رشا عمرانصفحات الناس

مظلومياتنا المتخيّلة/ رشا عمران

 

 

قبل أيام، كنت أقف في رتل طويل أمام صندوق المحاسبة في السوق الحرّة في مطار القاهرة. قبلي كان يقف رجل أوروبي، يجر عربة مشتريات صغيرة، ومعه  طفلته، وقبله تقف امرأة إفريقية، معها طفلتها التي كانت تحمل بيدها بضعة ألواح من الشوكولاته. كانت طفلة الرجل الأوروبي تُمسك بعربة المشتريات وتحرّكها بدون انتباه. وبغير قصد، لامست العربة أقدام المرأة الإفريقية التي التفتت إلى الأوروبي شبه غاضبة، فردّ عليها بصوت مرتفع، معتذراً عن تصرف ابنته. ردّت قائلة: عليك أن تنبّه ابنتك، فكان رده أكثر غضباً: هذه طفلة صغيرة، لا تبدأي بالصراخ. في الأثناء، كانت الطفلتان تنظران إلى والديهما باستهجان واضح وتتبادلان الابتسامات.

انتهى الموقف هنا. حاسب الجميع على مشترياتهم، وذهبوا في طريقهم إلى وجهاتهم. ما لفت نظري الصوت المرتفع لدى الاثنين، والنبرة العدائية الخفية في صوتيهما. لا أعرف ما الذي جعلني أفكر أن للأمر علاقة بالعرق ولون البشرة والانتماء. لم يكن غضب السيدة الإفريقية عادياً. يتعرّض الجميع في الازدحام لمواقف كهذه، وبالتأكيد ردات الفعل مختلفة. لكن، لا يمكن لحركةٍ كهذه أن تثير هذا الحنق، إلا لو حصل أذى مباشر. في المقابل، لم يكن رد فعل الرجل الأوروبي أقل غضباً، كنت أراقب نظرته. لم يكن يحدّق في وجهها، كان يتكلم بصوت مرتفع وعيناه في مكان آخر. هذا يحدث عادة في حالتين، التركيبة الشخصية الخجولة، وهو ما لم يكن يبدو على بطل هذه القصة، أو الاستهانة بالآخر حد الإحتقار. فكرت لوهلة، أنا الشاهدة (الحيادية) على الموقف، أنه لم يكن ليحدث، لو أن الرجل لم يكن أوروبيا (أبيض)، لو كان إفريقياً (أسود) لما احتجّت السيدة الإفريقية كل هذا الاحتجاج. في المقابل، لو أن السيدة كانت أوروبية (بيضاء)، وعبرت عن غضبها بالطريقة نفسها، لما كان رد فعل الرجل الأوروبي بالتعالي نفسه. فكّرت لحظة أن تاريخاً من العنصرية قد ظهر في موقف صغير وسخيف كهذا، وأن ثمّة مظلومية موروثة لدى المرأة الإفريقية جعلتها تظن أن ما حدث لها حدث بسبب لونها، لا لشيء آخر. وأيضاً ثمة استعلاء موروث لدى الرجل الأوروبي (الأبيض) في ردة فعله على غضبها، شعرت أنه، في أعماقه، يقول لها: أيتها (الزنجية) لا يحق لك الغضب هكذا.

كل تفكيري مجرد مونولوج داخلي، لا علاقة له بالحادثة التي ربما هي عادية تحدث يوميا بين الجميع، بسبب ازدياد ضغوط الحياة على الجميع، وبسبب كمية العنف الحاصلة في العالم. ما الذي جعلني أفكر بكل هذا إذا؟ ما الذي جعلني  أخترع هذا السيناريو الغريب عن المظلومية والاستعلاء العرقي، في زمن باتت فيه مظاهر العنصرية العرقية شبه نادرة؟ علي أن أعترف بالتالي: تخيّلت نفسي مكان السيدة الإفريقية، وحصل معي ما حصل معها في المكان نفسه. كنت سأشعر بأن ثمّة من يتقصّد إهانتي لسبب وحيد، هو أنني سورية أساساً. لم تكن الحادثة كلها لتلفت نظري، لو لم أكن سورية، تحمل جواز سفر سوري، غير مرحب به في أي مكان. أنا التي ترفض رفضاً قاطعاً مظاهر تنامي المظلومية السورية لدى مجموع السوريين، وترفض ردود الأفعال الناجمة عن هذه المظلومية، ولم تتعرّض، حتى الآن، لأي موقف مسيء لمجرد أنها سورية. ومع ذلك، ثمّة في اللاوعي ما ظهر عندي  في ارتكاستي على الحدث الذي لا علاقة لي به، لا من قريب ولا من بعيد. لم أكن شاهدة حيادية عليه، كنت متورطة به، ومتورطة باختراع خلفية تاريخية ثقافية له. والأهم أنني متورطة بخوفٍ من مستقبلٍ مستعار من تاريخ قائم على المظلوميات، تكاد تودي بنا إلى الهلاك تماماً، على أنني، وأنا أغادر للصعود إلى طائرتي، تذكّرت ابتسامتي الطفلتين ذوات اللونين المختلفين: يوماً ما، في زمنٍ ما قادم، سيعيش أطفالنا طبيعيين، بلا أي إرث للمظلوميات التي حدثت في تاريخ طويل، وتجلت أكثر في الخمس سنوات الأخيرة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى