صفحات العالم

سورية مجدداً!


د.نهلة الشهال

كانت إذا جمعة “الحماية الدولية”! هي خطوة اضافية في منزلق مهيأ سلفاً, بينما يستمر النظام السوري في القتل الواسع, وفي ما يعادل القتل بشاعة, في تبرير منحرف أصم, ينتج خطاباً دائرياً مكروراً, كأسطوانة مشروخة. إنه المأزق المزدوج, يستقر في بلد مركزي كسورية, تطال تأثيرات ما سيحل بالمنطقة بأسرها علاوة على المكان ذاته. هذا وزير الدفاع السوري الجديد يقول كلاماً مفوتاً جلفاً, لا صلة له بالواقع, مِن أن “استهداف سورية يأتي كونها ممثلة للنهج القومي العروبي المقاوم الذي يقف في وجه أطماعهم ومشاريعهم في المنطقة”. والادهى أن أهل النظام يدرون أن هذا الكلام لا يقنع أحداً, فإن كانوا لا يدرون, ويصدِّقون أنفسهم, فالمصيبة أعظم.

وقد وصلت المفارقة الى حد تدخل الرئيس الايراني نفسه, غير المشهود له بالديمقراطية, معلناً أن “الحل العسكري لا يمكن أن يكون الحل الصحيح”, داعياً الى المساعدة على إطلاق الحوار الوطني في سورية, ومقترحاً مبادرة بهذا الاتجاه من قبل مجلس التعاون الاسلامي. وهذا آخر الكي. فالأنظمة على شاكلة النظام السوري لا تثق بأحد, وهي قد ترتاب بأقرب حلفائها, كروسيا مثلاً التي قامت بكل ما تملك لعرقلة اندفاعة مجلس الامن نحو تدابير زجرية تتجاوز العقوبات الاقتصادية. ومصدر الارتياب حساب المصالح, التي قد يتبدل تعريفها حسب المعطيات. بينما يُفترض ألاّ تشك القيادة السورية في نوايا حكام طهران الحاليين, ليس فحسب بسبب متانة العلاقة بين البلدين وخصوصيتها, بل لارتباط مصالح إيران ارتباطاً مباشراً (وإن لم يكن وجودياً, بعكس ما يهوَّل به أحياناً) بمآل الوضع السوري. وإذا ما قابلت دمشق المسعى الايراني بالتعنت, فما الذي يمكن رجاؤه بعد ذلك?

بل, ستكون هذه الواقعة حجة إضافية في يد الجهات التي تبني بتؤدة عملية الايقاع بسورية, وهي عارفة تماماً أن مصير النظام يختلط بمصير البلد لوقت من الزمن على الاقل, وهي حالة شديدة التكلفة على سورية, وليس السعي لتجنبها بلا معنى, وإن يكن هذا السعي يصطدم بمنطق النظام الاعوج الذي يطلب عملياً من معارضيه الاستسلام.

ذلك أن هناك عملية بناء كهذه. لقد تجاوزت الحكومات الغربية, أمريكية وأوروبية, عنصر المفاجأة الذي ألمَّ بها عند انفجار الثورات العربية, والتقطت انفاسها, وتسعى لهندسة الموقف بما يلائمها قدر المستطاع. وهي وضعت وفق التجربة الليبية,ما يمكن اعتباره دليلاً للتدخل الناجح, يشبه PACKAGE متكامل, يأتي على رأسه أن يطلب المواطنون هذا التدخل فتجري الاستجابة له ل¯ “ضرورات انسانية”, ثم أن يكون لدى الثورة “عنوان موحد”, هيئة يجري تنصيبها بديلاً عن النظام, تنتقل بخطا سريعة من هيئة تنسيق الى مجلس انتقالي, يلعب دور العلاقات العامة. تُنفخ الهيئة إياها حتى لو كانت بلا أسس متينة, بل تغدو تستمد تباعاً مرتكزاتها من الدور الذي تلعبه, مما يجعلها رهينة هذه الوضعية, ومما يملِّك الغرب مواطئ قدم متصاعدة. وهذا سيناريو عام يبدو أنه معتمد في الاماكن التي لا ينفع فيها تثمير العلاقات القائمة مع أجزاء أساسية من النظام القديم, تنقلب على رأسه وتتخلص منه حفاظاً على النظام نفسه, كما حدث في الحالتين المصرية والتونسية, حيث تدخَّل جهاز متماسك وذا صفة وطنية, هو الجيش, ل¯ “إنقاذ” الموقف.

وقد لا ينجح استنساخ التجربة الليبية في سورية, لأسباب عديدة, ولكنها اليوم الاداة المستخدمة ل¯ “إنضاج” الموقف. كما لا يعني ذلك بحال من الاحوال أن كل ما يجري هو مؤامرة حاكها الغرب ويتحكم بخيوطها. بل يتأقلم هذا الاخير بكل تناقضاته مع المعطيات ويرتضي ولا خيار له بمواكبة التغييرات, وهذه حقيقية ومفتوحة بقدر كبير على المجهول الذي قد لا يروق له. وحدها الانظمة النخرة تتصرف بجمود يشبه تخشب الجثث!

وأما المعارضة المدفوعة هكذا الى الواجهة, فهي بالضرورة بائسة متهافتة خفيفة, بخلاف الانتفاضة الشعبية العامة التي تتجاوزها, والتي تدفع أعلى الاثمان. هاكم مثلاً رئيس “المنظمة الوطنية لحقوق الانسان”, السيد عمار القربي, في زيارته الاخيرة لموسكو, يقول: “لا نريد أن تكرر روسيا الخطأ نفسه الذي ارتكبته في ليبيا. لقد اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي متأخرة جدا…والشيء نفسه حدث مع العراق, ولا نريد ان تكرر روسيا ذلك للمرة الثالثة”! دعك مما يبدو تهديداً من قبل الرجل لروسيا أو ترشيدها الى السبيل القويم, مما يحتاج بالتأكيد الى مزيد من تدريبه على الدبلوماسية في المعاهد المتخصصة للقيادة في واشنطن, التي يرتادها هو وبعض زملائه. إلا أنه ينزلق ليس فحسب للاعتداد بالتجربة الليبية, الإشكالية باعتراف الجميع, بل بما جرى في العراق, أي تحديداً بشبح الوضع المرعب الذي يقض مضاجع السوريين, وهو الوضع نفسه الذي يوظفه النظام السوري كفزاعة للناس ترافق القمع البشع.

لا يعادل بؤس السلطة السورية إذ تمعن في مسلكها الانتحاري, جارَّة البلد كله الى الكارثة, إلا بؤس بعض المعارضة. تلك التي وإن بدت بديلاً للنظام, أو قُدِّمت هكذا, فهي تنتمي الى بنيته ذاتها والى الذهنية التي يصدر عنها. ديمقراطيون يا سادة? بالتأكيد لا! بدلالة نظرائكم الذين تعتدون بهم: العراقيين بعد تجربة تكاد تبلغ عشر سنين ولا أفق لانتهاء كوارثها, وأولئك الليبيون الذين ينطبق عليهم أن المكتوب يُقرأ من عنوانه. ما زالت مهمة التغيير تتفاعل, ولكنها بالتأكيد غير منجزة.

العرب اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى