صفحات العالم

سورية مختلفة حقا

 


خليل قطاطو

بعض المثقفين والكتاب والصحافيين والشعراء المرموقين ـ مثل سعدي يوسف ـ لا يريدون لسورية، هذه القلعة القومية ان تهتز، ربما خوفا على مشروع الممانعة والمقاومة من التشرذم، لا احد ينكر ان سورية وقفت مع المقاومة في فلسطين ولبنان امام مد الاستسلام والتطبيع والتنازلات منذ زيارة السادات لاسرائيل، والحلقة الاولى من مسلسل كامب ديفيد، مرورا بالاجتياحات الاسرائيلية المتكررة للبنان، ثم اوسلو، وولادة معسكر الاعتدال العربي الذي قادته مصر ـ حكومة لا شعبا.

السؤال الصعب هو لماذا يصدق بعض هؤلاء الرواية الرسمية السورية بوجود مؤامرة وعصابات مسلحة، سلفية وغيرها، بتمويل خليجي وتيار المستقبل وحلفائه؟ اما السؤال الاصعب فهو لماذا يراهن هؤلاء على ان انهيار النظام السوري، وبزوغ نظام جديد سيكون لا محالة، في مصلحة المتآمرين؟

الرواية الرسمية من دمشق رواية تافهة هزيلة تم اخراجها الى فيلم غير مترابط، يبدو ان المخرج مبتدئ، والانتاج بخيل والممثلون كسالى لم يدرسوا الادوار جيدا، ولذا لم يتقنوا مهامهم. الادلة هنا كثيرة، نستعرض بعضا منها للتدليل.

حاصرت قوى الامن السورية المسجد الرنتيسي في درعا واقتحموه بحجة اختباء مجموعات سلفية ارهابية فيه، ثم نسي المخرج ما قال في الحلقة الاولى، ليخرج الينا في الحلقة الثانية بأنهم يبحثون عن معارض يساري داخل المسجد، وهذه اول حادثة تاريخية اسمع عنها عن يساري سلفي!

ما فتئ النظام السوري يردد نشيد الحوار الوطني مع المعارضة، فاذا كانت المظاهرات هي مجرد تجمعات غوغائية وعصابات مسلحة، فلماذا ستتحاور معهم الحكومة ـ على الاقل قولا لا فعلا ـ والظريف اننا لم نسمع عن اي معارض سوري ذهب برجليه الى الحكومة ليتحاور معها وعاد سليما معافى الى قواعده، فالحوار السوري يعني الاعتقال والسجن والاهانة والضرب، طبعة سورية خاصة.

ايام الجمعة اصبحت دموية في سورية، قتلى بالعشرات، وفي احد الجمع ـ قبل ثلاثة الى اربعة اسابيع ـ تجاوز العدد المئة للمرة الاولى. في الجمعة التي صادفت الثالث عشر من ايار/مايو اعلن التلفزيون ـ والاذاعة ـ السوريان ان قرارا قد صدر بعدم اطلاق النار على المتظاهرين، في تلك الجمعة عمت المظاهرات كل المدن السورية، القتلى اقل من عشرة! التحليل بسيط ومنطقي، العصابات المسلحة الارهابية والتخريبية ائتمرت في تلك الجمعة بأمر الحكومة ولم تقتل سوى خمسة الى ثمانية ـ مدنيين ـ ولم يقتل يومها اي جندي، شرطي، او ضابط سوري، اذا هذه العصابات تابعة لقوى الامن والجيش السوري، هل يملك احد اي تفسير آخر؟ تدارك المخرج الفاشل خطأه الجسيم، في الجمعة التالية، العشرين من ايار/مايو، لم يصدر اي قرار بعدم اطلاق النار على المتظاهرين، قتل اربعة واربعون مواطنا، لان العصابات المسلحة، ملتزمة بأوامر الحكومة مرة اخرى، المخرج اياه عليه الاعتزال، ‘اجا يكحلها عماها’.

الطريف ايضا ان الحكومة السورية الجديدة ـ بتكليف من الرئيس ـ سمحت بالمظاهرات ولكن بإذن مسبق وتصريح من وزارة الداخلية، خيل الي حينها ان احمل كاميرا خفية وارافق مواطنا سوريا يذهب الى وزارة الداخلية بصدد الحصول على تصريح المظاهرات تنادي بالاصلاح عندها تخيلت انني سأبقى انتظر هذا المواطن ـ الفدائي ـ للابد ليخرج من وزارة الداخلية، وسيكون عنوان الحلقة، خرج ولم يعد.

اما السلطة السورية فخيارات مخرجها اثنان فقط، اما ان تنكر وجود مواطن سوري بهذا الاسم، او الاقرار بوجوده، ولكن انكار انه دخل في يوم ما وزارة الداخلية.

ما يؤلم في المشهد السوري، الشباب الذين يشيعون الشهداء في يوم ما، يصبحون شهداء في ذات اليوم، يشيعهم شهداء اخرون في اليوم التالي، وقافلة الشهداء لا تنتهي.

حالة من الارتباك والخوف تعتري قوى الامن السورية، حدثني صديق سوري ان شابا سوريا شاهدته قوى الامن يلتقط صورا لمظاهرة من تليفونه الخلوي وهو يقود سيارته، فلاحقوه، حاول الفرار منهم ولكنه عمل حادثا بسيطا وتوقف، جاءوا اليه، اعتقلوه، ضربوه، افرجوا عنه بعد عشرة ايام، حتى الآن القصة عادية، الطريف في الموضوع انهم افرجوا عنه من دون ان يصادروا الخلوي او الصور التي التقطها، مثال حين على الارباك.

ان يخرج الشباب السوري، غير مقنعين، يحملون لافتات مثل ‘الرئيس مصيره في محكمة الجنايات الدولية، او الرجاء اطلاق الرصاص المطاطي ـ لا الحي ـ اسوة باسرائيل، او نداء الى الجيش، انتبه هنا حمص وليست اسرائيل…’ وغيرها الكثير امر يدعو الى الاعجاب بجرأة هذا الجيل الذي لا يعرف الخوف، المتشائمون سيقولون ان هؤلاء الشباب فقدوا معنى الحياة، كبت، بطالة، فساد، فقر فأصبحت الحياة عندهم لا تساوي جناح بعوضة، اما العاقلون فيرون فيهم تطلعا لحياة جديدة فيها الكرامة والحرية والصدق قبل لقمة الخبز الضرورية. عجبت لمن ينام من دون ان يجد قوت يومه، كيف لا يخرج شاهرا سيفه، ولكنهم خرجوا من دون سيوفهم، بصدورهم العارية، واكفانهم لحياة جديدة ذات لون مختلف. الثورة السورية مستمرة، الشهداء قاربوا الالف، عدا الاف المفقودين والمرجح انهم شهداء ايضا، حاجز الخوف الذي تهشم لن يستطيع المخرج السوري المبتدئ ان يرممه.

ان تكون سورية مع المقاومة لا يبيح لها بأي حال من الاحوال قتل خيرة شبابها ونسائها واطفالها، الحكومة السورية حولت البلد الى سجن كبير، والحرية يتغنى بها حزب البعث كشعار له لا وجود لها، اطلاقا.

سورية تمر بمخاض عسير، المولود الجديد لن يكون مشوها، ولا متآمرا على مشروع المقاومة، والشعب السوري سيكون اكثر وفاء للمقاومة من الحكومة الحالية، والمؤامرات موجودة فقط في خيال الحكومة السورية الحالية والمتنفذين من الحزب والعائلة الحاكمة، ولا فتنة طائفية موجودة في سورية، فالحرية والكرامة والعدالة لا تعرف دينا ولا طائفة، وستعم الجميع.

الى كل المتشائمين من المجازر في ليبيا، والتنكيل والقمع في سورية واليمن نقول فقط، تذكروا ان مبارك وحزبه كانا ايضا مهيمنين، متسلطين، عنيدين، ولم يصمدا امام الثورة الشعبية، قد يصمد النظام السوري اطول، ولكنه لا محالة زائل.

هذا الربيع العربي، وقبلة الشتاء الدافئ، سيتبعه صيف حار على انظمة اخرى، ثم سيزورها الخريف، وتذبل اوراقها وتتساقط، وتتكسر اغصانها الهشة.

كنت بصدد كتابة مقال بعنوان، الكتابة في زمن الثورات ترف ام ضرورة، ولكني ايقنت انها ضرورة لفضح الاكاذيب الرسمية التي انطلت حتى على بعض المثقفين الذين وقفوا في المحطة الخطأ.

 

‘ كاتب فلسطيني مقيم في امريكا

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى