صفحات سورية

سورية: آفاق المخرج الوطني

 


عبدالباسط سيدا

بداية أتوجه بالشكر والتقدير إلى منبر استانبول لدعوته إلى هذا اللقاء.

قبل كل شيء أود أن أسجل هنا اختلافي مع بعض الأخوة من السوريين والأتراك الذين قالوا أن نظام الحكم في سورية قد فقد شرعيته حينما أطلق النار على شعبه الذي من المفروض أنه منه يستمد المشروعية؛ وحجتي في ذلك تقوم على أن هذا النظام لم يمتلك المشروعية قط في أي يوم من الأيام.

فهو نظام أساسه انقلاب عسكري، تم بموجبه استيلاء العسكر على السلطة في الثامن من آذار 1963. إنه نظام يفتقر إلى المشروعية الشعبية والمشروعية الدستورية، وحتى المشروعية “الثورية”- الانقلابية، هذه المشروعية البدعة التي هي في حقيقة الأمر مجرد هرطقة هدفها تسويغ اللامسوغ ؛ فجميعنا يعلم أن الرئيس السابق حافظ الأسد انقلب على رفاقه، واستلم الحكم في عام 1970، وفرض على السوريين دستوراً غريباً تقول المادة الثامنة منه: إن حزب البعث هو الذي يقود الدولة والمجتمع؛ هكذا ومن دون أية انتخابات ديمقراطية تكون معبرة عن إرادة الناس.

حزب البعث هو حزب سياسي قد يقود الدولة؛ ولكن لماذا سيقود المجتمع أيضاً. واضح أن هذه المادة تؤكد بجلاء لا دستورية الدستور الذي أتى به حافظ الأسد. ولكن حتى هذا الدستور الإشكالي خضع للخرق في أيام الرئيس السابق وبعد وفاته. ففي عهد حافظ الأسد تم إخضاع الدولة والمجتمع في سورية للأجهزة الأمنية تحت يافطة حزب البعث. وبعد وفاة الأسد الأب تم خرق الدستور مرة أخرى، وذلك حينما قرر الأمراء اللامرئيون الذين يحكمون سورية تثبيت ابنه رئيساً لسورية ؛ فقد عدل هذا الدستور خلال دقائق، ليتناسب بالتفصيل مع مقاسات الرئيس الجديد الذي ورث الجمهورية في إطار هرطقة جديدة، كاد لها أن تتكرر في مصر واليمن وليبيا لولا ثورات الشعوب العربية المباركة التي قطعت الطريق على هذه اللعبة وغيرها.

لن أتحدث هنا مطولا عن الانقلابات لأنكم أيها الأخوة والأخوات تعرفون جيدا ماهية الانقلابات والنتائج المترتبة عليها، خاصة في تركيا.

إننا نعاني في سورية وضعاً معقداً مأساوياً إلى أبعد الحدود. فنحن لا نعلم من هو الذي يحكم البلد بالفعل. الحكومة مجرد واجهة؛ ومجلس الشعب هو الأخر مؤسسة مسلوبة الإرادة. القضاء مشلول. إنها مؤسسات مهمتها التزييف، في حين أن الأمراء اللامرئيين في الدويلة العميقة هم الذين يتحكمون بالدولة والمجتمع في سورية، كما يتحكمون بمصائر الأفراد. لا أود التفصيل في هذا الموضوع نظراً لضيق الوقت، ولكونكم تعرفون جيدا في تركيا ما معنى الدولة العميقة التي عانيتم منها كثيراً.

باختصار أقول أن وضعنا في سورية يشبه وضع البطل في رواية كافكا، نعيش اغتراباً عميقاً، لا نعلم لماذا نُحاكَم، وما هي التهمة، ومن هو الذي يُحاكِم؟

المشكلة الأساسية في سورية أن الثقة معدومة بين الشعب والنظام، وهذا أمر طبيعي منطقي طالما أنه نظام الأمر الواقع، نظام لا يتمتع بأية مشروعية كما أسلفت.

النظام القائم في سورية يجسد مركب الاستبداد والفساد أو الإفساد كما أستخدم عادة. وأساس الفساد هو الاستبداد. إنه نظام أمني بكل المقاييس، نظام وصفه بدقة في الثمانينات أستاذي الدكتور طيب تيزيني حينما قال: سابقا كنا نتحدث عن أمن الدولة. الآن نتحدث عن دولة الأمن. شعار هذه الدولة إفساد من لم يفسد بعد، وإدانة الجميع كي يكونوا تحت الطلب. هذه الصورة كانت في الثمانينات، ولكنها راهناً باتت أكثر قتامة وقساوة وشمولاً.

تعيش سورية في يومنا هذا كبتاً مستمراً للحريات، وتعاني من تراجع متواصل في ميدان الاقتصاد. أكثر من نصف سكان سورية يعيشون تحت حد الفقر. شبكات الدعارة والمخدرات برعاية أجهزة المخابرات تنتشر في طول البلاد وعرضها؛ إنه أمر إيلامي يمس كرامتنا السورية في الصميم أن نتناول موضوعا كهذا هنا، لكنه واقع نعاني منه بكل أسف وأسى كل يوم. يحدث هذا كله في سورية على الرغم من إمكانيات سورية، وخبرة السوريين، وقدرتهم الإبداعية وإرثهم الحضاري. فنحن الذين قدّمنا الأبجدية إلى العالم، وتعلمون جيدا معنى وأهمية الأبجدية بالنسبة إلى الحضارة الإنسانية؛ كما أن سفننا أيام الفينيقيين كانت تجوب سواحل الدنيا في إطار تواصل حضاري متميز. أما اليوم فالمواطن السوري يعاني الأمرين من سلطة الاستبداد في الداخل؛ وهو موضع كل الاتهامات في الخارج، إنها مأساة كبرى.

المواطن السوري لا يثق بمجلس الشعب، ولا يثق بالحكومة ولا بالقضاء. كما أنه لا يثق بمجالس المحافظات والأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية الر سمية. أما بالنسبة إلى الجيش الذي من المفروض أن يكون مؤسسة وطنية جامعة لكل السوريين، فهو يعاني من مشكلتين أساسيتين:

الأولى : تتمثل في تحويله إلى جيش عقائدي، وهذا معناه تحويله إلى مؤسسة تابعة لحزب البعث، في حين أنه من المفروض أن يكون مؤسسة وطنية بعيدة عن السياسية الحزبية؛ مؤسسة تخص كل السوريين، مهمتها الدفاع عن حدود البلاد وحماية أمن الموطنين لا قصفهم وقتلهم.

أما المشكلة الثانية التي يعاني منها الجيش فهي تتشخص في النزعة الطائفية التي تحاول السلطة ترسيخها انطلاقا من قاعدتها المعهودة: فرّق تسد.

فالطوائف السورية الكريمة من سنية وعلوية ودرزية، والطوائف المسيحية جميعها جزء من النسيج الوطني السوري الذي به نعتز ونتباهى. ولكن أن يلجأ النظام إلى الإيحاء عبر ممارساته بأنه مناصر لهذه الطائفة أو تلك دون غيرها، فهذا معناه الإخلال بسلامة الوحدة الوطنية التي ينبغي أن تكون فوق أي اعتبار.

نحن في سورية مجتمع متعدد المكوّنات؛ مجتمع يتألف من طوائف وقوميات متعددة. نعم هناك غالبية عربية، وهناك غالبية سنية، ولكن المكوّنات الأخرى موجودة، لدينا الكرد والسريان والأرمن والتركمان والشركس والجاجان وغيرهم من المكونات القومية، إلى جانب الطوائف الدينية التي أتيت على ذكرها.

المجتمع السوري يحتاج إلى ضمانات أكيدة تطمئن الجميع، وتصادر على أية احتمالية من شأنها تعزيز روحية الانتقام أو عقلية الإقصاء. السوريون لا يريدون ما حدث في العراق.

لقد اعتمد النظام بسلوكيته اللامسؤولة، ورغبته في البقاء بأي ثمن، الطائفية وسيلة لامتلاك قوة الأمر الواقع، وذلك بفعل افتقاره إلى الشرعية الديمقراطية التي هي أساس كل الشرعيات. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الطائفة العلوية الكريمة هي الأخرى تعاني مما تعانيه المكونات السورية الأخرى من غبن وتسلّط، والأمثلة في هذا المجال كثيرة.

أيها الأخوة أيتها الأخوات:

إن ما يجري راهناً في سورية إنما هو حصيلة استبداد السلطة من جهة، ووعي السوريين وإصرارهم على تحقيق مطالبهم المشروعة المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية.

لقد صبر السوريون كثيرا، وتحملوا كثيرا على مدى ما يقارب الخمسين عاماً؛ ولكن هاهو النظام يطلق النار بدم بارد على مواطنيه العزل المتظاهرين سلميا في معظم المناطق السورية، مطالبين فقط بالحرية والكرامة.

الإعلام الرسمي في سورية يمارس ديماغوجية تضليلية تثير الأسى والقرف. يتحدث عن المتآمرين والمندسين والعصابات الإجرامية، في حين أننا نعلم أن الإنجاز الوحيد لهذا النظام هو الإنجاز الأمني؛ فلا أحد يستطيع أن يتحرك في سورية من دون معرفة وإرادة الأجهزة الأمنية. كما لا توجد في البلد صحافة حرة محايدة، سواء وطنية أم عربية أم دولية.

يزعم الإعلام السوري الرسمي أن أعداد المتظاهرين محدودة رمزية، مقارنة مع مصر وتونس، ولكن من هو مطلع على خبايا الشأن السوري يعلم جيدا أن هؤلاء يحملون دماءهم على أكفهم ويخرجون؛ وهذه بطولة نادرة إن لم نقل غير مسبوقة. إن خروج عشرة آلاف في سورية يعادل خروج عشرة ملايين في مصر أو غيرها، وذلك إذا أخذنا واقع المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الناس في سورية راهناً ومصر أيام الثورة بعين الاعتبار.

أيها الأخوة أيتها الأخوات:

الوحدة الوطنية السورية الحقيقية تنجز اليوم بصورة رائعة في أحضان ثورة الكرامة السورية؛ وهنا لابد من الإشادة بالشعار الجميل الذي أبدعه شعبنا: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. إنه شعار ينبعث من العقل ويلامس شغاف القلب؛ شعار يتضمن دلالات رمزية كبرى علينا أن نبني عليها مستقبلاً، وذلك من أجل تعزيز الوحدة الوطنية السورية على قاعدة احترام الحريات والخصوصيات في إطار وحدة البلاد.

لندع شجوننا هذه جانباً على الرغم من قسوتها، ولنبحث عن المخرج إنقاذا للوطن وأهله. وما سأقدمه هنا عبارة عن جملة أفكار حول مشروع وطني سوري للإنقاذ. وهي أفكار قد تصلح اليوم، ولكنها ربما لن تعود ذلك بعد أسبوع أو أكثر، وذلك تبعاً لتطورات الأحداث وتفاعلاتها.

المشروع المقترح يتكوّن من قسمين: الأول يمثّل خطوات لابد منها لبيان حسن النية وتعزيز الثقة. في حين أن القسم الثاني يشمل الآليات والخطوات التي من شأنها تمكيننا من الوصول إلى بر الأمان.

أولاً- خطوات إثبات حسن النية وتعزيز الثقة:

آ. وقف إطلاق النار على المتظاهرين سلمياً، وتكليف لجان لها مصداقيتها الشعبية – فشعبنا صراحة لا يثق بمزاعم السلطة- بفتح التحقيقات الجادة، وذلك للكشف عن الفاعلين، وتقديمهم إلى المحاكم المختصة، لينالوا الجزاء المستحق.

ب. إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الضمير مع الاعتذار والتعويض.

جـ. السماح بعودة المنفيين لأسباب سياسية أو فكرية تتصل بحرية الرأي والتعبير من دون أية قيود أو شروط، مع اتخاذ الخطوات التي من شأنها تمكينهم من الاندماج في المجتمع بصورة سلسلة وفاعلة. وهنا لا بد من إلغاء قانون العار، قانون 49 لعام 1980 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي إلى جماعة إخوان المسلمين.

د. تقليص حجم ودور الأجهزة الأمنية بمحددات قانونية واضحة، وإخضاع عناصرها وضباطها للمساءلة والمحاسبة العادلة الشفافة عبر مجلس الشعب والحكومة.

هـ. إصدار قانون الأحزاب بصورة فورية.

و. حل مجلس الشعب، وإقالة الحكومة، لأنهما في صيغتهما الحالية لا يجسدان بالمطلق الإرادة الحرة للسوريين.

ثانيا- آليات وخطوات المشروع الوطني السوري الإنقاذي المقترح:

آ. تشكيل هيئة وطنية انتقالية للحكم ( لا يهم الاسم) تحظى بثقة الشعب، وتعبر بصدق عن واقع التعددية سواء المجتمعية أم السياسية أم الفكرية التي يتميز بها المجتمع السوري.

يقود هذه الهيئة السيد رئيس الجمهورية، إذا ما أثبت استعداده وقدرته في ميدان تنفيذ خطوات إثبات حسن النية وتعزيز الثقة المأتي على ذكرها. ورئيس الجمهورية بالمناسبة يمتلك صلاحيات واسعة، فهو رئيس الدولة والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ورئيس الجبهة الوطنية التقدمية، والأمين العام لحزب البعث، ورئيس مجلس الأمن القومي ومن صلاحياته حل مجلس المجلس الشعب وإقالة الحكومة وإصدار المراسيم…الخ؛ وبناء على تلك الصلاحيات عليه أن يبين لشعبه أنه الحاكم الفعلي؛ وبالتالي عليه أن يبادر إلى معالجة الوضع من موقع مسؤولياته. إما إذا كان عاجزاً عن ذلك فعليه تبليغ شعبه بذلك. أما أن تستمر الأزمة متفاعلة، وهو جزء فاعل في تفاقمها، أو أنه يقف منفعلاً من دون إرادة وتبرئة للذمة، فهو يتحمل الذنب في الحالتين.

وفي حال إخفاق الرئيس أو عدم رغبته في تسلم مهمة الإنقاذ الوطني، يتسلم الدكتور عارف دليلة قيادة المرحلة، باعتباره مرجعية وطنية يشهد لها ويقبل بها الجميع؛ مرجعية تمثل صمام أمان بالنسبة إلى خصوصيتنا السورية في المرحلة الانتقالية المفصلية هذه، مرجعية تمتلك المصداقية والكفاءة والقدرة.

ب. تدعو الهيئة الوطنية الانتقالية إلى حوار وطني شامل، يضم أطرافاً من سائر القيادات السياسية السورية، ومن جميع المكوّنات المجتمعية السورية، وكتابة دستور دائم، يكون بمثابة عقد وطني جديد، يؤسس لجمهورية سورية ديمقراطية، مع الأخذ في الحسبان ضرورة حل المسألة الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً على أساس اعتبارها جزءاً من المسألة الوطنية الديمقراطية العامة التي تهم سائر السوريين، وعلى قاعدة المحافظة على وحدة البلاد واحترام الخصوصية القومية الديمقراطية، وذلك من أجل تعزيز قوة ومناعة الوحدة الوطنية.

جـ. طرح مشروع الدستور الجديد على استفتاء شعبي شفاف، يتم تحت مراقبة هئيات المجتمع المدني المختصة من وطنية وعربية ودولية. هذا إلى جانب تغطية إعلامية حرة لكل المناقشات والنشاطات الخاصة بالاستفتاء.

د. انتخاب مؤسسات الحكم من برلمان ورئاسة دولة وحكومة بصورة ديمقراطية بناء على الدستور الذي من الضروري أن يضمن مسألة التداول السلمي للسلطة، وذلك وفق جداول زمنية يتم الاتفاق عليها ضمن الهيئة الوطنية للكم، وتثبت ذلك في الدستور.

هـ. ابعاد الجيش عن السياسة الحزبية، ليكون مؤسسة وطنية عامة لجميع السوريين؛ مهمتها حماية حدود البلاد وسلامة المواطنين عند بروز أي خطر خارجي.

هذه هي الخطوط العامة للمشروع الوطني الإنقاذي المقترح، وهو مشروع مطروح للمناقشة بغية الحوار حوله من أجل ضبطه وصقله بصورة أفضل؛ والإضافة إليه أو تطوير بعض أفكاره، وذلك تمهيداً لإقراره والعمل به.

الرحمة لشهدائنا. العزيمة لشبابنا. ولتسلم سورية عزيزة أبية.

قُدمت هذه الورقة إلى لقاء استانبول من أجل سورية (26/27-04-2011)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى