صفحات سورية

سورية: شعب يثور ونظام يمانع


د. أحمد اليوسف

لا تشبه سورية اليوم، سورية الأمس في شيء. فللثورات فعل القطيعة، حيث تحول الماضي القريب في سورية إلى مجرد ذكرى. فأعلن المعقول عجزه عن استيعاب التحول المفاجئ. واختلطت الأشياء كلها دفعة واحدة. وكبر الأطفال على عجل، واسترد الشيوخ شبابهم مضطرين. وانهار ما كان لزمن جد قريب واقع محتوم. إنَّه المستحيل وقد تحقق، حيث لا مستحيل في الثورات. وهكذا أصبح اللامعقول هو التفسير العقلاني الوحيد لروح الثورة. فالثورة سلب لا أكثر ولا أقل. إنها إقصاء للإقصاء، و رفض مطلق للخنوع والإكراه.

ولفهم روح الثورة في سورية، سأستحضر قصة طريفة رواها لي جدي الذي عايش الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي. تلك الثورة التي انطلقت من شمال سورية في جبل الزاوية.  تروي هذه القصة أن إبراهيم هنانو (زعيم الثورة في ذلك الحين) جمع أثاث بيته وأحرقه (وللأسف لم يترك لنا النظام الممانع اليوم فرصة لنحرق أثاث المنازل كما فعل هنانو. فلقد أخذ على عاتقه حرق كل شيء جاعلا من الحرق سياسته الوحيدة). وبعد أن أحرق هنانو، وفق قصة جدي، أثاث بيته، أعلن بداية الثورة بجملته الشهيرة: “لا أريد أثاثا في بلد مُستعمَر”. في أول اجتماع له بالثوار في جبل الزاوية (والذي تجتاحه اليوم دبابات النظام الممانع) طرح هنانو السؤال التالي: “والآن ماذا نفعل؟”. ردُّ الثوار، على بساطته، كان أعقد من أن يفهمه من لم تستيقظ فيه بعد فطرة الثائرين، حيث أجاب كلهم وفي وقت واحد: “علينا أن نحرر العالم”. غرابة الإجابة هذه جعلت هنانو يقول: “دعونا نحرر البلد أولاً”. لكلمة “العالم”، في لغة أهل جبل الزاوية، معنيان: العالم كما نفهمه عموماً بوصفه كل البشرية، والعالم بمعنى “الناس”. وبالتالي ما كان يقصده الثوار هو أن يحرروا الناس. فوفق روح الثورة، إنْ تحرَّر العالم (الناس)، يصبح تحرر الأرض مسألة وقت لا أكثر. وهذا ما فهمه هنانو نفسه في وقت لاحق، وجعل منه مسيرة نضاله. وما يحدث اليوم، في سورية، هو أن الثورة حررت العالم (الناس)، فنزعت الخوف، المتراكم منذ عقود، من قلب كل فرد، وأسقطت كلَّ الأقنعة، جاعلةً من الحاضر لحظة احتضار وولادة. ومن أهم هذه الأقنعة التي سقطت قناع نظرية الممانعة.

حاول الأسد، في مقابلة أجراها مع صحيفة وول ستريت جورنال، قبيل اندلاع الثورة في سورية، أن يرجع أسباب الثورات العربية، التي قامت في تونس ومصر، إلى سياسات تلك الدولتين على الصعيد الخارجي والقومي، على وجه التحديد. فتلك السياسات، بحسب الأسد، لم تكن تحاكي تطلعات شعوبها. وتحليله هذا، لأسباب الثورات العربية، صادق جزئيا. فهذه الأنظمة أثارت سخط شعوبها في تجاهلها للقضية القومية العربية المحورية: ألا وهي القضية الفلسطينية. ولكن ما لم يكن صادقا، في ذلك التحليل، هو ادِّعاء الأسد بأن نظامه بعيدٌ عما يحدث في تلك الدولتين. فمن وجهة نظره، سياسة نظام الممانعة في سورية هي سياسة لصيقة، على الصعيد الخارجي والقومي، بما يؤمن به الشعب السوري. ولكن نظرة بسيطة، لتاريخ علاقة هذا النظام مع القضية الفلسطينية، تكشف لنا عن كذب هذا النظام وعن أهم أسباب الثورة، وإن لم تكن السبب الوحيد، في سورية اليوم.

لا يخفى على أحد أن نظام الممانعة لم يرُد يوما على انتهاكات إسرائيل وأميركا للأراضي السورية، وهي كثيرة، إلا بجملة مفادها: نحتفظ بحق الرد بالزمان والمكان المناسبين. ولم يجد هذا النظام، على ما يبدو، زمنا أنسب من بداية الثورة السورية، ومكانا أنسب من كل الأراضي السورية. فهذا النظام الممانع هو النظام الوحيد في العالم العربي الذي جسّد أهداف الوحدة عبر إقصاء الأكراد، ثقافة ووجوداً، على الأراضي السورية، وعبر تفكيك المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية على الصعيد الخارجي. ففي الثمانينيات، وبينما كانت إسرائيل، العدو، تضرب المقاومة الفلسطينية، الشقيقة، من الأمام، كانت جيوش الأسد تضربها من الخلف. وهذا هو النظام الوحيد، الذي فتح للفلسطينيين فرعا أمنيا خاص بهم يحمل اسم: “فرع فلسطين”. وتكاد لا تجد زعيماً فلسطينياً وطنياً واحداً لم يمر عبر السجون السورية. فحتى المرحوم “ياسر عرفات” لم يسلم من سجون النظام الممانع، إلا أنَّه كان أكثر حظاً من السوريين اليوم، حيث خرج دون أن يفقد عضواً من أعضائه، أو تجتث أحشاؤه.

وأخذ هذا النظام على عاتقه، في نضاله الممانع، حماية إسرائيل. فلم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل من الحدود السورية، على الرغم من أنها، لا تحتل فلسطين فحسب، بل تحتل أرضاً سورية اسمها الجولان. كما حوّل المقاومة اللبنانية إلى مجرد ورقة يفاوض عليها لبقائه في السلطة؛ وحرم، من خلالها، أي عمل مقاوم عبر الحدود اللبنانية. وحوّل الفصائل الفلسطينية الموالية له إلى شبّيحة لا عمل لها إلا شق صف المقاومة وشل العمل الفلسطيني. وخير شاهد على هذا، ما قامت به إحدى الفصائل الفلسطينية، في مخيم اليرموك في دمشق، من قنص للفلسطينيين المتظاهرين، بعدما سخّرهم فيما يسمى بمسرحية ذكرى يوم النكسة، حيث دفع بهم إلى الحدود ليُقتلوا من قبل إسرائيل، فتوحَّد الدم الفلسطيني ودم الشعب السوري في الثورة، بعدما جمعتهم وحدة المصير عبر تاريخهما. والمفارقة هنا أنَّ النظام أرسل مدنيين عزل لاجتياز الحدود مع عدوِّه المزعوم، ونشر جيشه، بأسلحته الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، في المدن والقرى السورية، لمحاربة عدوه الحقيقي، ألا وهو الشعب السوري.

أسقطت الثورة، في سورية، إذا ورقة التوت عن النظام، حيث اضطر عرّابه رامي مخلوف أن يتوسل العون من إسرائيل، بشكلٍ علني، قائلا: “إن أمن إسرائيل من أمن سورية”. ويقصد أمن النظام الممانع. إنَّ ردّ الشارع السوري كان أن لا أمن لإسرائيل ولا أمن للنظام. لقد ضحى شعبنا، في سورية، بخيرة شبابه دفاعا عن فلسطين. فلا تجد مقبرة في جبل الزاوية، على سبيل المثال، إلا وفيها شهيد مات دفاعا عن فلسطين. هذا يوضح لنا الفرق مابين ممانعة النظام ووفاء الشعب السوري. وكم يشبه واقع الشعب السوري اليوم، واقع شعبنا في فلسطين! فلديهم محمد الدرة ولدينا حمزة الخطيب، ولديهم غزة ولدينا حماة. وكم تشبه فاشية الاحتلال الإسرائيلي قمع نظامنا الممانع! فلا اعتراف بحق أو بوجود. فحالنا اليوم، ما بين قتيل هنا وجريح هناك، ومعتقلين في أقبية التعذيب، ومن تبقى يثور في الشارع وحيداً، بعدما تجاوزته إرادته الراغبة في الحرية. وهكذا، أضحى الشعب السوري وحيداً في ثورته، لا وقت لديه لعدِّ قتلاه، ولا عون له سوى ما تبقى له من إرادة، ولسان حاله يقول: لا ضرّ أن نكون وحيدين (فالله معنا).

لقد اغتصب، هذا النظام شعبه لعقود، باسم الممانعة، ثم اغتصبهم عبر الإصلاح في بداية الثورة، ويغتصبهم اليوم باسم الحوار، وعيونه تتطلع إلى إسرائيل آملا بمقايضة هنا أو بتواطؤ هناك . ويمارس الشعب، في سورية، رفضه مادام على قيد الأمل وعيونه إلى القدس. ففي القدس تاريخ من النضال، يستوحي السوريون منه العبر، وفيه دعاء الإخوة في الأقصى، بيت الله، عونا معنوياً لشعبٍ طالما حرم كل عون من (بيوت العرب الكرام)، حيث حرام عليهم، على ما يبدو، كل نخوة في السياسة.

غيرت الثورة إذا كل شي. فلاشيء في سورية اليوم يشبه سورية الأمس. فكل شيء تغير، كل شيء إلا ذهنية النظام الممانع. فهذه الذهنية لا تتغير، فإما أن تسقط وإما أن تمانع إلى الأبد.

أكاديمي سوري مقيم في كندا

موقع الرأي العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى