صفحات سورية

سورية: شعب ثائر وشرعية مفقودة

 


د. عبد الباسط سيدا

وأسقط شعبنا شرعية النظام؛ شرعية لم يمتلكها الأخير قط من منظور الشعب وبإرادته، وإنما كانت شرعية الأمر الواقع التي تكون عادة نتيجة تقاطع المصالح بين مراكز القرار الدولية ونزوع حفنة من الدكتاتوريين؛ هؤلاء الذين يستسهلون عادة قمع شعوبهم بمختلف الأساليب الوحشية – إن لم نقل القذرة – ليتمكنوا من التفرّد بالسلطة والثروة والسلاح والوطن وأهل الوطن؛ تفرّد لا يريدون له سقفاً حقوقياً، ولا أمداً زمنياً، بل ينشدون التأبيد عبر زرع الوطن بالأصنام واليافطات المسبّحة بحمد القائد الملهم، ومزاياه السامية. كل ذلك وسط تراتيل التنزيه والتشبيه التي يرفعها السدنة من مواقعهم المختلفة؛ من المنابر والمسارح والصحف والإذاعة والتلفاز، من النقابات وأحزاب الترويض، وحتى مما يُسمى باتحاد الكتاب العرب، من دور الحضانة ورياض الأطفال والمدارس والجامعات. ولم يكتف النظام بسدنة الداخل، فألزم سدنة الخارج أيضاً بتأدية جملة من المهام من مواقعهم التي صنعها لهم بالأساليب ذاتها التي قمع بها السوريين؛ فانطلق هؤلاء مصدقين ما أسبغ عليهم من هالات كاذبة، ليوجهوا النصح إلى السوريين والتذاكي عليهم، وذلك في محاولة لإقناعهم بضرورة الخضوع للجلاد المقاوم الممانع.

إننا هنا لسنا في وارد المماحكات التي فات وقتها، وذلك بعد أن قال الشعب السوري كلمته بكل مكوّناته وشرائحه، بشبابه وشيبه، برجاله ونسائه، بأطفاله وشيوخه في الداخل والخارج؛ قالها الشعب السوري كلمة مباركة أبدعها المظلومون، نعم قالها الشعب السوري بكل وضوح وثقة بالنفس: ‘الشعب يريد إسقاط النظام’. قالها وهو مدرك أن ذلك سيكلفه كثيراً، ولكنه مدرك أيضاً أن قوله هذا سيمنح مستقبلاً واعداً زاهراً لأجيالنا القادمة التي لا نريد لها معايشة معاناتنا وآلامنا وعذابات تشردنا.

‘الشعب يريد إسقاط النظام’، شعار معبر ينبثق من العقل، ويلامس شغاف قلب كل سوري وسورية؛ شعار تحوّل إلى فعل مادي على الأرض تجسّده بطولات السوريين والسوريات في كل يوم، بل في كل ساعة ولحظة.

لقد خرج السوريون في سائر المناطق، في كل المدن والبلدات ليؤكدوا للعالم قاطبة أنهم قد أسقطوا الشرعية عن النظام الأمني القمعي، نظام العائلة والبطانة المتملقة، نظام الاستبداد والإفساد؛ وهي شرعية لم يمنحوها له في أي زمان أو مكان؛ وإنما هي شرعية القرصنة التي فرضتها عليها أدوات بث الرعب في النفوس.

لكن الزمن تغيّر، والشعب تغيّر، والعالم تغيّر، وحدها زمرة القرار اللامرئية في سورية تصر على ألاّ تتغير؛ فهي ما زالت تعيش الماضي، ما زالت تحاول إقناع الثائر لكرامته برشوة بخسة خسيسة، ما زالت ترفض الإقرار بواقع لا يختلف حوله عاقلان: سورية تعيش ثورة شعبية عارمة، عامة. هذا ما يراه العالم كله، ما عدا زمرة القرار التي ما زالت تراهن على ولي الفقيه وجنوده الميامين، وهي بذلك تتجاهل أن أزمتها بنيوية مسدودة الآفاق، وأن ما تواجهه هو حالة ثورية غير مسبوقة، حالة لا تنفع معها الصواريخ، ولا ما هو أبعد من الصواريخ. إنها الحالة ذاتها التي ترك بفعلها الشاه إيران؛ وهي الحالة عينها التي سيغادر نتيجتها كل الطغاة أوطانهم، بعد أن أثبتوا بالممارسة المديدة عدم أهليتهم لقيادتها، وعدم جدارتهم بها.

لقد اتخذ شعبنا العزيز قراره وعمده بالدم: لم تعد هناك سلطة شرعية في سورية. إنها مجرد سلطة الأمر الواقع التي فقدت كل مسوّغات وجودها، وما عليها سوى الرضوخ لإرادة الشعب التي لا تعلو عليها سوى إرادة الله؛ وذلك يتم عبر آليات واضحة محددة، تمحورت حولها مبادرات السوريين في الداخل والخارج. الكل يقول: لم يعد بيننا وبين هذه السلطة/النظام سوى الاتفاق على توقيت وكيفية الرحيل؛ وخلاف ذلك هو كله مجرد سفسطات، لن تؤدي سوى إلى سراب خادع لا يوليه شعبنا أي اهتمام.

نحن نعلم أن السلطة تلهث راهنا خلف الجميع، لتعمل المستحيل – عبر وسطائها أو من دونهم – من أجل إقناع بعض الرموز بضرورة الانضمام إلى مبادرات تبدو وطنية، عامة تخص السوريين، كل السوريين؛ لكنها في حقيقة الأمر مبادرات تقدم طوق النجاة لسلطة أغرقت الوطن وأهله في بحر من الدماء، وأرهقت السوريين بالآلام والعذابات والديون، وستأخذهم إلى المجهول في قادم الأيام، إن لم تخضع لمنطق العقل، وتقر بأن اللعبة انتهت.

ما يحتاج إليه السوريون في يومنا هذا – أكثر من أي وقت – هو رص الصفوف، وتجاوز الخلافات العبثية، والاتفاق على آلية تجاوز الاختلاف. لا بد من اعتماد أسلوب نكران الذات، والعمل بعقلية الفريق الواحد المتكامل. كل يؤدي واجبه في نطاق عمله ومسؤوليته؛ والحصيلة ستكون في صالح الجميع من دون شك. كل ما نحتاج إليه هو الصبر والمثابرة والعمل المتواصل، بعيداً عن بهلوانيات المتسلقين، ومكائد مقتنصي الفرص.

سيخرج شعبنا في الأيام القادمة بعزيمة أشد، وزخم أكبر، ليؤكد للجميع أننا بلغـــنا نقطة اللاعودة مع هذا النظام الذي بات وبالاً على السوريين والمنطقـــة بأسرها؛ ولعل هذا ما بدأنا نتلمسه في تصريحا المسؤولين الدوليين الذين أجبرتهم بطولات شعبنا على الإقرار بالحقيقة؛ لقد أقروا أخيراً بصدقية ما كان السوريون يتحملونه بغية الإفصاح عن مخاطر التغييب والتعذيب والتهجير.

بقي أن نقول: نحن ما زلنا في انتظار موقف عربي شعبي أقوى، وموقف رسمي معلن، نأمل ألاّ يتأخر العرب في مساندة ثورة شعبنا الأبي، ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فشعبنا لم يقصر مع العرب بشيء، وطبيعي أن يبحث من يقول آخ أولاً- وقبل أي كان – عن الأخ.

 

‘ كاتب سوري مقيم في السويد

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى