صفحات الثقافة

الذاتُ موضوعاً/ خالدة سعيد

ثلاث سير، كانت قد صدرت على التوالي: “مرايا فرانكشتاين” لعباس بيضون، دار الساقي 2010، “وثيقة ولادة” لعقل العويط، دار الساقي 2011، و”أرق الروح” ليمنى العيد، دار الآداب 2013. لكن، ما من سيرة من هذه السير تُروى كمحض وقائع وذكريات أو انطباعات. كلٌّ منها استحضرت الماضي في شبكة المجال الثقافيّ والإبداعيّ لصاحبها. فهي، لذلك، متعدّدة الأبعاد الزمنية، ومتعدّدة مستويات التجربة: هي تقديم ماض بصوت الحاضر وفي دائرة رؤاه.

نحت الظلال حول “مرايا فرانكشتاين” لعباس بيضون

أرسل عباس بيضون هذا الكتاب إلى المطبعة قبل الحادثة التي أخذته إلى ضفاف الموت. من حسن حظنا وحظ الكتابة والكتاب أنه عاد، لنقرأ كتابه في حضوره. هل كانت هذه الفاجعة التي حلّت بجسده جواباً عن كتابه؟ ليعرف الكاتب كم أنّ جسده موجود وقادر على تحديات كبرى؟ ليعرف كم الحياة المقيمة في الجسد أعجوبة تفاجئ التقويمات؟

من موقعه الثقافي، موقع التميز، وموقع العمر الناضج، يختار عباس بيضون أن يستحضر بدايات الحميم الجسديّ والاجتماعيّ، مرتبكاً وعارياً. يضخّم ما يخفى وراء الذكاء والثقافة الذهنية، ويمسرح ما يتوارى خلف المسار الصاعد؛ يضيء ما يحضر حيث يبقى الذكاء مراقِباً غير متدخِّل.

ينتخب عبّاس بيضون من سيرته، في “مرايا فرانكشتاين” ما يسمح له بإعادة التصوير والتأليف. يرسم الخطوط، حادّة أو ظلّيّة، ممارساً ثقافته المتميّزة وتذوّقه الرفيع لفنّ التصوير، بل موهبته الخفيّة في التصوير. إذ إنه، وفي لوحة واحدة، يمازج بين مستويات البراءة الأولى وتجربة الغربة واقتحام الفضاءات، متّخذاً شخصه موضوعاً، كأنه يقدّم “برفورمانس”. يرسم بين الفضاءات، الريفية والمدينية، العامّة والخاصّة، الحميمية والفكرية، خطوطاً فاصلة، كأنه يتنقّل على مساحات هندسية، لكلّ منها ألوانها ولها حدودها وخصائصها.

السؤال الأول الذي يُطرَح هو، هل لهذا الكتاب حقّاً صفة السيرة؟ أم هو رواية تنتخب من التجارب ما يمكن توظيفه في رسم لوحة؟ الجواب هو ترجيح الالتباس. فكما أنّ “الصورة الذاتية” لفرنسيس بيكون ليست صورة ذاتية على غرار صورة ليوناردو دا فنشي الذاتية، فإنّ كتاب عباس يستدعي الأول (بيكون) لا الثاني. وليس للصورة الذاتية لليوناردو – على علوّها في الصنعة وتصويرها لملامح العصر التي تمجّد الكمال – تأثير الصورة الذاتية لبيكون وما تمثّله من زعزعة الكمال وما تستحضره من خفايا الذات واللاوعي ورؤية صاحبها ومسيرته في ضوء عصره وضوء تاريخ الفن، وما تطرحه من قضايا.

هنا يمكن فعلاً وصف “الذات عينها كآخر” أو كموضوع، بحيث يتوالى عرضها وتشريحها بهذيان وصفيّ جسديّ كما يبدو لعين خارجية، وعلى خلفية نقد اجتماعيّ بل تشريح لمفارقات الحياة الاجتماعيّة؛ وهو ما يوقف العمل بين المنحوتة والبرفورمانس، وكذلك بين الرواية والسيرة. فإذا حضرت خطوط السيرة فلن يكون ذلك حضور الوصف والأمانة والتأريخ، بل حضور البناء وابتكار الروابط وإعادة رسم التسلسل، أي إنتاج الحضور الروائي. فالذات هنا منتهَكَة معروضة في أبعادها الحميمة وخفايا ذاكرتها ومعرّضة لكل التحولات.

وهذا الكتاب سيرةٌ لتكسّرات البنى الثقافيّة الريفية وانحنائها في خضمّ المدن المتوالية. حيث تتوالى، عبر السرد، مراحل التحوّل والصدام، في وصف يحفظ للأحداث عنفها وارتجاجها، وللأشكال تكسّراتها.

إنه رسمٌ لتحولات المجتمع المحلّي بإزاء الأمواج الجديدة؛ وهو صدام ثقافات ينعكس عبر مرآة البطل – الراوي. أما الإشارات العابرة إلى مواقع التميز فمن نوع لعبة الظلّ والنور، غرضها توكيد الظلّ.

لكن لماذا تسمية فرانكشتاين؟ عباس يعرف أن فرانكشتاين، في رواية ميري شيلي، مبدعة هذه الأسطورة، هو العالِم الذي كوّن الشخص الغريب من رِمَم أجساد، وأن هذا الشخص بقي بلا اسم؛ وأنّ الذكاء الشديد لهذا المخلوق، والعلم الواسع الذي زوّده إياه “صانعه” فرانكشتاين، ثم طوّره المخلوق بنفسه، لم يكفيا للسيطرة على جسده وتيسير اندماجه الاجتماعيّ بعالم الناس. غير أنّ فرانكشتاين المفترَض هنا في هذا الكتاب، ليس العالِم وحده، أو الشطر الذكيّ وحده، بل هو في الوقت نفسه، العالم المعلّم، والمخلوق الذكيّ عقلاً، الفوضوي المنفلت جسداً. هو الوجهان. أي أنّ فرانكشتاين في هذا الكتاب هو العالم الذي يراقِب ويحلل ويعرف، وجسد مخلوقه الذي يرتكب الخروق الاجتماعية على رغم علمه الواسع.

الكائن الذي يحضر في نص عباس بيضون هو في وقت واحد المبدِع والصورة التي ينتجها لذات مفتَرَضة كموضوع، أي كشخصيّة روائية.

في هذا الكتاب جرأة هائلة على التعامل مع الجرح المفتَرَض، برأفة حيناً، وشدّة تصل إلى السخرية أحياناً. إذ من أجل بناء الصورة الروائية أو الشخصية الروائية، يتخيّر عباس بيضون الحميمَ المجروح وما يحمله الجسد والشخص، وما يتحمّله وينوء به؛ بينما يهمّش الذهنيّ الثقافيّ، أي المميَّز اللامع، فيغيّب ما يحضر في الشخصية الحقيقية أو ما قبل الروائيّة من مآثر وقيم إيجابية كالنضال والمعرفة والسجال العالِم والرؤية النفّاذة والأسر الغرائبيّ والموقع الأدبي والاحتفاء بالصداقة وعواطف البنوّة وحنوّ الأخوة وعطاء الأبوّة. لا تُستحضَر هذه الأبعاد في صورة فرانكشتاين المفتَرَض. لأنّ “فرانكشتاين” عباس بيضون لوحة يبدعها الوجع وتُستثمَر فيها الخفايا؛ وليست تاريخاً مَهْما نضح منها من مواجع. هذا ما يجعل بُعدَ السيرة في الصورة ضامراً.

مع ذلك، فإنّ عرض الذات في موقع الموضوع لا في موقع السارد الرائي، يمثل جرأة هائلة على هبوط هذه الأغوار. كأنهما اثنان يتلازمان، يتقاطعان، ولا يتوحّدان: الكاتب والمكتوب، الذات وعين الرقيب الذاتيّ.

هل كانت هذه إضاءة محض ذاتية، أم إضاءة فنية؟ إضاءة الحدود الواهية التي ما إن يترجرج غلافها الواعي أو العقلي حتى تجرفها أمواج المكبوت؟ في هذا الموج والدوران والهذيان لا يُسلَّط الضوء إلا على الذات. ذات تكتم البركان وتكتفي بإطلاق الدخان. فهنا لا يوضع تحت الضوء الساطع غير الارتباك الاجتماعي لهذه الذات القادمة من عمق شعوريّ وتفوّق عقليّ، ومن شغف وفوران يعصيان على التدجين.

إنها معركة الظلّ والضوء. بل فنية إضاءة الظلال أو فنّيّة نحت الظلال.

لذلك يبدو لي هذا الكتاب حكاية غربة. غربة عميقة يعيها الجسد بوحشية وحِدّة، ويعلو الفكر فوقها ويضيئها، لكنه لا يمنّ عليها بترياق.

إنّه فكرٌ سلّط ضوءه القاسي الكاشف الذي لا يتلطّف بالحميم البطيء المراهق حين لا يتبع الإيقاع. إنها في المحصّلة حكاية فكر تجنّح، وكيمياء جسد لا يتوقف عن الوقوع في العثرات وهو يجتاز عتبة المراهقة. إنها عثرات مراهقة تجرح كبرياء الفكر- الأب، الذي في شطحة إبداعه يرفع عنها الغطاء ويسلمها للنظر، لا في عريها الأصلي بل في ما هو أبعد، في تخيّلها وتشكيلها كلوحة. في هذه اللوحة يحرك الراوي الجسد المتشبث بطفولته وعفويته. يضع الجسد في المركز، ويرسم لكل تفصيل انعكاساته وظلاله. وبخلاف اللوحات الكلاسيكية التي تتوزع فيها القيم السلبية في المحيط لإبراز القيم الإيجابية في المركز أو البعد الأول، فإنّ بناء اللوحة هنا يضاعف الظلمة والارتباك في المركز متمثلاً بذلك الجسد الضائع بين الطفولة والمراهقة.

لكننا لن نخدع بهذه السهولة، لأنّ المعيار في لوحة عباس بيضون لا يستقرّ على موقع. ولأنّ التقويم ليس حكراً على الكاتب، بل يجيء من القارئ، الذي سيدهش لفكر هذا الساحر المتخفّي وراء الطفل. ليس لهذا الازدواج حدّ. هذا الازدواج الذي أرّق الكاتب فحوّل أرقه عملاً فنّياً، ما أكثر ما يُغلَّف بما لا يستره حقّاً.

هي إذاً مرايا بالجمع، لا مرآة واحدة. مرايا تتبع الشخص المزدوج المتعدّد كيفما تحرّك. تقترب أو تبتعد. هي هذا النظر المسلَّط على المتحرك، هذا الوعي الذي يستفرد بالجسد والحركة، يسلّط الضوء ليرسم الظلال، بل ليصطاد الظلال.

تلتحق هذه اللوحة بثورة الفنّ الحديث الذي لم يعد يصوّر التناسق. بل منذ بيكاسو وبيكون خصوصاً، أخذ هذا الفنّ يستحضر ما وراء المشهد وما في جوفه ومقلوبه وظلّه ونقيضه. اهتزت الصور وتهشمت كلما تطاولت على الحميم.

الصورة هنا، في “مرايا فرانكشتاين” لعب فنّي بعناصر المصوَّر، في تجاوز للأجزاء، وبلا تواصل.

مشاهد بلا ترتيب زمني. يجمع بينها زاويةُ الرؤية وتشكيل المشهد. من الطفولة تقفز “السيرة” إذا أمكن اعتبارها سيرة إلى بدايات الرجولة. يعود بعدها إلى الطفولة والمراهقة. فإلى أزمة خاصة اجتازها هي مرحلة الأرق أو “النوم الأبيض” كما يسميها. تعبر مراحل الخصام مع الجسد المتمرد على صاحبه، الجسد المعاند الذي يعصى على عقل صاحبه ويخرج على طاعته، يخرج على نظامه وإدراكاته المرهفة. الجسد المتمرّد الذي لا يريد أن يكبر ولا أن يحتكم إلى هذا العقل الذي يبدو أبوياً يقظاً يحاسبه على كلّ حركة وكلّ لهجة. يرغمه على تبنّي لهجة جديدة والدخول في الإيقاع الغالب. وهو في اندفاعه إلى تعلّم لغة جديدة يتحرك كأنه في معركة يخوضها في كل آن ومكان.

لكنّ الظلال ليست محصورة في “البطل” محور الصورة. بل إذا أزحنا البصر عن هذا المركز الذي يستأثر بالرؤية ويستقطب مزيج الانطباعات المتداخلة بين الحنوّ والدهشة والاستغراب، رأينا الظلال أشدّ قتامة في المشهد الاجتماعيّ، المشهد المتكسّر كاشف التناقضات والصدوع العميقة التي تذهب بعيداً في خلخلة صور العالم المحيط وكشف ركائزه الهشة.

وها هو الجسد لا يبلغ رتبة ذلك العقل لكنه يطيعه أخيراً. أهو الجسد المَشّاء، أم العقل يهتدي بكبار “المشّائين”؟

فصل الصرخة: عقل العويط الذي وُلد فرأى

يطرح عقل العويط أسئلة الوجود على ولادته بل على حياته ذاتها، في كتابه “وثيقة ولادة”. فعلى امتداد الكتاب، الذي يُفتَرَض أنه سيرة، يتواصل الجدل بين الولادة وعدمها أو تجدّدها عبر تكرير الإخبار عن الولادة ومساءلة معنى أن يكون قد وُلد. كأنه يعتبر استمرارية الحياة مجرد افتراض أو احتمال، ويعتبر الحياة آنات متلاحقة مخطوفة من العدم، ليس ما يضمن استمرار تواليها. الحياة ، في هذا الكتاب، هي مسيرة تنتقل من تحقق إلى إمكان، ومن إمكان إلى وعد أو من إمكان إلى احتمال إمكان تالٍ. حتى لَتغدو الحياة افتراضاً، لا بد من البرهنة عليه كلّ لحظة. وإحدى آليات البرهنة، في هذا الكتاب، هي السؤال.

هكذا تبدو “وثيقة ولادة” بمثابة قضيّة حياة. هي رؤية للحياة بوصفها ولادة مُستَأنفة أو ولادات متوالية، ودخولاً متجدّداً في الوعي. لا حياة هنا بلا وعي للحياة، ولا وعي بلا مساءلة وامتحان للحياة في مدار بعد مدار.

عبر ما يُربي على 300 صفحة، تُستأنَف ولادة المتكلّم، حتى لَيبدو آدم الولادات. لذلك، ليس الكتاب سيرة بالمعنى المألوف، بل مسيرة خيال وتصوّر حياة؛ هو بناء صورة فلسفيّة للذات والحياة التي يبدو فعلُها الأول، أي حضورها ودورها، هو طرح الأسئلة على وجودها ذاته.

السؤال الرئيس المفتَرَض الذي يستدرجه هذا الكتاب أو يؤججه هو: ماذا لو أنّ الوليد امتلك الوعي والتعبير لحظة خروجه من ظلمة الرحم ودفئها وأمانها وقطبيتها فيه، إلى ضوء العالم وبرودته وتحدّياته وتعدّد الأقران فيه والمنافسين؟ وقبل ذلك كله تعدّد الغوامض والأسئلة والمتناقضات؟

هكذا فالكاتب هنا يكتب في سياق تساؤلات متجدّدة يتوسّطها تساؤل مركزيّ. إذ لا يتوقّف، على امتداد ثلاثمئة صفحة، عن تكرير الإعلان عن ولادته؛ بل يتكرر الإعلان عنها مراراً في الصفحة الواحدة. حتى أنّ “الوليد” يعبر الحياة (كما يفترض الكتاب) وهو في لحظة ولادة أو لحظة وعيها ومساءلتها. ما يجعل الكتاب تاريخ ولادات بقدر ما هو تاريخ حياة. إنه، في النتيجة، إقامة في شرفة الولادة أو على ضفافها.

الولادة، كما تتمثل في هذا الكتاب، هي ولادة وعيٍ بالجرح والعدم المترصّد؛ ولادة وعي بالتضادّ، بحضور الخطر، بأنّ العمر آنات ولحظات نجاة؛ الولادة وعيٌ يجعل الحياة ولادة يومية، ولادة كلّ لحظة، أو يجعلها استئناف ولادة، وفي النتيجة يجعل الحياة معلّقة أو آنيّة. بينما المحيط الحاضر الثابت هو العدم أو الموت، لا كخطر ماثل وحسب، بل كوعد وطريق ومآل. هكذا تغدو بدايةُ الحياة بدايةَ رحلة تحت سيف الموت، أو بداية الإقامة في أفق الموت وعلى مشارفه. وهذا ما يقيم السؤال كطريق وضوء وحيد لأمل المعرفة. ومن هنا ندرة السرد الإخباري وندرة الوقائع. فالسرد استحضار لزمن أو مسار متّصل، بينما الحياة ووقائعها، كما يكشفها أو يقدّمها هذا الكتاب، هي آنات متقطِّعة أو مهدّدة.

ومع هذا التشكيك المتواصل في الولادة، لا تتوقف ولادات المتكلّم، الذي ليس الكاتب تماماً وليس غيره تماماً. وكل ولادة صدمة وجود ومحنة وجود. أمّا الوجود الذي تسائله الولادة فمطعون فيه، ولا يجد استواءه أو استكمال وجوده إلا بالكتابة.

ما تقدّم يسمح بالقول إنّ هذا الكتاب هو، في بعد رئيس من أبعاده، بيان الشهادة أو بيان الولادة في الوعي. ولادة تعيد طرح جميع الأسئلة: الأسئلة الأولى، أسئلة الوجود والمصير: “ينتظر المولود تسعة أشهر، تسعة أعمار، تسعة دهور، تسعة آزال، تسعة آباد، ليصرخ، أما أنا فلا أصرخ بالصراخ، بل كنتُ أصرخ قبل الأزل مستشيطاً، لكن أحداً لم يسمعني لأن صرختي آنذاك لم تكن بالصوت إنما بجنين الأزل”.

إذا كان الكاتب يجسِّد هاجس الأسئلة في توالي الإخبار عن الولادة، فإنّ التمثُّل الأجلى لذلك هو اعتماد التعبير المتقطّع. إذ لا يستقيم اعتماد التعبير السردي المتصل في هذا المناخ، ما دام تاريخ الحياة وزمنها مجرّدَ لحظات نجاة، لحظات إفلاتٍ من العدم. أما الغد فلا يبدو هنا موعوداً. وهذا هو الوعي الصاعق الذي يحلّ السؤال محلّ الجواب.

كيف سنرى هذه الحياة التي تسير تحت سيف العدم المتربّص بها؟ سنراها والبشارة تجاور النذير، حتى كأنه ما من زمان، أو أنّ الزمان مجرد استئناف، ومتوالية لحظات.

“هذه ليست بداية” يقول عقل العويط في صفحته الأولى. ذلك أنّ البداية تفترض وعي زمن متصل وحضور متصل. هكذا تشكّك فنّيّة الانقطاع أو مأسوية الانقطاع، بأمل الاستئناف؛ لأنّ ما يحضر ليس إلا هول غياب الغد.

سوف نعرف – لا نعرف، عبر هذه النصوص عن الولادة المعلَن عنها تكراراً، المشكّك فيها تكراراً، الولادة المنفية الرازحة تحت أسئلة بلا أجوبة قاطعة. ونعرف، من ثمّ، عن وجود في السؤال لا يستريح، نعرف عن قلق لا شفاء له.

لكن هذا التشكيك المتواصل في الولادة يضمر طموحاً بلا حدود، طموحاً بولادة تغيّر المصير أو تغيّر علاقة المولود بدنيا الزيارة وعالم المزار.

لذلك تبدو لي “وثيقة ولادة” – التي تتمثّل مسيرة ولادات – أنها ليست إلا مسيرة وعي بالزمن والحدوث والعدم. على كل حال، الوقائع هنا، لا تحضر في سياق حكايات منظومة في سلك زمانيّ. بل تحضر كمتوالية أزمات للوعي بالحضور؛ تحضر في صورة صدمة للحياة أو صورة الحياة كصدمة، كتجربة مريعة رائعة، كسير على صراط فوق هاوية العدم.

هذا المولود الذي يقاوم الحياة بالنفي، هو في الوقت ذاته من يسوّرها بأسئلة الحيرة. إنه الطالع من مختبر المحن، من تاريخ الموت والعِبَر. مع أنّها ولادتُه، التي يُفتَرَض أنّها الأمل والبداية التي تحبل بكل الوعود وأيضاً بكل الأهوال. والكائن بيت لهذا الهول الكوني. أمّا الكاتب هنا فهو النافي والمنفيّ. والحياة، حياته ذاتها، هي موضوعه، هي مساحة أسئلته وشكوكه ومادة تجاربه. الذات عينها موضوع يبسطه للبحث. هكذا يفتّق خيوط الذاكرة أو يحلّها. الذاكرة هنا ليست متوالية أحداث في الزمان. الذاكرة هي “لا – ذاكرة”، لأنها مجرد مساءلة ونقض.

هذه محاكمة للحياة في نموذج معيش. وهي في الوقت نفسه محاكمة للموت، الموت الحاضر الجاري المُساكن المنتظَر، الذي يعرف أنه المنتَظَرُ المنتصِرُ عاجلاً أم آجلاً. تحت هذه القوس تمرّ الحياة. وكلّ ما فيها سيكون له لون مختلف ومعنى مختلف.

يتجه النص في “وثيقة ولادة” نحو إيقاع المراثي الجمعية بدءاً من الثلث الأخير للكتاب ليتصاعد بعد ذلك. وهذا الإيقاع مرتبط بحضور موضوع الحرب (الأهليّة اللبنانية) حضوراً مناخيّاً غير مفصَّل أو عينيّ. هذا الإطلاق هو ما يفضي إلى الغلوّ في معظم الصياغات. لكنه يأخذ النص المتدفق في اتّجاه حريات الشعر ومناخه: “يا نهر يا نهر. أنت البلد الذي ليس له بلد”.

ويَمْثُل مناخُ المراثي والتكرير الذي يستحضر صياغاتٍ في ملحمة جلجامش: “يا مرآة يا مرآة. هاتي زجاجك الأبكم لأدخل فيه، لئلا يسمعني أحد العابرين فيك”، “يا خبز يا خبز. من يشتري خبزاً ينوح على صاحبه؟”. وفي هذا الثلث الأخير من الكتاب تتعدد مواضع التماهي بالقتلى. حتى لتبدو الحياة مثقّبة بالفخاخ والالتباس. وتغدو صرخةُ الولادة صرخة دهشة واحتجاج، صرخة لا تنتهي، إزاء هذا الكون الذي نزوره بلا دعوة، زيارة خاطفة، مع ذلك يراودنا الحلم بتغييره. صرخةٌ إزاء الكون الذي نحلم فيه بمقام لرؤانا، وموقع لخطانا. صرخة تريد أن تحفر آثارها وترسم لوجودها معنى مختلفاً. من هذه الإرادة وهذا الحلم المعطوب أو المهدّد، بالضرورة، يصبح الوجود محلّ مساءلة لا تتوقف على امتداد النص: لماذا ولدتُ وما معنى أنني ولدت، بل هل ولدت ولادة لا رجوع عنها؟ حتى كأنّ حياة الكاتب ليست هي الموضوع بل الحياة إطلاقاً؛ كأنّ حضوره ليس إلا السؤال الجارح، من هنا أن الولادة، في رؤية هذا الكتاب، لا تغدو نهائية أبداً. وتتخذ هذه المساءلة، وحتى التشكيك بل الطعن، صيغة ولادات مستأنَفة متكررة بلا توقف. هذه الذات الملغومة الواقفة بين الوجود واللاوجود هي باستمرار برسم الاختبار: “لن يعزيني أني أخترع شخصاً يكتبني، فهذا مدعاة للألم الهمجيّ الساكت ليس إلاّ”.

والكتابة هنا أكثر من مساءلة للذات.

الكتابة هنا تقدم الحضور في العالم كمغامرة مؤسِّسة. وتربط مغامرة الوجود بمغامرة الكتابة. هكذا تغدو ولادةُ المولودِ الشجرةَ أو الحاملَ الذي يحمّله الكاتب مضامينَ تجاربه ورؤياه. فهناك تماهٍ متكرر بالقتلى في هذا النص. ما يفتح نافذة على “الحرب”، التي تركت جراحها في الكينونة، لينطلق المأسوي.

“وثيقة الولادة” تجيء هنا كتعيين هوية أو ماهية. ماهية تبدو أنها الحياة في الكتابة، أو الكتابة كفعل حياة وتجدد، كاكتشاف متواصل للذات. لهذه الهوية أو الحياة صورة هي الصرخة. الصرخة كإعلان عنيف متجدد عن الحضور في العالم حضورَ مساءلة واعتراض ورفض؛ كبحث في كلِّ مستقرّ عن عطبه.

هنا كلّ ولادة هي استحضار لولادة البشرية. كأنّ الولادة في كل إنسان تمثّل أملاً جديداً ومعنى جديداً للإنسانية: “لم أولد في وقت سابق لكي يقال عمّا أكتبه الآن إنه تأريخ أو رواية، أو إني أخترع”، “ولقد رأيت سواي وكان أنا”.

هذا الكتاب فورة أسئلة: ماذا رأى الإنسان لحظة خروجه من ظلمة الرحم ودفئها إلى ضوء العالم وبرودته؟

إنه خروج من منطق سرد الوقائع إلى اللامعقول للإيحاء بالانشطار والشطح والشرود عن التاريخ والوقائع. والإيحاء بسقوط الحدود بين المنطق الواقعي واللامعقول والجنوح الخيالي.

“إنما كان ينبغي لي أن أسافر في جسمي لكي أردم صحراء، هي إلى الآن غير قابلة للردم”.

مع ذلك تحضر بين صرخة وصرخة وقائع الأسرة وبعض أحوالها متشرّدة وسط التأملات والشطحات الفكرية. كما تحضر معرفة الله وطبيعة هذه المعرفة من حيث هي معرفة عبر الذهول: “لا سبيل البتة الى إدراك اللامدرَك إلاّ بما يجعل المعرفة بالعقل ترتقي الى المعرفة بالذهول”. حتى ليقترب النص في بعض مقاطعه من مناخات التصوف. وهذا الاقتراب هو ما ينسجم مع الخروج المتواصل على التسلسل الزمني وعلى التوالي المنطقي أو الحكائي. فالزمن هنا له حركة الموج إذ يتواصل عبر إعادة البدء والحركة التي لا تبلغ تمامها ولا غايتها.

والكاتب، إذ يكتب هذه الولادة ويقدّمها كصرخة، لا يتوقف عن استئنافها، لتبقى لغزاً أو مشروعاً. وهذا يقيم التقابل والتكافؤ بين الصرخة والكتابة، ما يكشف أن الكينونة في نظر عقل العويط تبقى سؤالاً فلسفيّاً بقدر كونها صرخة شعرية.

يمنى العيد وشاعريّة السرد في “أرق الروح”

يمنى العيد الناقدة التي تميّزت، في شكل أخصّ، بتحليل الأعمال الروائيّة، تكتب هنا سيرتها، بفنّيّة روائيّة. تتجلّى هذه السمة في الفصول الأولى، حيث البَوْن الزمني والعمر الموصوف يلعبان دوراً في التعامل مع الوقائع عبر شعرية الحنين: “أكتب ذكرياتي. أبتدع لغةً لها”.

بهذه الروح تكتب يمنى العيد ذكريات حكمت صبّاغ، في كتابها “أرق الروح” (دار الآداب 2013). لكنها لا تلبث أن تعتمد صيغة الغائب، للكلام على الطفلة حكمت، التي ستصبح يمنى العيد.

في هذا الكتاب، تتراءى طفولة الكاتبة في سائر مراحلها، خلال غلالة شعرية سردية ساحرة. والكتاب تصوير مرهف يستحضر جوانب العالم الصيداويّ وحتى “الصيدونيّ” الغابر، في أبعاده الشخصية والعائلية والعمرانية وفي عمقه الاجتماعيّ والتاريخيّ دون غياب الأسطوريّ.

ما يقيم التوازن بين الطفولة الحالمة وعالمها شبه الأسطوري، وبين مرحلة النضج والصعود العلمي والاجتماعي، هو تلك الرحلة الحارقة في عين الخطر، وعبور الموت وسلسلة الآلام التي تعرضت لها الكاتبة في طفولتها، واحتاجت إلى كل الشجاعة والجهاد الفكري والعلمي لتجاوزها والصعود فوقها.

ولكن هل هي مسيرة حكمت أم هي في الوقت نفسه تحولات مدينتها صيدا وخفايا عالمها وأطواره؟ ولا سيما في المرحلتين الأولى والثانية من هذا العمل؟ حيث صيدا تشاطر البطلة الصغيرة موقعها في الرواية.

كتاب “أرق الروح” إضاءة رائعة لصيدا الساحرة القادمة من عمق التاريخ، الناهضة بقلعتها وحصونها وأبوابها وأسرارها وأسواقها وأصالة أهلها وطرافة بعض شخصياتها. صيدا التي احتضنت الطفلة الشاعرية وأحزانها الملازمة وصور الأولاد الذين رحلوا وما غابت صورهم وأسماؤهم، تتجلى هنا كعالم سحري أو عالم سحَرَ البطلة الصغيرة وواصل سحره على الكاتبة الكبيرة.

يتحرّك هذا الكتاب في ثلاث مراحل رئيسة مترابطة ومتكاملة: 1- الطفولة والانتقال بين الأخيلة والروابط الأسرية الحميمة، واكتشاف الأبعاد المتعددة للفضاء الإنساني ـ التاريخيّ لمدينة صيدا. 2 – مواجهة الموت لدى مواجهة البطلة الطفلة للتاريخ والواقع الراهن. 3 – المرحلة البيروتية وطريق الانبعاث والكفاح والصعود.

هذه المراحل تتواءم في الوقت نفسه مع مسار الكتاب وتحوله الأسلوبي: من السياق الشعريّ الحميم والحلميّ التخيّليّ في استحضار الماضي، إلى المناخ التراجيدي مع صدمة العالم الغريب الدخيل ومواجهة الواقع التاريخي، وصولاً إلى الأسلوب الواقعي لرسم طريق الصعود وتجاوز المأساة بالكفاح المثقف والعقلانية والتخطّي.

في القسم الأول من الكتاب نجد أنفسنا أمام عالم كأنه في الحلم. عالم مرسوم بلمسات لا تحدد الخطوط بل تتركها شبه غائمة. تتقدّم أحداثٌ لا تنكشف دلالاتها جميعاً، بل تبقى رجراجة خلف ستارة الحيرة أو التأويل. تتوارد اللوحات والأوضاع التي لا تمثل أحداثاً تدفع السياق، بل تمثل حالات وعلاقات ومشاعر تكشف عن وعي الكاتبة ورؤيتها لذلك العالم من الدفء والاحتضان. فعلى سبيل المثال، تستحضر يمنى العيد يوم ولادتها ولحظات خروجها من الرحم. ترسم لوحة الولادة وعناصر المشهد و”أبطاله”. ترسم ما لم تشهده، ولكنها افترضته لتكتمل اللوحة. وتسند ما تكتب، كإسناد الروائيين إلى شخصية راوٍ مفترض (هو أختها عائشة) لتمنح الوصف صدقية وتكسب اللوحة مقوّمات الحياة: “خالتي منيفة ترفع لَكَن الخلاص الدمويّ من تحت الكرسيّ، في حين تشعل الداية، أمّ علي، سيكارتها وتمجّها بنفَسٍ طويل (…) تنفث الدخان الذي ينعقد في فضاء الغرفة… يتلوّى قبل أن يجد سبيله نحو باب الغرفة، منفذه الوحيد. فالجوّ بارد والنوافذ مغلقة” (ص 18).

يبدأ الوصف من لحظة الولادة لينداح متّسعاً من الحميم الجسديّ والدائرة البيتية وأساطيرها، في اتّجاه المدينة وفضائها.

إنها ذاكرة كيان يتفتّح، وذاكرة مكان وثقافة حياتية يومية بطقوسها وتفاصيل إجراءاتها؛ وهو سجلّ مرويات تشهد للحاضر وتستحضر الغابر. إذ يبرز اهتمام الكاتبة برسم المناخ المدينيّ العامّ والبيتيّ، متداخلاً بالمناخ الشعبيّ والمعتقدات والتخيلات. فكأنّ الكاتبة تنسج أسطورة صيدا من خلال الطبقات التاريخية وهي تتلامح في عمق اللوحة المعاصرة.

تنفتح على هذا السرد، وعبره، المشاعر الذاتيّة والذكريات؛ وتحضر أحزان العائلة وأفراحها. وعبر رسم الشخصيات وهواجسها وسلوكها ومواقفها يتجلّى التمايز بين الشخصيات وكذلك بين الفئات. ففي سياق رؤية المدينة ورسم معالمها تعبر شخصيات تمارس حرفاً اندثرت كالرجل الذي كان يشعل فوانيس الحارة، وشخصيات في العالم البيتيّ ترسمها الكاتبة بكثير من الحنان والإرهاف مثل شخصية وليّة.

وبقدر ما هو الوصف روائيّ نجده يمتلك لمحات معرفية (كي لا أقول أنتروبولوجية) تقدم عالم صيدا الشعبيّ بمعتقداته وشيء من رؤيته للعالم ومن عاداته وتحولاته. صيدا هنا أمٌّ حيّة أليفة حاضنة متآصرة عريقة في الزمن والتحولات، حاضرة، بروحها وعمقها الزمانيّ، بمجموع أبعادها وذاكراتها.

مع ذلك تحضر في بعدها التاريخي اليوميّ المباشر وحتى الفرديّ. يتمثل ذلك في وصف الملابس والعادات، المفردات والتسميات المحلية، أسماء العائلات، المقاهي، الدكاكين، المآكل التقليدية، المشروبات المحلّيّة (شراب القرفة الساخن).

يحضر هذا البعد فيما الطفلة تكبر ويبدأ اكتشاف المدينة بأزقتها وقناطرها وسورها. لكن ما من وصف يتوقف عند الموصوف موضوعياً. وما من تاريخ يتوقف عند الموثّق المألوف. ما من ذاكرة تتوقف عند المدوّن والمرويّ. فكل شيء له امتداده الأسطوريّ أو امتداده الحكائيّ أو الخرافي والمتخيّل. هنالك حفر على الذاكرات المتراكمة الغائبة. وللشخصيات الأساسية امتدادات وظلالٌ وجذور. هكذا تحفر على كنية عائلتها “صبّاغ”. وعبر هذا الحفر ترسم الخطوط والأواصر بين المغرب والمشرق، وحتى بين صيدون وصيدا، بين جدّ صيدونيّ قديم مفترَض مارس جَمْعَ أصداف الموريكس لاستخراج الصباغ الأحمر الذي اشتهر به الصيدونيون، وجدٍّ متصوّف قادم من المغرب استقرّ داخل سور المدينة البحريّة. وفي ذلك تتمثّل لدى يمنى العيد قدرة خاصّة على ترسيم لوحة حيّة ذات أبعاد مترامية، تاريخية – جغرافيّة إنسانيّة. إذ إنها تقدّم صورة صيدا وأهلها في أسلوب من الشغل العاطفي والتقني مرسومة على الخلفيات والظلال التي تمتد عبر العصور وصولاً إلى الزمن الفينيقيّ. هنا لكلّ مكانٍ حكايته وله أشخاصه. تبدو صيدا أمّاً دهريّة تحتضن الشعوب والشخصيات وتنام على حكاياتها، وتتسلّل أحلامها إلى بنيها.

لكنّ الكاتبة، في الوقت نفسه، تترسم زمن التحولات الذي يقتحم بعنفه المدينة ويزعزع امتدادها الهادىء في حضن البحر والبساتين، كما يحوّل زمنَها المستريح في حضن التاريخ. فها هي الأساطيل والغزاة الجدد تجرح ذلك الجمال. يصل الأسطول الإنكليزي ومعه القوات الأوسترالية والفرنسية الحرّة لمحاربة حكومة فيشي ويزعزع الطمأنينة الراقدة بين الشاطئ ورصانة الأوابد التاريخية.

هذا العالم الغريب القادم يخترق المدينة، ليزعزع مجرى الزمن المنساب انسياباً. يطالعنا رسم لأحداث لا تنكشف دلالاتها جميعاً، إذ تسوقها الكاتبة في صورها المحفوظة في الذاكرة، لتبقى رجراجة خلف ستارة من الغموض. إنه رسم بريشة الطفولة ومن خلال مشاعرها وخيالها ورؤيتها للعالم في مواجهة مستجدات تاريخية.

للأماكن في هذه السيرة الروائية ذاكرات وحكايات، تستحضرها الكاتبة. يحضر الغائبون الذين لا يغيبون. الأطفال الذين ماتوا وظلّوا أحياء في خيال الطفلة حكمت ليس فقط كمنابع للأسى، بل كامتداد حنينيّ غير مرئيّ، أو كأفق خفيّ تروده الأخيلة الغامضة والتساؤلات. تحضر صورة أمين الذي غاب، والأسئلة الملجومة حول هذا الغياب، وحول الكثير من غوامض ذلك العالم.

إنها الأسئلة الأولى، الأسئلة الخطيرة: “الله ردّدت في صمتي”. وإنها الهواجس الأولى، وحتى الكوابيس.

صفحات من طفولة كأنها تتلامح من وراء الضباب. وتتراءى المدينة وطرقها، الأحياء والدور التي تجتمع فيها عائلات متقاربة: “أحواش ودهاليز، ودارٌ كأنها كانت مسكناً للجنّ. ونحن نصعد درجاً ونهبط آخر. نهرب أحياناً لنكتشف زواريب محظورة علينا، ونتسلّق نوافذ لنعبر من فجواتها إلى فناء أو لنجلس على أفاريزها الداخلية” (ص 41).

ولا تكتفي الكاتبة بذكرياتها وأحلامها بل تورد ما كان يرويه عمُّها عن مدينة صيدا: “صيدا كانت مسوّرة بسور عظيم تنفتح فيه ثلاثة أبواب”، كما يحكي حكاية الباب المغلق الذي لا يراه أحد ووحدها الفرس تراه.

وسط هذا العالم الغامض ترسم الطفلة علاقتها بالأب، وترسم موقع الأب كمرجع لتفسير الغوامض، عبر اللجوء إليه أمام كلّ حدث غريب.

في هذه المرويات والذكريات التي يتداخل فيها الواقع بالحلم، والخيال بالمرويات الخرافية، يرتسم عالم مدينة شعريّة، عالمٌ له عمق إنسانيّ تاريخيّ وظلال أسطوريّة. “الصيداويون العائدون من البحر (…) أراهم وأنا واقفة فوق الطرف الغربيّ من هضبة الموريكس (…) وأراهم وأنا فوق سطح دارنا الكبيرة، أطلّ من فوق سوره الواطئ على البحر (…) وأراهم وأنا أقرأ عن سكان مدينتي القدامى يحملون محارات الموريكس والباكسينيوم في أكياس ينسجها أبناء المدينة (…) يأتون من جهة الشمال، من خلف المتوسّط إلى مدينة الأرجوان… إلى صيدا”.

من هذا الرحيل في الزمن الصيدوني تنتقل الكاتبة، في تساؤلها عن جذور الأسرة، بانعطافة سردية نحو عصر آخر وصولاً إلى الزمن المعيش: “هل كان جدّي أحد هؤلاء الصيداويين المشتغلين بالموريكس؟ (…) هل كان صبّاغاً! أم أنه وكما قيل لي، في حكاية توالى أهلي على روايتها، هو هذا الصوفيّ القادم من مدينة فاس في المغرب، قبل حوالى سبعة قرون، حاملاً كنوزه ليبني مسجداً مقابل بوابة الشاكريّة، إحدى بوّابات صيدا القديمة…”.

إنني أُكثِرُ من الشواهد لفرط إعجابي بهذه المقاطع ولهذا التداخل بين الذاكرة والخيال. ذلك أنّ يمنى تستعيد عالماً مفقوداً. تستعيده في شباك حلم ساحر لابدّ من استحضاره ليتوازن العالم وتكتمل صورته: “ثقبٌ في جدار يشبه فوهة بئر تتراقص في فراغها المعتم خيوط نور، ذرّيّة، آتية من الداخل. أنجذب نحوها كأنني أهوي على مهل ويلامس جسدي مياهاً لا قعر لها. أغور، ثمّ أطفو، كأنّما على سطح ليّنٍ رجراج” (ص 46).

هكذا يأخذنا النصّ بيسر وانسياب، في دروب تتداخل بالمتخيّل وتنفتح على الأسطوري وهي تتهادى من الذاتيّ إلى التاريخيّ البعيد عائدةً إلى الراهن: إلى صورة المدينة والعادات وبعض حكايات العائلة ونمط الحياة والنقل وعلاقات العائلات، وصولاً إلى أخبار تترجح بين التاريخ والحكاية والخرافة.

في القسم الثاني ترسم يمنى العيد لوحات تمثل اقتحام زمن جديد لعالم مدينتها الهادئ المنطوي على قيمه وعلاقاته الاجتماعية. ولم يمثل هذا الاقتحام صدمة اجتماعية – سياسية وحسب، بل أصاب الطفلة حكمت في كيانها وقذف بها إلى حافة الموت. يتمثل هذا القسم بعنوان “جمر الصمت”. وفيه تروي الكاتبة فاجعة إصابتها طفلةً في أثناء تظاهرة ضدّ الانتداب الفرنسيّ احتجاجاً على سجن رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة. يومها نقلت إلى المستشفى بين الموت والحياة. هنا يتحوّل كلامها عن نفسها إلى صيغة الغائب، ويدخل السرد في إيقاع الفاجع. تفتتح السرد بحكم يلخّص ما حدث ويكشف هوله وتحويله لمسار حياتها: “وعبرت. عبرت من زمن إلى زمن في حياتي”. (ص 74). تلي ذلك تساؤلات وهواجس وذكريات يتداخل بعضها في بعض: ” أيتها الشمس، أيّها الإله الأكبر لأجدادي! أخبريني هل كنت تدفعينني إلى حتفي أم إلى مجدي. أخبريني كما كنت تخبرين أجدادي…” (ص 75) “أيتها الشمس هل كنت تتآمرين على طفولتي؟”.

أمّا في القسم الثالث من الكتاب فتتمسك الكاتبة بدفة السرد لتستعيد الوقائع، بالدقة والصدق، كي تؤرخ لمرحلة بناء الذات وتعمّق الرؤية الموضوعية؛ وهو ما يقترن بالاغتراب عن صيدا – الأم. كأنّ هذا الاغتراب نحو الأفق الأوسع شرط للانطلاق والاستقلال وبناء الذات. هذا القسم يرسم كفاح البطلة من أجل العلم واقتحام ساحات المعرفة والنضال؛ وبذلك تتكامل صورة المثقفة الملتزمة الرصينة في مهبّ أعاصير الحرب والنضال الثقافيّ والوعي السياسيّ.

هكذا يمكن وصف مراحل الكتاب الثلاث، بأنها تطوّرٌ وانتقال، من الشعرية الرومنطيقية أولاً، إلى المأسوية ثانياً، فالعقلانية والتعالي على الكارثة وبلوغ الأهداف، ثالثاً.

يمنى العيد في طليعة الدارسين لفنّ الرواية العربية المعاصرة. هل يكشف هذا الكتاب عن سرّ اهتمامها المتواصل وتعمّقها في دراسة هذا الفنّ؟ ذلك أنه ينبئ عمّا يتجاوز الذائقة والخبرة والمعرفة المعمَّقة إلى السليقة بل الغريزة الروائية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى