صفحات الرأيطيب تيزيني

سوريا ومسيرة “الإنسان”/ د. طيب تيزيني

 

 

لقد تردّدت حين عزمت على الكتابة، قبل سنة تقريباً، تحت هذا العنوان. أما التردّد فكان مصدره أمران اثنان؛ الأول منهما يتمثل في كونه حالة معقدة تعودُ إلى ما يُعتبر انفصالاً للإنسان الاجتماعي الجديد عن بداياته البيولوجية. ويبرز الأمر الثاني في تعقيد البحث بهذا الموضوع؛ لضآلة مصادره ومرجعياته التي نحددها في الأدوات المعرفية والأدلة التاريخية، رغم الاقتراب تدريجياً من ضبط تحولاته التاريخية والمجتمعية والمعرفية والسيكولوجية. في ذلك المنعطف المعقد والثري تتبلور عوامل الانتقال من البيولوجي إلى المجتمعي الإنساني؛ وهي التي تجلت، فيما يرى علماء من القرن التاسع عشر، منهم فريدريك إنجلز، في ثلاثة عوامل كبرى وجامعة، هي القدرة على انتصاب الجسد، وتوافر استخدام الأصابع في لُجَّة العمل الإنساني، وأخيراً في تطور دماغي ملفّع بطاقة جديدة مركّزة من القدرة على ضبط الأشياء منطقياً ومعرفياً ونفسياً. في هذا التحول نسجّل توازياً وتقارباً وتفاعلاً بين الذات الإنسانية والعوامل المجتمعية المؤسّسة للموضوعية. ويبدأ التاريخ الإنساني، وتبدأ معه الصعوبات والتعقيدات وكذلك الحوافز وربما الضرورات لنشوء قدرات على ضبط الموضوعي وتحويله إلى إشارات ورموز وكلمات الخ؛ أما المجتمع البشري فينحو نحو تكامله في مساره التاريخي بأبعاده المتعددة، التي تجعل منه سياقاً بشرياً تاريخياً مفتوحاً.

تلك الأفكار كانت مدخلاً إلى فكرة حاسمة، تتجلى في أن الانتقال من البيولوجي الطبيعي إلى المجتمع البشري بدأ يمثل قطب الرحى في التحول البشري.

ذلك أولاً؛ أما الأمر الثاني فيتجسد في أن عملية التحول المذكورة لم تكن متماثلة في المناطق التي راح يتوضّع فيها. وقد ظهر ذلك خصوصاً في عملية التحول من الطبيعي البيولوجي إلى المجتمعي البشري، لكنه يظهر دائماً وفي كل المجتمعات والمناطق الجغرافية متساوياً أو متوازياً. لقد اكتسب ذلك التحول احتمالات مفتوحة تمثلت في التقصير أو في عدم التكامل والتقارب بين تجمع الكائنات الحية وفي مراحل انتقالها من البيولوجي الطبيعي إلى المجتمعي البشري. وهاهنا نكون قد وضعنا يدنا على الاختلافات اللاحقة التي ستظهر بين الحضارات هنا وهناك، الاختلافات التي تجلّت في نِسب التطور المجتمعي والذهني واللغوي وغيره.

وهنا نقول إن فرقاء من تلك الكائنات الحية المتعددة قاربت البنية الإنسانية، دون أن تندمج بها وتتوحد فيها. فالتحول من الحيواني إلى الإنساني لم تتح له إمكانات الاتساق العقلي والنفسي والعاطفي على نحو يحقق التحول بكيفيات متناسقة مع الممارسات المجتمعية الجديدة. وعلى هذا، فقد ظل العامل الثالث في الانتقال الناجز من البيولوجي الطبيعي إلى المجتمعي الإنساني، ضئيلاً وغير حاسم في البنية الدماغية. وهذا ما تجلى في المراوحة بين الوحشي من طرف والإنساني من طرف آخر.

لقد لاحظت ذلك شخصياً في سياق مساعدة المراهقين والمظلومين والمدانين وذوي المعتقلين والمخطوفين والمفقرين المذلين وغيرهم من الرجال والنساء والأطفال. فسمات من يقومون بمواجهة هؤلاء قريبة من سمات وهيئات ومظاهر الأفاعي القاتلة السامة. لقد ظهر في سياق ذلك الفعل الدّامي أن ثنائية الوجود والعدم في حياتهم هي أقرب إلى العدم: فأولئك بعد أن يقترفوا أشنع طرائق القتل والاستباحة والتدمير، يلجؤون لحرق ما تبقى من مظاهر الحياة الإنسانية، مجسدين تلك الثنائية لمصلحة الإماتة والتفجير والسحق.

وبذلك تدور دورة التاريخ البشري، والسوري من ضمنه، بمشاركة الوحوش الضارية في الوصول إلى موت محقق للسوريين؛ لكن في هذا وذاك، يتصاعد ضوء يكاد يتماثل مع شمس الحياة في وطن عريق يتجدد!

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى