتزداد ملياراتهم يوما بعد يوم.

فاض الكيل بالشعب عند حادثة أطفال درعا، فنزل إلى الشوارع غاضبا هاتفا : نريد الحرية ، نريد الكرامة، نريد سيادة القانون، نريد إنهاء الاستبداد وممارساته التي تسحق إنسانيتنا، نريد الديمقراطية !

ردت السلطة بوعيها( ! ) وأسلوبها الذي طالما اعتمدته عبر تاريخها: القمع ثم القمع  ولا شئ سوى القمع ! وكأنها غافلة تماما عن التغيرات العميقة التي تجذرت خلال عقود في نفوس السوريين ووعيهم، والتغيرات العاصفة التي اجتاحت العالم والمجتمعات العربية، لا سيما في العقد الأخير، من ناحية وسائل الاتصال والإعلام، وتأثيرها الكبير على الوعي الاجتماعي والسياسي. وبشكل أخص ، ما حدث في تونس ومصر من ثورات مظفرة.

وكان القمع في البداية محدودا بالمقارنة مع ما وصل إليه مؤخرا، جمع بين الغازات المسيلة للدموع، وخراطيم الماء، وبعض إطلاق النار الذي أسقط عددا من الشهداء، والاعتقالات الواسعة …. طبعا ! ولكنها ( أي السلطة) أنكرت منذ اللحظة الأولى طبيعة التحرك الشعبي المحقة والمشروعة، والعدالة المطلقة لمطالبه،مما زاد من غضب الجمهور ووسع التحركات وضاعف أعداد المشاركين فيها . ولم يعترف رئيس الجمهورية بطبيعة التحرك الشعبي وعدالة مطالبه إلا بعد أن كانت الحركة قد أخذت أبعادا لا سابق لها في التاريخ السور ي المعاصر( منذ عهد انفصال الوحدة السورية المصرية)، وظلت الإشارة إلى وجود (  مندسين وعصابات) بين الجمهور تغطية كافية لمتابعة القمع بشدة أكبر وأكثر وحشية.

وكلما زادت وحشية القمع وسفك الدماء والاعتقالات، زاد غضب الشعب وتوسعت المشاركة في الاحتجاجات، وارتفع سقف المطالب السياسية في طول البلاد وعرضها.

حتى اليوم ، أدى اعتماد ( الحل الأمني ـ العسكري ) إلى سقوط أكثر من الف ومئتي شهيد من المواطنين والعسكريين ، وإلى شمول الاحتجاجات لمناطق البلاد كلها تقريبا، وإلى تكرر شعارات إسقاط النظام في مواقع كثيرة ، وإلى تقديم الذرائع على طبق من ذهب لقوى الخارج الأوربي والأمريكي للتدخل أكثر في شؤون البلاد ( بدءا من العقوبات على الأفراد، وهو ما لن  تتوقف الأمور عنده بالتأكيد  )، الأمر الذي تتحمل السلطة كامل المسؤولية عنه، وعن ما قد يتطور إليه لاحقا ، و لاسيما منها أولئك الداعون ( لمعالجة) تحرك شعبي سلمي بامتياز، من أجل قضايا سياسية مشروعة بامتياز، معالجة ( أمنية ـ عسكرية ) متوحشة ، لا تفعل شيئا سوى تعقيد الأوضاع بشدة ودفع البلاد والمجتمع نحو خيارات متطرفة شديدة الخطورة بكل المعايير……

حراك أم انتفاضة أم ثورة ؟

يتردد كثيرون في وصف تحركات  الجماهير المستمرة منذ ثلاثة أشهر بالثورة ، فيصفها بعضهم ب ( حراك شعبي ) أو (تحركات احتجاجية) أو ( انتفاضة شعبية) الخ.وإذا كان ذلك مشروعا  في الأسابيع الأولى لتحركات الجماهير حين كانت حديثة العهد ومحدودة  ببعض المناطق ( درعا، بانياس واللاذقية وجبلة )  ، فإنه لم يعد كذلك اليوم بعد أن عم الحراك كل الأراضي السورية ، وبات ما يجري قولا وفعلا ثورة شعبية عامة تتميز بالاستمرار والمثابرة ووضوح الأهداف، وتخوضها قوى اجتماعية  واضحة، في مواجهة نظام و قوى اجتماعية  ذات أهداف مضادة واضحة بدورها.

ما يجري هو ثورة سياسية تهدف إلى تغيير شكل الحكم الاستبدادي القائم، إلى شكل حكم ديمقراطي تداولي، يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، وعلمانية الدولة أو مدنيتها على الأقل، وينظمه دستور وقوانين تضمن الحريات العامة والفردية، وتكفل فصل السلطات وحرية التنظيم السياسي والنقابي والمدني  وحرية الإعلام، كما تضمن السيادة الفعلية للقانون ومساواة المواطنين أمامه دون تمييز بسبب العرق أو القومية أو الدين أو الطائفة أو العشيرة أو العائلة. فتنهي بذلك عقودا من الديكتاتورية القاسية لدولة أمنية،متخفية في ثوب حكم حزب واحد وجبهة كرتونية تلتف حوله .

و نقول إنها ثورة سياسية فحسب وليس ثورة اجتماعية ـ اقتصادية، لأن أهدافها لا تتضمن تغيير النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي القائم (  الرأسمالي )، ولا تغيير الطبقة السائدة ( البورجوازية) . أهداف هذه الثورة هي تغيير شكل الحكم ( وهذا لا يقلل من أهمية هذا المطلب وقيمته التاريخية )، وهو ما سيتم بالانتقال من الشكل الديكتاتوري  ـ العائلي الراهن، إلى الشكل الديمقراطي التداولي المنشود، مع الحيثيات الكثيرة التي يستتبعها هذا التغيير، دستوريا واجتماعيا ، وربما اقتصاديا ( محاربة الفساد وتجريم الفاسدين، نظام  للضمان الاجتماعي التعليمي والصحي والسكني .. الخ). إلا أن الطبقة البورجوازية السائدة ستظل سائدة رغم انتقال مركز الهيمنة فيها من الشريحة الحاكمة اليوم ( اندماج السلطة السياسية مع رجال الأعمال الفاسدين وتحالفها مع سائر المستثمرين والرأسماليين الكبار في حقول التجارة والصناعة والخدمات و المال) إلى شريحة أخرى أو تحالف آخر من الرأسماليين  ، و يفترض أن تستقل فيه السلطة السياسية نسبيا عن الطبقة السائدة.

إضافة لما سبق ، فإن لهذه الثورة خصوصيتها التي تميزها عن الثورات المعروفة تاريخيا، حيث تشترك مع ثورة التحرر الوطني الهندية ( غاندي) في اعتمادها شكل النضال الجماهيري ـ السلمي لتحقيق أهدافها ( كما ثورتا تونس ومصر)، وتتميز عنها بتطورها التدريجي  لجهة أهدافها و لجهة اتساع القوى المنخرطة فيها، كما تتميز عنها بأهمية دور الإعلام فيها، وبافتقادها( حتى اليوم على الأقل) للقيادة المركزية والدورالتاريخي المعروف للتنظيم والتوجيه( من قبل الأحزاب أو الزعامات الفردية)، الأمر الذي لا يعني غياب دور الأحزاب والشخصيات العامة المعروفة تاريخيا فيها بطبيعة الحال ،إلا أنه يظل أقل وزنا وأهمية من ما هو معروف  تاريخيا، لاسيما في سورية ، كما لايعني أنه يمكن للثورة أن تستمر بنجاح دون أن تتبلور عاجلا أو آجلا  قيادة لها تتحلى بالثقة الشعبية وبالكفاءة السياسية والتنظيمية الضرورية لمواجهة التحديات والعقد الخطيرة التي تعترض طريقها، وتبلور برنامجها في التغيير الديمقراطي والاجتماعي، لإيصالها إلى أهدافها المرجوة.

حول الأسباب الطبقية للثورة وطبيعة قواها.

أدت السياسات الليبرالية المتوحشة التي اعتمدها النظام في العقد المنصرم استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي والرأسمال العالمي عموما، إلى تركز كبير للثروة في أيدي حفنة من الرأسماليين الجدد، وإلى دفع قطاعات واسعة جدا من الطبقة العاملة والفئات الوسطى إلى الهجرة أو إلى جحيم الفقر والبطالة . حدث ذلك نتيجة حرمان السوق الوطنية من كل حماية وفتحها للمنافسة العالمية الشرسة وغير العادلة، مع  توجيه الاستثمارات فيها إلى القطاعات الخدمية ذات الربحية العالية ( استثمارات في القطاع الخدمي : المالي، التجاري ،السياحي والصحي والتعليمي  بكافة مراحله ، والموجهة كلها لخدمة الطبقة والشرائح الأكثر ثراء في المجتمع …  الخ) ، في مقابل تراجع الاهتمام بالصناعة والزراعة (الاقتصاد الإنتاجي) الذي يستوعب أعدادا كبرى من قوى العمل ويقوي استقلال الاقتصاد الوطني، إلى جانب تخلي الدولة المتسارع عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه الطبقات الشعبية في مختلف الحقول ( ضمان حق العمل والتعليم والاستشفاء والسكن  … الخ).

شكلت النتائج الاجتماعية للسياسات الاقتصادية المذكورة مناخا خصبا لتغذية الغضب الاجتماعي، والذي كان لديه مسبقا الكثير مما يغذيه : قهر وظلم واستبداد وغياب للقانون و فساد وانتهاك للقضاء وتدهور للتعليم وزيف في الإعلام وتسفيه للفكر والثقافة والقيم وتزييف لإرادة الملايين في الانتخابات و النقابات والمؤسسات والمدن والقرى   .. الخ.   وفر اجتماع هذه العوامل المتراكمة عبر عقود، مع نجاح ثورتي مصر وتونس، كل ما يلزم لتتحول حادثة أطفال درعا ( وهي ليست الأولى من نوعها في ظل هذا النظام، ولا هي الأقسى ) إلى شرارة أشعلت نار الغضب والاحتجاجات في المحافظة الباسلة، لتنتقل منها إلى سائر المدن والبلدات السورية وتتحول إلى ثورة شاملة تعبر عن رفض الشعب لاستمرار الأوضاع القائمة وإصراره على تغييرها مهما كانت التضحيات.

من الواضح أن قوى الثورة هي قوى الطبقات الشعبية حصرا،الطبقات الدنيا و الفئات الوسطى في المجتمع، من طلبة وعمال وعمال زراعيين وفلاحين وموظفين صغار وتجار صغار وقطاع مهم من النساء المنخرطات في المجتمع الحديث ومهندسين وأطباء وفنيين وإعلاميين ومثقفين من هذه الطبقات والفئات، بالإضافة طبعا إلى جيش العاطلين عن العمل والفئات المهمشة اجتماعيا واقتصاديا، وهي واسعة.

من الواضح بالقدر نفسه أن قوى الطبقة البورجوازية ما تزال ملتفة حول النظام . و في حين ينخرط بعضها في الصراع إلى جانبه بكل إمكاناته وقواه، لاسيما أولئك الذين يعرفون أن رحيل النظام أو حتى حدوث إصلاح يؤدي إلى قيام دولة قانون  سيكون وبالا على مصالحهم وثرواتهم التي جمعوها برعاية واحتضان تامين من فساد السلطة السياسية  ، تتمسك بعض شرائح الرأسمال التجاري والصناعي الأخرى بموقفها الانتهازي التاريخي منتظرة رجحانا واضحا في موازين القوى لصالح الثورة قبل أن تفك تحالفها وشراكتها مع النظام و تلتحق بمشروع التغيير. رغم أن بعضها  قد يكون المستفيد الأكبر من التغيير لاحقا.

تفسر هذه الحقائق سبب تأخر انخراط  قطاعات مهمة من المجتمع  في الثورة ، لا سيما في  دمشق وحلب حيث يتركز الرأسمال الكبير واستثماراته، وحيث النفوذ الاجتماعي الأكبر لذلك الرأسمال.ويقدم كل ما سبق تأكيدا إضافيا لماسبق أن قلناه مرارا وتكرارا بشأن  عجز واستقالة بورجوازيات البلدان المتخلفة من مسؤوليتها في إنجاز أو حتى استكمال مهام الثورة الوطنية ـ الديمقراطية ( التغيير الديمقراطي في المرحلة الراهنة)  ، ناهيك عن عجزها عن تحقيق التنمية والتصنيع والوحدة القومية ، وضرورة إنجاز هذه المهام التاريخية من قبل الطبقات الشعبية تحديدا ، وبقيادة قواها ونخبها الواعية ( سواء أحزابها ونخبها القديمة أو قواها الشابة الجديدة).

يشكل ما تردده وسائل الإعلام عن أن الثورة هي ( ثورة الشباب)، أو هي ثورة ( الفيسبوك)،  استمرارا لوعي وايديولوجيا تعمل على تهميش دور الإنسان في صنع التاريخ، وعلى تغييب القراءة الاجتماعية ـ الطبقية للمجتمع وحركته، وإخفاء طبيعة قوى الثورات و تزييف أسبابها الحقيقية، .

فالقوة الأهم والأسرع للمبادرة والمواجهة في الثورات كانت دائما وعبر التاريخ قوى الشباب،( ولكن شباب أي طبقات وأي شرائح اجتماعية  ؟) وليست الثورة السورية الراهنة استثناء من هذه القاعدة، فقواها البشرية التي بادرت هي شباب الفئات الوسطى والدنيا حصرا، و التحق ويلتحق بها جمهور متزايد الاتساع من هذه الطبقات بالذات بما في ذلك النساء ، و من كل الأعمار ،. بينما تقف الطبقة البورجوازية بشبابها وكهولها بقوة إلى جانب الديكتاتورية، أو متفرجة ومشتكية من ( الفوضى ! ) التي تعطل عليها متعها ونزهاتها، وتخفض أرباحها بإضعافها لحركة السوق !

أما الفيسبوك والإنترنيت  والخلوي، ورغم دورها المهم جدا في تحقيق نقلة كبرى في التواصل المجتمعي، وكسرها لاحتكار الإعلام من قبل النظام وأصحاب الملايين، فهي في نهاية المطاف  أدوات بيد البشر جميعا، ممن هم مع الثورة أو ضدها، يستخدمونها لخدمة الثورة أو لإفشالها . وهي موجودة في شتى بلدان العالم التي لا يقل بعضها معاناة عن الشعب السوري،  دون أن تؤدي إلى الثورة هناك! الأمر الذي يكشف  قصور التفكير الذي يرجع حدوث الثورة إليها.

عوامل قوة الثورة

لا شك بأن أهم عوامل قوة الثورة السورية الراهنة هي:

1 ـ   سلميتها   وتجنبها لكل أشكال العنف المسلح، مهما كانت الاستفزازات والمحاولات التي يبذلها النظام لجرها نحو ذلك الميدان الذي هو ميدانه بامتياز ، في مسعى منه لإفقادها عنصر تفوقها الأخلاقي والحقوقي، وتبرير قمعه الوحشي لها بالنار والحديد. وبقدر ما تتمسك الجماهير بسلمية تحركاتها، وبقدر ما تتمكن من ضبط ردود فعل المواطنين المتألمين والغاضبين من فقد أحبائهم الذين يقتلون بلا أي مبرر أمام أعينهم ، والحفاظ عليها في حدود اللاعنف، وبقدر ما تنجح في منع أو قمع أي شخص نزق أو غاضب أو متطرف أو مخرب يتحرك بين الصفوف ليطلق النار أو يستخدم أي سلاح، سواء كان من عملاء النظام أو من بعض العناصر غير المنضبطة أوغير ذلك،  فإنها تتقدم على طريق ربح معركتها التاريخية، وتفضح وحشية القمع ولا عقلانيته، وتكسب المزيد والمزيد من المتعاطفين والمؤيدين في داخل البلاد وخارجها. لابد أن يكون واضحا أشد الوضوح لكل قوى الثورة أن اللجوء إلى السلاح لأي سبب كان هو تخريب على الثورة وخدمة كبرى لأعدائها .

2 ـ   الاستمرار والانتشار وتنامي الحركة  من أسبوع لأسبوع ، ومن يوم ليوم. حيث يلعب الاستمرار والتصاعد دورا أساسيا في الحفاظ على زخم الحركة واندفاعها ورفدها بمزيد من القوى، وإنهاك قوى النظام( المحدودة بالمقارنة مع قوى الشعب)، ودفعها من ثم للتراجع والتفكك، دون إعطائها الفرصة لالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب صفوفها .

في حين يؤدي الاتساع الجغرافي المتزايد للحركة إلى ضم مزيد من القوى الشعبية إلى الثورة، وسحب مزيد منها من صفوف النظام ووضعها في مواجهته حيث هو موقعها الطبيعي، كما يؤدي إلى تشتيت جهود أجهزة القمع وإنهاكها وإضعاف معنوياتها.

3 ـ وحدة أهداف الحركة ووحدة شعاراتها   تلعب دورا مهما في إشعار الجماهير بوحدتها وقوتها وحتمية انتصارها، وتبرز للعيان وحدتها الوطنية وتفشل مساعي النظام لزرع التناقضات والخلافات في صفوفها ، ولتزييف أهداف التحركات وطبيعتها، الأمر الذي يبذل جهودا كبرى من أجله.

4 ـ قوة الحشد وضخامته، حيث تكشف ضخامة الحشود قوة الشعب وترفع من معنويات المشاركين  فيها ومعنويات من يراها من خارجها ، وتلعب دورا معاكسا تماما في خندق النظام حيث تضعف معنويات أنصاره وتكشف عزلتهم الشعبية ووقوفهم في مواجهة أهداف الشعب وطموحاته المشروعة. ويفسر هذا لماذا يحرص النظام على القمع الدموي الواسع وارتكاب المجازر والترويع البشع حين يتجمع حشد واسع في هذه المدينة أو تلك، رغم السلمية التامة للحشود.

الغرب الإمبريالي والثورة

الغرب الأمريكي والأوربي الذي كان قد قطع قبيل اندلاع الثورة السورية طريقا طويلا في مصالحة النظام السوري منذ فشل العدوان على غزة عام /2008، يقف مترددا  تجاه المنعطف الحاد الذي تصنعه هذه الثورة  في أوضاع المنطقة،  لسبب رئيسي هو غموض بديل   النظام بالنسبة له ، والخشية من أن يكون معبرا حقيقيا عن ضمير وطموحات ووعي الشعب السوري، وبالتالي خطرا كبيرا على( هدوء)الجبهة السورية ـ الإسرائيلية والتوازنات المستمرة منذ أربعين عاما تقريبا، و داعما حقيقيا للمقاومة العربية ضد الصهيونية والنفوذ الغربي، الأمر الذي يرى فيه ذلك الغرب ( تهديدا للاستقرار في المنطقة)  !

ليست حرية الشعب السوري أو الديمقراطية المرجوة هي ما يهم الغرب الذي كان وما زال استعماريا بامتياز،رغم كثرة الثرثرة والمتاجرة بالألفاظ والعبارات الرنانة عن الحرية وحقوق الإنسان.   ما يهم هذا الغرب أساسا ولاسيما  في الوقت الراهن هو بالحد الأدنى تفكيك محور المقاومة الفلسطينية واللبنانية ـ النظام السوري ـ النظام الإيراني ، كنتيجة يتمنى تحقيقها إذا استمرت الثورة دون أن تتمكن من حسم الأمور لصالحها بصورة جذرية ، حيث يضعف النظام ويصير أكثر استعداد لمقايضة علاقته بإيران والمقاومة المعادية للصهيونية( حماس والفصائل الفلسطينية وحزب الله)، مقابل استمرار اعتراف الغرب بشرعية حكمه، واستمرار التعامل معه بالتالي.  وهو ضمان قيام نظام ضعيف وخاضع أكثر للمصالح الغربية، إذا سنحت له الفرصة، بالحد الاعلى.

وفي حين تهتم الإمبريالية الفرنسية بالخلاص من منافسة النظام لها على النفوذ في لبنان، ومن معاداة حزب الله لهذا النفوذ، وتحلم بنفوذ أكبر في سوريا( مستعمرتها السابقة) ، وهو ما كان جاك شيراك قد حلم به طويلا دون أن يكتب له النجاح، فإن الإمبريالية الأمريكية تهتم أكثر بانعكاس الوضع السوري على النظام الإيراني ومشروعه القومي الاستقلالي ونفوذه في الإقليم، ولاسيما قدراته على تهديد  إسرائيل  و مخططاتها، ربطا بقدرات حماس وحزب الله ، كجزء من اهتمامها بتأمين أفضل الشروط لتحقيق الاستراتيجية  الإسرائيلية في المنطقة ( إضعاف كل الكيانات السياسية العربية وتصالحها مع الكيان الصهيوني وخضوعها لنفوذه ، حتى لو استلزم الأمر تمزيقها طائفيا وقوميا على الطريقة العراقية أو اللبنانية).

لهذا كله رأينا الأبواق الأمريكية منذ أيام الثورة الأولى تروج الإشاعات الإعلامية عن دعم حزب الله وإيران  لقوى القمع السورية ،( وكأن النظام يحتاج للمزيد من عناصر القمع ، في حين يمكنه فعليا أن يصدر منها الكثير لدول الجوار ! ). وقد نفى حزب الله ذلك جملة وتفصيلا. وفي حين يمكن لإيران أن تتبادل الخبرات القمعية مع النظام، وأن تقدم له خدمات مهمة في مجال مراقبة الإنترنت وإضعاف فعاليتها ( وهو ما يشاع أنها تفعله) ، فإن أهم مصادر التدريب والتجهيز للمخابرات السورية كانت فعليا ولا تزال هي المصادر الغربية ، وليس الإيرانية ذات الدور الأقل أهمية.

عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الربط  بين النظامين السوري والإيراني و بين المقاومة الفلسطينية واللبنانية، كما تعمل إسرائيل على ذلك باستمرار منذ الثمانينات حين كانت تقول إن  من يقوم بعمليات المقاومة هو( العدو السوري ـ الإيراني!). وإذ تركز اليوم على ذلك فلتضرب روح وإرادة المقاومة ضد المشروع الصهيوني عند الشعب السوري بسحب كراهيته للنظام لتشمل المقاومة أيضا ، وكأنها تقول للسوريين في ابتزاز مكشوف :إذا أردتم دعم أمريكا في تحرككم ضد النظام، فعليكم الوقوف ضد المقاومة ! هذا في حين يمارس النظام ابتزازا آخر على الشعب (وعلى المقاومة بكل ألوانها) حين يربط بين ( الممانعة ) واستمرار الاستبداد ! ويربط من الجهة المقابلة بين الشعب الثائر وبين الأمريكان وأعداء المقاومة !

ومن الأكيد أن الشعب السوري أكبر وأقوى من أن يخضع لأي من الابتزازين :الأمريكي والسلطوي، بقدر ما هو أكيد أن دعمه للمقاومة وموقفه من المشروع الصهيوني ينبع من عمق قناعاته ومبادئه وروحه الوطنية الأصيلة ، وهو ما لن تهزه أو تضعفه مناورات الأمريكان أو مناورات النظام !

 

لابد هنا من ملاحظة أن الإدارة الأمريكية قد صرحت بوضوح بأن موقفها تجاه الوضع السوري يتقرر ربطا بالموقف التركي ( فأكسبته بذلك أهمية دولية كبيرة أضيفت إلى أهميته الإقليمية)، في حين تبادر فرنسا وبريطانيا للعب دور بارز في تطوير مقدمات لا غنى عنها لتوفير عناصر ضغط  دولي قابل لأن يتطور إلى تدخل مباشر ( بالتعاون مع تركيا أو ربما بالاعتماد عليها بصورة رئيسية)  إذا تقاطعت المصالح التركية و الغربية في ذلك في لحظة ما، رغم خطورة هذا الاحتمال على الشعب السوري وعلى الجغرافيا السورية ، وعلى المنطقة ككل. وقد أعطى الرئيس التركي إشارة قوية وخطيرة في هذا الاتجاه في العاشر من الشهر الجاري.

هنا ، لا بد من التأكيد بأن النظام  وحده هو من يتحمل مسؤولية هذه التطورات التي قد تكون كارثية على الشعب والوطن السوريين، حين يستمر في صم أذنيه تماما عن مطالب الشعب ويتابع تعامله الأمني ـ العسكري الدموي مع المواطنين ، مقدما بهذا أفضل الذرائع التي ينتظرها كل الطامعين في وضع يدهم على بلادنا ومستقبل شعبنا، بذريعة وقف جرائم النظام ضد الشعب الأعزل! ( هذا مرة أخرى كلام حق يراد به باطل، تماما كما كان الحال في ليبيا التي صارت فعليا تحت هيمنة ونفوذ أطلسي أشد مما كانت عليه بكثير ، وكما كان الحال في عراق ما قبل الغزو الأمريكي في/ 2003 …( ألم يعلم التاريخ أن الطغاة يمهدون الطريق للغزاة؟ ).

تركيـــــــــــــا

الجار الشمالي الكبير لسورية، القوي عسكريا وسياسيا واقتصاديا، العضو في الحلف الأطلسي، والنافذة الإقليمية والدولية الكبيرة التي انفتحت للنظام في السنوات الأخيرة بعد طول انغلاق وخصومة ، فقدمت له دعما كبيرا في أحلك لحظات أزمته مع الغرب الأمريكي والأوربي بعد مقتل الحريري، تركيا هذه لم توفر جهدا لدفع النظام باتجاه التعقل والالتفات إلى مطالب الشعب والتعامل الإيجابي معها، بحكم مصالحها الكبيرة في استقرار الأوضاع عند جارها الجنوبي الذي يتشارك معها في تاريخ طويل ، وفي بنية اجتماعية وثقافية ودينية وقومية متداخلة ( قوميات وطوائف وأديان )، وفي مصالح سياسية و اقتصادية نمت بسرعة كبرى في السنوات الأخيرة.

رغم كل ذلك ،  أصم النظام أذنيه كليا عن تلك النصائح النابعة من مصالح مشتركة حقا، ومضى في إنكار تحركات الشعب ومطالبه المحقة، وفي التعامل بلغة النار والحديد ، دافعا البلاد بذلك في مسار دموي  خطر قد يؤدي إلى تفجر شامل للمجتمع والجيش ، الأمر الذي لا يتمناه عاقل ولا مخلص لسورية ولا للمنطقة وشعوبها. وبالتأكيد ، لا تتمناه الحكومة التركية!

باستهتار تام تعامل النظام مع نصائح ورغبة تركيا التي يحكمها للمرة الأولى في تاريخها نظام يهتم بقدر من الاستقلال عن السياسية الأطلسية ـ الغربية، وبقدر من التصالح مع تاريخ بلاده وهوية شعبها الثقافية ـالدينية، وبقدر من التصالح مع شعوب المنطقة ومصالحها وهويتها ، وبقدر من التنافر والخصومة مع المشروع الصهيوني بالتالي، وهو استهتار بلغ من عماه أنه لم ينتبه إلى أن الغرب عموما  والولايات المتحدة خصوصا قد ربطت بوضوح موقفها من الوضع السوري بموقف الحكومة التركية بالذات، ما يعني تكليفها  بتحديد السقف الذي سيتحرك الموقف الغربي تحته !

تركيا هذه بدأت تعرب عن نفاذ صبرها من سياسات النظام تجاه ثورة الشعب، وعن استيائها من وحشية القمع ونتائجه السياسية و الاجتماعية والإنسانية التي بدأت تترك انعكاساتها عليها وعلى مجتمعها، وها هي تصرح بلسان رئيسها بأنها مستعدة لمواجهة كافة الاحتمالات لتطور الوضع : سياسيا وعسكريا !

لنتذكر هنا أن الرئيس السوري السابق  قلب سياسته رأسا على عقب بمجرد أن حشدت تركيا بعض جيشها على الحدود الشمالية لمحافظة اللاذقية، حين تصاعدت عمليات حزب العمال الكردستاني ضمن الحدود التركية منطلقة من سورية، فطلب من عبد الله أوج آلان مغادرة الأراضي السورية بالسرعة القصوى،( وهو ماتم وأدى لاعتقاله خلال أيام)، ثم وقع اتفاقا تنازل بموجبه عن لواء اسكندرون  لتركيا رسميا  ، بصمت وسرية تامة … وهو مالم تقدم عليه أي سلطة سورية على الإطلاق منذ سلخ اللواء عام 1939   ! وكل هذا لتجنب الصدام مع الجيش التركي المحتشد، والحفاظ على استمرارية حكمه !

ترى ، ماذا سيفعل النظام السوري اليوم إذا وجدت الحكومة التركية أن مصالحها تقتضي حشد بعض جيشها على منطقة ما من الحدود السورية التركية الطويلة …. بمباركة ودعم من الأطلسي ؟ هل سيطلب من الشعب الذي يذبحه وينكل به بوحشية منذ ثلاثة أشهر أن يقف معه ضد ( الخطر التركي ) ؟!

النظام ….. هل هو كتلة واحدة؟ هل سيبقى كذلك؟

ليس النظام كتلة صماء، و لا أي جماعة بشرية هي كذلك. و في مواجهة التحديات والمحن    حين تتعاظم الضغوط ، يقول العقل ويؤكد التاريخ  أن آراء متنوعة وربما تصدعات وانشقاقات  وتكتلات جديدة يمكن أن تظهر ، تتمايز في فهم كيفية مقاربة الأوضاع ومعالجتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح التي يدافع النظام عنها. ولتوقيت ظهور مثل هذه التمايزات والكتل أهمية حاسمة في قدرتها أو عجزها عن التأثير في مسار الأحداث.

من الواضح حتى اليوم أن أنصار الحل الأمني ـ العسكري هم أصحاب الكلمة العليا في كتلة السلطة صاحبة القرار، وأن هؤلاء يعتقدون واهمين أنهم قادرون على إخماد الثورة بالعنف والمناورات السياسية والإعلامية، و من ثم إجراء تعديلات تجميلية في شكل الحكم ، يحتفظ النظام بموجبها بكل مفاتيح القوة والثروة كما كان حاله في العقود الماضية.

من الواضح أيضا أنه إذا كان هناك من أهل النظام من هو أكثر تعقلا ، و يمتلك رؤية أخرى للأوضاع واتجاه تطورها، مدركا أن النظام مهدد فعلا بخسارة كل شيء على الإطلاق ( كل شيء ، وليس احتكار السلطة فقط) ويرى بالتالي أن الحل السياسي القائم على تلبية  الأساسي على الأقل من مطالب الشعب العادلة  هو الطريق الأسلم لتقليل الخسائر ، وأنه لا مفر من إحداث تغييرات رئيسية في السلطة ونظامها يعاد للشعب بموجبها قدر معقول من حقوقه ،يرضيه مبدئيا و يقنعه بأن مرحلة تاريخية جديدة قد بدأت فعلا  وستفضي بصورة أكيدة إلى نظام ديمقراطي حقيقي ودولة مواطنة مدنية في مدى زمني مناسب،…. إذا كان هناك من أهل النظام من يمتلك مثل هذه الرؤية ، فإنه ما يزال حتى اليوم كما هو واضح في موقع أضعف من أن يؤثر جديا في مسار الأحداث.

وبقدر ما يتأخر ظهور قوة فاعلة في موقع مؤثر من بنية النظام ( مثلا: رئيس الجمهورية كما يطالبه الخارج،أو ضباط من الجيش في موقع فاعل كما طرحت أصوات من اللجان التنسيقية، أو غير ذلك) تتبنى هذا التوجه وتفرضه على النظام ككل في توقيت مناسب  ، فإن تأثيرها وفرصها ستكون أضعف فأضعف إذا استمرت سياسات النظام الراهنة، حتى تأتي لحظة تكون الأمور فيها قد خرجت تماما عن نطاق قدرة أحد من أهل  النظام على التأثير في مسارها ، حين يكون الشعب قد وصل ( نتيجة الحل الأمني ـ العسكري المعتمد) إلى النقطة التي لايقبل بعدها أقل من الإطاحة الجذرية بالنظام ، ومحاسبة رموزه على ما ارتكبوه بحق الشعب والوطن، مهما كان الثمن.  وسيكون النظام عندها هو الخاسر المطلق !

أن تستمر حركة التظاهرات وتتصاعد في كل أنحاء البلاد  رغم وحشية القتل والاعتقالات والتعذيب، ورغم ديماغوجيا الإعلام الرسمي المحرض على الفتن والصراع بين أبناء الشعب وفئاته…..

و أن تتطور مطالب الشعب في مسار الثورة من الإصلاح إلى إسقاط النظام خلال عشر أسابيع من عمر الثورة ، وأن تظهر حوادث انشقاق وتمرد في الجيش في الأسبوعين الأخيرين، وهي مرشحة للتزايد ، وأن ترفض القوى والشخصيات الوطنية  مناورات( الحوار المزعوم) التي تقوم بها السلطة ، محددة عددا من الشروط التي لا بد من تحقيقها لتوفير مناخ مقبول للحوار ( نعرضها في موقع آخر  ) ….

وأن تتصاعد ضغوط الجار التركي حتى تصل مؤخرا إلى الإعلان عن الجاهزية السياسية والعسكرية لأسوأ السيناريوهات المحتملة في سورية،  والتصريح بأن إقامة ( مناطق عازلة) على الحدود هي قيد الدراسة …..

وأن تستغل دول الغرب الاستعماري ممارسات أجهزة النظام وقمعه الوحشي لتصعيد  ضغوطها  وتدخلاتها الدبلوماسية والسياسية ( وربما غيرها لاحقا) ، متحينة الفرص لخدمة أطماعها التاريخية المعروفة تجاه بلادنا وشعبنا   …….

أن يحدث كل هذا في مسار متصاعد فيما النظام يمضي بعناد وانعدام للبصر والبصيرة  في حله الأمني ـ  العسكري الفاشل على كل الصعد ، دون أن يجد في صفوفه من يتوقف ليسأل نفسه إلى أين تمضي الأمور …..   وليدرك أنه لابد من سلوك طريق آخر، وانتهاج سياسة أخرى، وليباشر هذا الطريق و هذه السياسة  بأسرع وقت، فإنما يعني أن النظام بكليته جملة وتفصيلا قد فقد  القدرة على رؤية الواقع المتغير بسرعة وجذرية، وأنه بات (مثلما كان نظراؤه في ليبيا واليمن ومصر وتونس)  أسير عالم مغلق من الأفكار والتصورات الثابتة، لا يرى ما يجري خارجه ولا يستطيع التعامل معه إلا كما تعود قديما، رغم التغير الشامل في الظروف ! وأنه بالتالي يمضي على طريق النهاية المحتومة ، أيا تكن الكلفة على الشعب والوطن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى