بشير عيسىصفحات سورية

سورية بين مؤتمرين


بشير عيسى *

لا للحوار، هكذا ردت المعارضة بعد مقاطعتها اللقاء التشاوري من أجل مؤتمر الحوار الوطني الذي دعت اليه القيادة السياسية في تاريخ 10/7/2011، معتبرةً أن النظام يحاور نفسه. وقد اشترطت قبل الدخول في أي حوار، بسحب الجيش والقوى الأمنية إلى خارج المدن والبلدات، مع وقف عمليات المداهمة وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الأحداث، ومحاسبة كل من أطلق النار على المتظاهرين، بمعنى توفير مناخ ملائم يعكس جدية النظام للحوار.

هذه الشروط، يرى فيها معارضون كثر مدخلاً صحياً، يؤسس لحوار وطني حقيقي يمكن أن يشكل انعطافة في طريقة تعاطي النظام للأزمة، ويفتح الباب لحلول سياسية يعطلها الخيار الأمني، على خلفية فوبيا المؤامرة التي تماهى النظام معها، فغدت المنطلق والأرضية التي يتحرك عليها، مع إدراكه الضمني أن الشعب لم ينتفض من فراغ، والمطالب التي نادى بها محقة وعادلة.

غير أن النظام من موقعه وتركيبته، أسير ذهنية انقلابية أوصلته الى الحكم، فتمسك بها حتى تمكنت منه، ولأنه انقلابي، فقد أقصى معارضيه بدستور، ضمِنَ له استمرارية تحكمه بالدولة والمجتمع، فجاءت المادة الثامنة كتشريع لدفن الحياة السياسية وإحياء لأبدية حزب اختزل بشخص أمينه. وهو ما يفسر عجز النظام عن إجراء أي انتخابات، مكتفياً بالاستفتاء على الرئيس، الأمر الذي أنهى حتى الديموقراطية الحزبية، لتحل الولائية بديلاً وطريقاً للكسب وتبوّء المناصب، فغدا الفصل بين النظام والدولة استحالة. هذا النهج التوتاليتاري أدى الى ضمور الصيغة الأخلاقية في المجتمع. وبإتباع سياسة التدجين، القائمة على مبدأ الترهيب والترغيب، نشأت التقية المجتمعية، مشَكلةً الحاضن والمنتج للصيغة الانتهازية، كمعيار بديل عن الأخلاقية، أسست لتوغل الفساد الإداري والمالي في المجتمع والدولة.

والسؤال هنا: هل يستطيع هذا النظام أن يقوم بعملية بيروسترويكا تنقله من حالة النظام المأزوم، المساهم في إنتاج الأزمة إلى حالة المشارك في معالجتها؟ الإجابة بحاجة الى كثير من التمعن والترقب لما ستحمله الأيام، فالنظام ككل شيء موجود في الطبيعة، قابل للتغير والتبدل بحكم حركية الزمان والمكان، بالتالي هو أمام خيارين، إما أن يتغير أو ينفرط، نظراً للمأزق الوجودي الذي وصل إليه، إذ إن تماسكه لا يعني بالضرورة تجانس مكوناته، فالطارئ المستجد الذي أفرزه الحراك الشعبي استطاع خلخلته، وهو ما فرض عليه إعادة النظر في كل سياساته وممارساته. وأي مراقب للشأن السوري يلمس تحولاً في الخطاب الرسمي وإن من حيث الشكل، فالصدمة أيقظت النظام من مواته، فكان مؤتمر الحوار الذي أقر علناً بشرعية المعارضة، أول دليل لعودة النبض إليه، وإذا افترضنا أن النظام يحاور نفسه، فذلك شيء ايجابي يمكن البناء عليه كخطوة أولى. لذلك يجب التأني قبل إصدار الأحكام، كون العمل السياسي يستلزم جهداً عالياً من التركيز ينأى بنا بعيداً عن الأفكار والتصورات النمطية، إذا أردنا تغليب سلامة الوطن على القصاص من النظام. الشيء الذي يحتم على النخب القيام بدور أكبر لتغليب الواقعية السياسية وتخليصها من الانفعالية والكيدية، كي لا تنجر للفعل ورد الفعل، فتعيد من حيث لا تريد إنتاج خطاب مضاد لا يقل شمولية عن خطاب النظام، ويكون مقدمة لصدام يفكك المجتمع بدلاً من احتوائه بكل تناقضاته.

فالمعارضة بالمنطق السياسي لها الحق في عمل ما تراه مناسباً، لكن هذا لا يعفيها من تقديم تضحيات مضاعفة يخرجها من خندق المواجهة إلى العمل التواصلي، لتكون جسراً وممراً يفتح الطريق أمام حوار تناضل من أجله إذا أرادت العبور نحو دولة مدنية ديموقراطية، من دون أن يعني ذلك وقف الحراك، فالحراك يجب أن يستمر حتى تحقيق كل ما تحدث النظام به ولم يفعله. فمؤتمر الإنقاذ الذي دعت اليه بعض قوى المعارضة في اسطنبول في تاريخ 16/7/2011 وبحثه في تشكيل حكومة ظل تكون بديلاً للنظام وأن الأسد بات في حكم اللاموجود، قد أتى في سياق رد الفعل المتسرع على مؤتمر الحوار الوطني، وهو ما أوقع المجتمعين في خلافات حادة، نتج منها رفض لفكرة حكومة الظل، والاستعاضة عنها بهيئة إنقاذ، لم ترض الكثيرين، إضافة الى انسحاب الأكراد بحجة تهميشهم، في إشارة الى عروبة الدولة.

لذلك نأمل من المعارضة، إعادة تصويب خطابها بعيداً عن التشنج السياسي، وأن تتحرك في شكل جدي لتطويق واحتواء المناخ الطائفي والإثني الآخذ في التنامي، والذي بدأ يلامس حراكها، إذ إن التأكيد المستمر على نفي الشيء يدل على حضوره الطاغي، ولو افترضنا أن ما يتداوله الناس لا يشكل حقائق بقدر ما هو إشاعات يطلقها النظام، ففي ذلك إشكالية أخرى، لأن الإشاعة حين تلامس المخاوف والرغبات تصبح أقوى من الحقيقة، وعليه يجب التعاطي معها كحالة موجودة لها حضورها المحرك والمشكل للمخيال الشعبي. إن صور التظاهرات بين موالاة ومعارضة وتموضعها ضمن جغرافية ومناطق يدركها السوريون تذهب في السياق نفسه الذي نورده. من هنا يجب إعادة النظر في قول «الشعب قال كلمته» توخياً للدقة، لأن الأسد حين قدم نفسه كشخص «يريد الإصلاح» استطاع أن يجد له مكانة مضافة خارج النظام والطائفة، يستوجب الأخذ بها كمعطى، أعاد تشكيل أو تغيير الواقع، حيث طاول أوساطاً عريضة، تأمل بتغيير لا عنفي، يحفظ الاستقرار بشقيه الأمني والاقتصادي.

لقد أعاد خلاف المجتمعين في اسطنبول بالأذهان، خلافهم السابق في انطاليا، والسؤال: في حال تم إسقاط النظام كما يأمل المجتمعون، هل سيخوض الشعب «ثورة» أخرى على شكل الدولة المدنية؟ على اعتبار أن الخلاف لم يتم حسمه بين العلمانيين والإسلاميين، فالإجماع على إسقاط النظام على رغم أهميته، ليس كافياً ما لم ينجز التصور البديل، كبرنامج عمل جامع يتجاوز الانقسامات المؤجلة، والذي من شأنه طمأنة معظم أطياف المجتمع السوري.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى