صفحات العالم

سورية :هل لا يزال طريق التسوية التاريخية سالكاً!؟


عبد الحسين شعبان

-1-

هل يمكن تحقيق الانتقال السلس الى الديمقراطية في سوريا بتسوية تاريخية؟ الأمر ليس مستحيلاً، كما هو ليس مستبعداً، لكنه قد يكون من الصعب جداً الوصول الى مثل هذه القناعة، ناهيكم عن النتيجة، بعد انفجار أعمال الاحتجاج السلمي في العديد من المدن والمناطق والبلدات، لاسيما في الريف والأطراف ومجابهتها بالعنف واختلاط الكثير من الأوراق، واضطراب العديد من المواقف الدولية والإقليمية والعربية، وليس بعيداً عنها مواقف بعض المثقفين العروبيين واليساريين، التي وصل بعضها الى درجة الارتباك والحيرة، ناهيكم عن انحيازات مسبقة.

لعل بعض المثقفين ولاسيما باستمرار تأثير المخدّر الآيديولوجي لفترة الحرب الباردة ظل مأخوذاً بأن كل ما حصل ويحصل إنما هو مؤامرة امبريالية وصهيونية ستؤدي الى فتنة لا تحمد عقباها وغير معروفة نتائجها وقد تؤثر على فعل الممانعة والمقاومة ضد “إسرائيل” والصهيونية وهما مطلوبان بالطبع، بل ضروريان لكنهما لا يتعارضان مع الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد. أما بعضهم الأخر فقد إندفع في التيار النيوليبرالي، بعد أن غيّر رحيله، فأصبح عدوّه الأول والأخير هو نظام الحكم، لا يهمه إنْ كان تغييره يتم بيد الشعب أو بالدعم الخارجي أو حتى بالاحتلال العسكري. وإذا كانت حماية المدنيين الأبرياء العزّل، تتطلب تدخل المجتمع الدولي، لاسيما لاعتبارات إنسانية، فإن هذا التدخل استثمرته القوى المتسيّدة والمتنفّذة في العلاقات الدولية، وغالباً ما حوّلته إلى عقوبات دولية وعمليات حصار طالت الشعب، خصوصاً إذا استمرت لفترة طويلة، وأحياناً ألحقته بضربات عسكرية واحتلال بالوسائل الخشنة أو بالوسائل الناعمة.

لا ينبغي إذاً بحجة التغيير الديمقراطي والمطالبة بالحريات ومحاربة الفساد واستعادة الكرامة الانسانية إستدعاء التدخل العسكري الخارجي ومقايضته على الاطاحة بالنظام بأي ثمن، كما لا يمكن بزعم رفض التدخل الخارجي، المساومة على هدر حقوق الانسان وممارسة أساليب استبدادية وعنفية منفلتة من عقالها، لاسيما في مواجهة حركة الاحتجاج، عندها سيصبح الصمت ناهيكم عن التبرير تواطؤاً .

لعل المعادلة صعبة وقاسية، لكن تجربة العراق ينبغي أن تكون ماثلة دائماً، وإن كان نظام الحكم السابق يتحمل المسؤولية فيما وصلت إليه الأوضاع التي أعطت مبرراً للاحتلال الخارجي لكي ينفذ حلقة متقدمة من مشروعه الامبراطوري التدميري، دون أن تتحقق عملية التغيير الديمقراطي المنشودة.

-2-

نحن أمام حالة تمركز السلطة حول الحاكم والتي تحوّلت تدريجياً الى نظام غنائم تحتاج الى زبائن من الأشياع والأتباع، وتداخلت الى حدود كبيرة السلطة بالمال، واستحوذت الدولة على التجارة الخارجية والداخلية والاستيراد والتصدير والاعلام والثقافة والسياحة والرياضة، بحيث انغلقت جميع الآفاق وأصبح كل شيء بيد الحاكم، بما فيها لقمة العيش: الراتب والسلع والبضائع والمواد الاستهلاكية المدعومة وغيرها. هكذا أكلت الدولة المجتمع، وابتعلته، وحصل انزياح وابتعاد طبقات وفئات اجتماعية واسعة، بما فيها الطبقة الوسطى، الوعاء والحامل الاجتماعي للتغيير، بسبب سياسات الهيمنة والتفرّد واحتكار العمل السياسي والنقابي، والأكثر من ذلك أن نزعات الترييف والتديين والتطييف والتعشير (من العشيرة) والجهوية والمناطقية سيطرت على الدولة التي أضحت ممثلة عن أقلوية شديدة ومعزولة، لكنها متحكمة بكل شيء.

بعد اندلاع حركات الاحتجاج في سوريا في 15 آذار (مارس) 2011 واستمرارها وتواصلها، ظهرت أمامنا سيناريوهات متعددة، ولعل السيناريو الأول هو أن تستطيع الحكومة اجهاض حركة التمرّد والقضاء على الاحتجاج ووأد الإنتفاضة الشعبية، ولعل الحل الأمني هو ما راهنت عليه الحكومة طيلة الأشهر الستّة الماضية. أما السيناريو الثاني فيقوم على تمكن المعارضة بعد مجابهات متنوعة ومتعددة من إحداث شرخ في النظام قد يؤدي الى انشقاقه، وقد تنحاز منه أوساط الى جانب المعارضة، وعندها يحصل اختلال في ميزان القوى لصالحها، وقد يؤدي هذا الى سيناريو ثالث يقوم على عدم تمكّن المعارضة من تحقيق النجاح بالاستيلاء على السلطة، باندلاع حرب أهلية أو مجابهات عسكرية بين السلطة ومعارضتها.

وإذا ما عرفنا أن مسلسل العقوبات الدولية قد بدأ، وقد يتطوّر بما قد يفرض نوعاً من “الحظر الجوي” No fly zone بمنع الطيران من الوصول الى بعض المناطق، فسيكون تأثيره كبيراً وقد يستدعي هذا التطور تداخلاً دولياً، قد لا تكون واشنطن وتل أبيب بعيدتان عنه، وربما يحتاج الى وقت قد يطول قليلاً لغرض القضم التدريجي.

أما السيناريو الرابع فهو التدخل الدولي المحدود بغطاء قانوني: فرض ملاذ آمن Save Haven، وتقديم مساعدة للمسلّحين سياسياً وعسكرياً، خصوصاً إذا استمرت عمليات العنف وقمع حركة الاحتجاج، لكن هذا السيناريو قد لا يكون بعيداً عن توجيه ضربات عسكرية متفرقة ومحدودة، وقد يكون وجود قواعد عسكرية لحلف الناتو في تركيا أمراً غير مستبعد بإناطة هذا الدور إليها لتساهم فيه بفاعلية، لاسيما بوجود قاعدة انجرليك القريبة وغيرها.

السيناريو الخامس هو الانتقال السلس الى الديمقراطية، عبر اتفاق شامل وبرنامج متكامل على خطوات وآليات التغيير، وقد يجنّب مثل هذا السيناريو، البلاد الكثير من التبعات غير المحمودة العقبى، وخصوصاً الاحتراب الأهلي والتدمير المنهجي للمؤسسات الحيوية والمرافق الاقتصادية والهياكل الارتكازية وغيرها، ناهيكم عن أنه يقطع الطريق أمام التدخل الخارجي، لاسيما العسكري.

لعل هذا السيناريو يتطلب حواراً موسعاً له هدف واحد محدد هو الانتقال الديمقراطي، وحصل هذا الأمر في تشيلي وفي الدول الاشتراكية السابقة، لاسيما بولونيا وهنغاريا، ويأخذ هذا الخيار بالتواصلية القانونية والاستمرارية وعدم القطيعة، ويتم ذلك باتفاق سياسي بين السلطة والمعارضة، لاسيما أطرافهما الأساسية، التي يمكن أن تشعر بأن هذا التطور السلمي السلس سيكون في مصلحتها وباتفاق ومنافسة وشرعية جديدة بعد تآكل الشرعية القديمة.

ويفترض أن توضع خريطة طريق واضحة لتحقيق هذا الانتقال، كأن يكون أمدها ستة أشهر أو سنة، لاسيما بعد وقف قمع المتظاهرين وتشكيل حكومة انتقالية محايدة أو مشتركة أي ائتلافية مهمتها إعداد دستور جديد، خصوصاً بإبطال بعض المواد الخاصة بالدستور القديم مثل المادة الثامنة التي تنص على أن حزب البعث يقود الدولة والمجتمع، وإطلاق حرية التعبير والإعلام وحق تأسيس الأحزاب والمنظمات المدنية وحق الإضراب والتظاهر والتجمع السلمي من خلال صياغة عقد اجتماعي جديد يمكن أن يرسي القيم العليا التي يستمد منها الدستور مبادئه وقواعده.

إن تلك المبادئ والقواعد تقوم على إعلاء قيمة المواطنة واحترام مبادئ المساواة وتأكيد تداولية السلطة سلمياً وإرساء حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات، وتأكيد احترام حقوق الانسان وخاصة حرية التعبير وحق الاعتقاد والحق في التنظيم الحزبي والنقابي والحق في المشاركة دون تمييز بين الرجال والنساء، وعلى أسس الدولة المدنية يختار المواطنون الاحرار ممثليهم على نحو دوري وسيتبدلونهم كل بضعة سنوات دون إكراه أو احتكار للعمل السياسي أو أفضليات أو إقصاء أو عزل أو تهميش، مع الأخذ بنظر الاعتبار التنوّع الثقافي الديني والإثني والحقوق التي تترتب على ذلك.

-3-

أدرك أن اللحظة الثورية ابتدأت ولا يمكن اليوم إطفاء جذوتها مهما كان السيناريو الذي سينجح وإن كنتُ ميّالاً الى سيناريو الانتقال السلس الى الديمقراطية، حفاظاً على وحدة البلاد ومنعاً للتدخل الخارجي، لاسيما العسكري، وحقناً للدماء الغزيرة التي ستسيل وحرصاً على التطور السلمي ودرءًا للفتنة، خصوصاً وأن سوريا ما قبل يوم 15 آذار (مارس) ستكون شيئاً آخر لا يشبه ما بعده، فإذا نجحت السلطة في استعادة زمام الأمور، فلا يمكن الإبقاء على هيكلية ونظام الحزب الواحد، وإذا انتصر الحراك الشعبي، فإن مهمات وتحدّيات جديدة ستواجهه، لكنه لن يكون بالإمكان حكم سوريا من حزب واحد أو قائد وبأساليب استبدادية، أما إذا استحكم التدخل الخارجي، لاسيما العسكري، بالاحتلال الخشن أو الناعم، فإن الأمور ستأخذ مساراً مختلفاً وشكلاً دراماتيكياً جديداً، قد تصبح فيه معارضة اليوم، جزءًا من معارضة الغد ضد الاحتلال، ولعل سيناريو الحرب الأهلية سيكون هو الآخر فضاءً مفتوحاً باتجاه المجهول، بما فيه التفتيت والتشظي والانقسام.

ويبقى طريق الانتقال السلس هو الحل الأكثر ضماناً لعدم انزلاق البلاد نحو الهاوية أو الذهاب الى عالم المجهول. والتجربة السورية لا تكون استنساخاً أو تقليداً لتجارب أخرى، على الرغم من أنه يمكن الاستفادة منها، لكنها ستكون لها خصوصيتها، وهي جزء من مسار كوني وقانون اجتماعي لا يمكن وقفه، مثلما حصل في أوروبا الغربية في السبعينيات بعد القضاء على دكتاتورية سالازار في البرتغال ووفاة فرانكو في إسبانيا والتوجه نحو الديمقراطية في اليونان بعد حكم العقداء والانقلابات المتكررة، كما توجهت أوروبا الشرقية، لاسيما بولونيا وهنغاريا بشكل خاص نحو الاستمرارية القانونية وعدم القطيعة وعدم المساءلة بأثر رجعي.

وهكذا كانت تجارب العالم العربي من تونس الى مصر، ومن ليبيا الى اليمن والجزائر والبحرين وعُمان والاردن وغيرها، وإنْ اتّخذت مسارات مختلفة لكنها من حيث الجوهر كان لها سمات ومشتركات أهمها السلمية والمدنية والمطالبة بالحريات والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد ولعب الشباب دوراً متميزاً في بلورة توجهاتها خصوصاً بالاستفادة من تكنولوجيا الاعلام والاتصالات وإن سار كل في طريقه الخاص.

-4-

التسوية التأريخية هي طور انتقالي يتم التوافق عليه بين السلطة والمعارضة، للتحوّل الديمقراطي وفق أسس وقواعد وآليات لتسيير وتيسير عملية الانتقال، وأعتقد أن البيئة الدولية صالحة لمثل هذا التغيير، كما أن الوضع الداخلي لم يعد بإمكانه قبول أية حلول دون التغيير المنشود، باتجاه الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.

وبلا أدنى شك أو وهم فإن هذا التغيير سيفتح الباب على مصراعيه لاندفاع الهويات الفرعية، الأمر الذي يحتاج الى حلول مبدئية وجذرية للمسالة القومية في سوريا، وخصوصاً الكردية، بما يتناسب مع الاعتراف بها وتأمين حقوقها السياسية والثقافية والادارية، وهو الشكل الذي يمكن الاتفاق عليه عبر الحوار والتواصل والتفاعل ودستور يقرّ حقوق المواطنة والمساواة كاملة ودون نقصان، وكذلك لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار المسألة الدينية وخصوصاً أوضاع المسيحيين الذين يتم استهدافهم في العديد من بلدان المشرق، وقد جرت محاولات لإثارة بعض الفتن بما فيها في سوريا. ولا بدّ من البحث في المسألة الطائفية لمنع حدوث ارتكابات وأعمال عنف وانتقام وثأر وأخذ البريء بجريرة المذنب.

وهنا تدخل مسألة العدالة الانتقالية وكشف الحقيقة وتعويض الضحايا، لاسيما ضحايا الأحداث الأخيرة، وجبر الضرر، والأهم من كل ذلك السعي لإصلاح النظام القانوني الدستوري والمؤسسي وأنظمة القضاء والشرطة وأجهزة التحقيق وغيرها.

وكلمة أخيرة؛ إن التعايش السلمي والنسيج المجتمعي بين الفئات والمكوّنات المختلفة ينبغي أن يكون أحد القواعد الأساسية للانتقال السلس نحو الديمقراطية، بحيث لا يترك للنزعات الثأرية والكيدية أن تأخذ طريقها، كما أن استخدام القانون بأثر رجعي، لاسيما القوانين الجديدة التي سيتم وضعها، لا ينبغي أن يكون قاعدة للنظام الجديد الديمقراطي التوافقي، وأظن أن العقد الاجتماعي الجديد الذي يمكن الاتفاق عليه هو الذي يضمن مثل هذا التوجّه وهو الحامي للدستور الذي تضعه جمعية وطنية تأسيسية ويتم على أساسه التحضير لانتخابات حرة ونزيهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى