صفحات العالم

سورية: تخبط النظام في التعامل مع المبادرة العربية


د. بشير موسى نافع

لم تكن موافقة الحكومة السورية على المبادرة العربية، التي أعلنها المجلس الوزاري للجامعة العربية يوم الأربعاء، 2 تشرين ثاني/نوفمبر، مفاجأة.

المفاجأة أن النظام بدا بعد الموافقة وكأنه فقد بوصلته الاستراتيجية، وأظهر تخبطاً كبيراً في التعامل مع المبادرة. مثل هذا التخبط يعزز من وضع الشعب السوري وقواه السياسية المعارضة في هذه الأزمة الأصعب والأكثر دموية بين كل أزمات التغيير العربية.

كان النظام السوري قبل شهرين قد رفض اقتراحاً عربياً للتخروج من الأزمة، أكثر تفصيلاً من المبادرة الحالية، ومعه محاولة الجامعة للتدخل في الشأن السوري كلية؛ وهو الرفض الذي أبلغ به الأمين العام للجامعة في زيارته الثانية لدمشق بلا مواربة، وفي لقاء مع الرئيس بشار الأسد شخصياً. ولكن الأمور خلال الشهرين الماضيين تغيرت إلى حد كبير. الحملة الأمنية الهائلة، ودرجة القمع الدموي العالية وغير المتحفظة، التي تعهدتها قوات الجيش الموالية والأجهزة الأمنية خلال شهر رمضان، انتهت إلى فشل ذريع. لا القتل العشوائي الأعمى في مدن مثل حماة وإدلب وحمص دير الزور وبلدات ريف دمشق، ولا اعتقال الآلاف من كافة أنحاء البلاد، نجح في إخماد الحركة الشعبية المشتعلة منذ منتصف آذار/مارس. إن كان ثمة من نتيجة لتصعيد الحل الأمني والعسكري، فقد كان في تخلي قطاعات متزايدة من الشعب السوري عن مساندة النظام، وقطاعات أخرى لا تقل اتساعاً عن موقف الصمت واللامبالاة.

من جهة أخرى، ينحدر اقتصاد البلاد إلى ركود لم يشهده منذ عقود، بعد أن كادت حركة التصدير والاستيراد أن تتوقف، ونفدت الأرصدة المالية من العملات الاجنبية لدى البنوك السورية. كما تتراجع الموارد المالية للدولة بمعدلات خطيرة، سيما وأن العقوبات التي فرضت على النظام دخلت مرحلة التطبيق القاطع منذ منتصف تشرين أول/اكتوبر.

كانت دوائر النظام، مثلاً، قد أظهرت استهتاراً سياسياً بالمقاطعة الغربية للنفط السوري، الذي يدر على مالية الدولة ما بين 7 – 9 مليارات سنوياً، مشيرة إلى أن سورية سرعان ما ستعوض الأسواق الغربية بأسواق أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية. ولكن المؤكد الآن أن إيجاد مثل هذه البدائل لن يكون يسيراً، سيما أن النفط السوري من النوع الثقيل، الذي لا يصلح سوى لعدد قليل من مصافي النفط الأوروبية.

من جهة ثالثة، نجحت قوى المعارضة السورية، التي راهن النظام طوال الشهور الماضية، في لم صفوفها، والاتفاق على تشكيل المجلس الوطني الموسع. لم يضم المجلس الوطني أغلب قوى وشخصيات المعارضة السورية في الخارج فحسب، ولكن أيضاً قوى إعلان دمشق، والقطاع الأكبر من التنسيقيات المحلية، التي تنظم الحراك الشعبي وتقوده.

وما أن أعلن عن تشكيله، حتى خرج السوريون في كافة أنحاء البلاد لمبايعة المجلس الوطني ممثلاُ للثورة السورية؛ وهو الأمر الذي انعكس في استقبال قيادات المجلس في عدد من العواصم الغربية والعربية، وفي حصول المجلس على اعتراف كامل من الحكم الثوري الجديد في ليبيا. وإلى جانب هذا التطور الهام في ساحة المعارضة السورية السياسية، ازدادت معدلات الانشقاق عن الجيش السوري وأجهزة النظام الأمنية، وأخذ الجنود والضباط المنشقون في تعهد أدوار ملحوظة في حماية المظاهرات الشعبية والأحياء والبلدات الثائرة، والتعرض المسلح لميليشيات النظام.

من جهة رابعة، تعرض النظام خلال الأسابيع القليلة الفاصلة بين تحرك الجامعة الأول والثاني لضغوط متزايدة من حلفائه في إيران (وبدرجات متفاوتة من روسيا والصين)، التي تشهد تصاعد معدلات العنف في سورية وعجز النظام عن احتواء الحركة الشعبية، وإلى تصعيد في لغة التهديد من تركيا وبعض الدول العربية الأخرى، التي ينتابها قلق كبير من احتمالات انحدار الوضع إلى عنف أهلي داخلي، يمتد إلى الجوار الإقليمي. ولأن إيران، وعدداً من الدول العربية، باتت تخشى أن يؤدي التدخل الخارجي في الشأن السوري إلى مسار يصعب التحكم في نتائجه، فقد عملت على دفع النظام إلى القبول بالصيغة العربية الجديدة، التي تترك الباب مفتوحاً لتوازنات القوى بين النظام وشعبه لتقرير ما تكون عليه سورية الجديدة. بمعنى أن تكون المبادرة، كما توحي صياغتها بالفعل، مقدمة لاحتواء تصاعد العنف وتحلل مؤسسات الحكم، ومن ثم يترك للنظام والقوى السياسية المعارضة أن تتفق على خطوات التغيير التالية، مستوى وحجم التغيير، وسبل الوصول إلى هذا التغيير.

بيد أن أزمة النظام وصلت الآن إلى مستوى أعمق بكثير مما يمكن أن توفره المبادرة العربية من مخرج عقلاني. المنطق الذي تستند إليه المبادرة أن طرفي التدافع: النظام ومؤيدوه وأجهزته، من جهة، والشعب وقواه المعارضة، من جهة أخرى، وصلا إلى حالة من تعادل القوة؛ لا النظام يستطيع وضع نهاية لحركة المعارضة الشعبية، ولا الحراك الشعبي يبدو قادراً على إطاحة النظام، بالطريقة المصرية أو التونسية. مثل هذه المقاربة، بالطبع، تفتقد إلى فهم صحيح لما هي الدولة. عندما تعجز دولة، سيما دولة يقودها نظام حكم اعتاد السيطرة المطلقة والتحكم بلا هوادة، عن إيقاف أو احتواء تحد شعبي لسيطرتها وتحكمها، بالحجم والاستمرارية التي تعيشها سورية منذ ثمانية شهور، تفقد الدولة ونظام حكمها معنى وجودهما. نظام الحكم السوري خسر المواجهة مع شعبه بالفعل، وخسرت معه المواجهة مؤسسة الدولة التي تماهت معه منذ عقود وتحولت إلى مجرد أداة لحراسته، بغض النظر عن الزمن الذي ستأخذه هذه الخسارة للتحول إلى واقع سياسي فعلي. وهذا هو السبب الذي يجعل النظام عاجزاً عن تنفيذ بنود المبادرة العربية، كما ينبغي أن تنفذ.

قد يلجأ النظام، بعد مماطلة طويلة، إلى سحب قوات الجيش من شوارع المدن، كما نصت على ذلك المبادرة. بل أن خطوة سحب الجيش، أو القطاع الأكبر، ستصب في النهاية لمصلحة النظام، بعد أن ازدادت معدلات الانشقاق من وحدات الجيش، خاصة تلك التي تضم أعداداً كبيرة من الجنود والضباط السنة. ولكن النظام لا يستطيع أن ينسحب أمنياً، بمعنى أن يتخلى عن الحل الأمني. مثل هذه الخطوة ستنتهي بخروج واسع النطاق في دمشق وحلب إلى الشارع، وتغلق بالتالي الحلقة الشعبية على عنق النظام. في أفضل الأحوال، سيلجأ النظام إلى زرع قواه الأمنية وميليشياته، بزي مدني، في المدن والأحياء والبلدات الثائرة، أو إلباسها زي قوات الشرطة والبوليس المحلي. هذا إن إراد فعلاً أن يقابل الجامعة العربية في منتصف الطريق. ولكن الاحتمال الآخر، احتمال أن يلجأ إلى ذرائع ومسوغات ما لعدم سحب الجيش والقوات الأمنية أصلاً يظل قائماً. ادعاء وزير الخارجية السوري (6 تشرين أول/نوفمبر) أن الإعلان الرسمي عن دعوة المسلحين إلى تسليم أسلحتهم مقابل العفو عنهم خلال أسبوع، هو خطوة نحو تنفيذ المبادرة العربية، ليس إلا مثالاً لذرائع نظام فقد مصداقيته، ويفقد الآن بوصلته الاستراتيجية بخسارة النظام العربي الذي أراد إنقاذه من أزمته.

قبل أن يبدأ التحرك العربي لصياغة مخرج للأزمة السورية الدموية، كان الأتراك قد حاولوا هم أيضاً إيجاد مثل هذا المخرج. وليس ثمة شك أن تقدير دمشق لعلاقاتها التحالفية مع أنقرة، العلاقات التي وفرت غطاء بالغ الأهمية للحكم في سورية في سنوات التهديد الحرجة التي تلت غزو العراق، أكثر بكثير من تقديرها لأغلب علاقاتها العربية. ومنذ نهاية نيسان/ابريل وحتى نهاية آب/أغسطس، توجه إلى العاصمة السورية وفد تلو الآخر من كبار المسؤولين الأتراك، أجروا جميعاً مباحثات مباشرة مع الرئيس الأسد، وتلقوا منه شخصياً وعوداً واضحة بوضع نهاية للعنف وتعهد برنامج إصلاحي شامل والسماح بعودة قوى وشخصيات المعارضة في المنفى، وإجراء حوار سريع مع كافة أطراف المعارضة. ولكن الرئيس لم يقم مرة واحدة بالوفاء بتعهداته. مقاربة النظام للجهود العربية قد لا تختلف كثيراً عن مقاربته للجهود التركية، بالرغم من أن المبادرة العربية تبدو وكأنها الفرصة الأخيرة للحفاظ على سورية من مخاطر اندلاع عنف أهلي دموي واسع. مشكلة النظام في سورية لا تختلف عن مشكلة كل أنظمة الاستبداد القمعي عندما تواجه ثورة شعبية. في البداية، يظن النظام أنها ليست سوى زوبعة سرعان ما تخمد، وأن أجهزته من الكفاءة والتجربة بحيث ستنجح أخيراً في احتواء الأزمة. وما أن تتفاقم الأزمة وتزداد تعقيداً، تكون مؤسسات النظام وأدواته قد قطعت شوطاً كبيراً في الولوغ بدماء الشعب وحرماته، ويصبح من الصعب عليها التراجع وإلا وضعت، سياسياً وقضائياً، أمام سجلها القمعي البشع.

وافقت المعارضة السورية، بالرغم من أنها لم تعلن ذلك صراحة، سواء في المجلس الوطني أو في هيئة التنسيق، على المبادرة العربية، وانتظرت أن يثبت النظام مصداقيته. ولم يكن اللقاءان اللذان عقدهما ممثلون عن المجلس الوطني مع الأمين العام للجامعة العربية سوى مؤشر على الموافقة الضمنية للمجلس على الجهود العربية. ولكن أعداد القتلى من السوريين، التي تجاوزت العشرين قتيلاً يومياً، في الأيام الأربعة التالية لموافقة النظام على المبادرة العربية، أظهرت إلى أي حد يصعب على النظام الالتزام بتعهداته. الكرة الآن في ملعب المجموعة العربية، ومجلس جامعتها الوزاري، الذي بات عليه أن يكون أكثر مصداقية من الرفيق السوري. المزيد من الصمت والسكوت ليس أقل من مشاركة فعلية في الجريمة الفادحة التي ترتكب الآن بحق السوريين البواسل.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى