صفحات سورية

سورية بين فسطاطين: حرية حرية.. عبيد عبيد

 


أحمد كالو

أثارت صورة سجود سوريين لصورة الأسد حفيظة كثيرين في الداخل وغرابة في الخارج.

والسجود لا يبدو طارئا أو طفرة، فاتصالات عدة متصلين موالين مع فضائيات متنوعة أصرّت على إظهار ولائها للرئيس بطريقة العبودية والسجود! حاول مذيع قناة الحوار إفهامهم بأنهم بشر، الزعماء والمتصلين كلاهما. وان الزعماء ليسوا رسلا ولا آلهة كما يزعمون، وان “عبادتهم للزعيم تسيء إلى الزعيم نفسه! متصل موال قال منشدا شعرا ضارعا جاء في عجز البيت الشعري: “ديني البعث وربي بشار الأسد” فحاول المذيع السوري أن يلطف عبارته بتأويلها وتخفيف حمولتها ومقارنتها بتعبير العاشق لحبيبته: أنا أعبدك. فلم يسعفه الشرح والتأويل والتبرير، فالفارق كبير بين حب الذكر للأنثى وعلاقة حب المواطن للزعيم فالعاشق مساق بغريزة الحب والجنس والحنين إلى الاتحاد في نفس واحدة، هي النفس الأولى! العبودية السورية “البعثية ” هذه لم تحدث في الاتحاد السوفيتي أيام ستالين ولا في الصين أيام ماو تسي تونغ، اللتين ظلت شموليتهما وتقديسهما للزعماء مغلفتين بالحداثة الحزبية السياسية بل أنها لم تحدث حتى في ليبيا القذافية، فهل هي وثنية سورية جديدة في بلاد التوحيد؟

يذكر الكواكبي في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله. و تنسب كتب التاريخ بدعة جلب الأصنام إلى مكة الموحدة إلى عمرو بن لحي التي احضرها من بلاد الشام، أما صناعة أسطورة الزعيم السوري حافظ الأسد فصانعها هو احمد اسكندر احمد، انه احمد بن لحي البعث المعاصر.

إحدى طلبات المعارضة السورية على الفيس بوك كانت إزالة صور بشار الأسد وأبيه من الشوارع، لكن المعارض حسين العودات اعتبر هذا الطلب مسألة شكلية، ونسي أنّ النظام بنى مضمونه الاستبدادي على شكل وثني هو تقديس الصورة والصنم، الشكل والمضمون باتا متداخلين. اكبر اتهام كان يواجه السوري خلال هذه الحقبة السوداء هو الحديث في السياسية أو الإساءة إلى صورة الرئيس. لو اهتّز الشكل أو تمّ خدشه لضعف المضمون؛ تلك كانت القاعدة. الإعلامي الرسمي شريف شحادة احتقر الفيس بوك الذي قاد ثورتين عظيمتين في مصر وتونس و قال أنّ صور الرئيس ستبقى في عيون السوريين لأنها موجودة في قلوبهم. لكن الأمن يتعاطى مع الفيس بوك بكل جدية وينتشر في الشوارع حذرا. قال شحادة : عندما تستلمون السلطة (أيها المعارضون) أزيلوها.هذا القول جديد في سوريا التي لم يكن لأحد فيها أن يخطر له التشكيك باحتمال إزالة الصور. كان يمكن القول، في حلّ وطني وسط، أنّ رمزية العَلَم جامعة وشبه تجريدية وتسع السوريين كلهم ، أطيافا وأعراقا، فهي ألوان تنتمي إلى حزمة قوس قزح الطبيعية، وترمز إلى أهم مراحل سوريا التكوينية، العلم يبقى و الزعماء زائلون .

الشيوخ الذين التقاهم الرئيس لساعات، طلبوا حسب أقوالهم التي سربوها للناس – ما دام الإعلام قد سكت عن نقل الأحاديث التي دارت بين الرئيس و الوفود- أن يمنع التصرفات “الكافرة” في الشوارع، واعترضوا على عبارات “كافرة” تملأ الشوارع “و اشتكوا من “الأصنام” التي لا يقرها الإسلام ، ومن عبارات شركية مثل “إرادتان لا تقهران، إرادة الله وإرادة الشعب” فالشعب ليس إلها منافسا لله، أصلا الشعب غائب. وطلبوا إزالة عبارة “إلى الأبد” التي قيلت في الزعيم الأب الراحل الذي لم يبق إلى الأبد جسديا وقد يزول حزبيا وسياسيا، وهو أمر متروك للتاريخ وليس للهراوة ومفارز الأمن. الزعيم الذي عندما رحل ابنه الأكبر في حادث سير تصدرت التلفزيون الوطني عبارة مواسية تقول للزعيم: “فاصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا” وهي آية قالها الله عز وجل لنوح، نبي الله عليه السلام الذي كفره قومه، وكفر بدعوته ابنه!

توازي العبارات اللدنية لاهوتية عبارات دنيوية تعظيمية، تجاوز المبالغة إلى حد التهريج؛ مثل التي قالها احد أعضاء مجلس الشعب للرئيس في خطابه الأول: أنت تستحق أن تقود العالم؟ وهذه العبارات تجعل الطريق صعبا إلى الديمقراطية وتهين الشعب السوري العريق” الذي لا يستحق الزعيم” وهي عبارة قالها مخرج كوميدي خمس نجوم! ظلم للزعيم رفع إلى هذه المراتب تجعل سقوطه مؤذيا، له وللشعب الذي تمّ إنزاله في نصف قرن إلى ما تحت الصفر.

عاشت سورية بعد الاستقلال حقبة رائدة وان اتسمت بالقلق السياسي في القمة السياسية لكنها كانت مستقرة في القاعدة الشعبية، وهو ما انقلب إلى الضد الآن. وتشير مذكرات التاريخ إلى أنّ رئيس الجمهورية في مرحلة ما قبل البعث وبعد الاستقلال، كان يسكن في بيت مستأجر، ولا يحرسه سوى موظف يغادر ليلا لينام في بيته! وفي مذكرات عبد السلام العجيلي “ايام السياسة” ذكر انه في إحدى المحاضرات في الثمانينات، في مركز ثقافي في دمشق، أنّ عاملة مقسم الهاتف اتصلت به لتستأذنه في البوح برقم منزله الهاتفي في حلب لرئيس الجمهورية ناظم القدسي فاعتذر ليستمتع بوقته، فصفّر جمهور الحاضرين صفيرا طويلا مدهوشا من السويد التي كانتها سورية يوما!

الامبراطور الياباني الإله الشمس، اقتضى إنزاله من الإلوهية قنبلتين نوويتين، وإنزال صدام من عرشه الذهبي اقتضى حربا وكذلكم القذافي الملهم، ولا ندري كم ستكلف عملية إعادة انسنة الزعيم السوري.

كاتب سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى