صفحات العالم

«رَقَّ الحديدُ وما رَقُّوا لبلوانا»


غسان الإمام

التاريخ ذاكرة الشعوب. السياسة تبقي التاريخ حيا. متوقدا، في إلهام مسيرة المجتمعات. ما من مجتمع عربي فقد ذاكرته كما فقدها السوريون. كان السوريون مجتمعا سياسيا، بحكم الموقع الجغرافي المفتوح، والنضال الطويل ضد الاستعمارين العثماني والأوروبي.

فَهْمُ السوريين العميق للسياسة قام على الالتزام بالعروبة، ليس كآيديولوجيا، وإنما كهوية تسمو فوق انتماءاتهم الضيقة. وقام منذ النهضة العربية، في أواخر القرن التاسع عشر على الالتزام بالديمقراطية. حذر الطبيب الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي قاد ثورة الغابة (الغوطة) المحيطة بدمشق عامين متواليين (1925/ 1927)، زعماء ثورة رشيد عالي الكيلاني العراقية (1940) من استلهام الفاشية النازية المعادية للديمقراطية.

انتصر السوريون بالسياسة. واكتَوَوْا بها. أبقوا مشعل العروبة متوقدا في المجتمعات العربية، إلى أن دفنهم المشروع السلطوي العلوي (1963). وحيَّدهم سياسيا على مدى خمسين سنة. مع فقدهم السياسة، فقدوا تاريخهم الحديث. فقدوا ذاكرتهم السياسية. مع إلغاء النظام العلوي للسياسة. وللتاريخ، تم تزييف ومسخ الديمقراطية كآلة لإرساء الحرية. وكأداة وحيدة لتعامل التعددية السورية الدينية والعرقية، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات.

لجأ المشروع السياسي العلوي، منذ بواكير الخمسينات، إلى أداتين لتحقيق الذات: الجيش والطائفة. اعتمد المشروع، أولا، «الحزب السوري القومي الاجتماعي» كمركبة للوصول إلى السلطة. رفضُ السوريين لحزب فاشي ينفي عروبة سوريا، اضطر الضباط العلويين إلى امتطاء حزب البعث (القومي العربي) كمركبة لتحقيق المشروع الطائفي.

في غياب الحرية، زيف النظام النضالية العربية. جمّد الكفاح من أجل استعادة الجولان، تحت شعارات الصمود. والتصدي. والمقاومة. والممانعة، لتضليل العرب ومخادعتهم، فيما تم عمليا إلحاق المشروع العلوي، بالمشروع الشيعي الفارسي لاختراق المشرق والخليج العربيين.

ماذا تعني الثورة السورية الراهنة؟ ببساطة، هذه الثورة استعادة للسياسة. هي محاولة لاستعادة الذاكرة التاريخية. لكن يجب أن تكون ثورة أيضا من أجل الديمقراطية. ثورة ضد الطائفية. ثورة من أجل حماية الأقليات، بما فيها الأقلية العلوية. لا ثورة من أجل التهجير الحاصل للمسيحيين. أو للانتقام من المدنيين العلويين.

لماذا وقع نظام الأسد الأب والابن أسير طائفية مذهبية شرسة مستعدة لقتل شعبها؟ جانب من الجواب يكمن في التاريخ الذي ألغي من الذاكرة. باختصار، أقدم هنا مثالا واحدا لتعريف الأجيال العربية والسورية الجديدة بالجذور العميقة للمشروع السلطوي العلوي.

عندما ذهب قادة النضال الوطني (زعماء الكتلة الوطنية) إلى باريس (1936) لمفاوضة حكومة ليون بلوم اليسارية على الاستقلال، فوجئوا بحركة سياسية انفصالية في جبال العلويين المطلة على البحر. انهمرت رسائل الانفصاليين بغزارة على بلوم، مطالبة بالانفصال عن سوريا، ومتمسكة بالدولة العلوية التي بقيت إلى نهاية الثلاثينات، فيما سقط في مهد العشرينات مشروع تقسيم سوريا إلى دويلات الذي استلهم الفكر الاستشراقي الأوروبي، في رؤيته لسوريا، مجرد طوائف ومذاهب دينية وعرقية.

هذه الرسائل العلوية وثقها مؤرخون وباحثون عرب، في استحياء وخوف شديدين من النظام العلوي، معتمدين وثائق وزارة الخارجية الفرنسية. من هذه الرسائل، أنقل بما تسمح الرقعة الورقية الضيقة في هذه الصفحة بعض التعابير والإشارات الموحية.

في أول رسالة علوية، يقول زعماء ووجهاء علويون: «نلفت نظركم إلى ما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع، في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا». ثم يضيفون في عدائية استفزازية للغالبية السنية، منددين باستغلال سوريا. فهو عندهم «يعني سيطرة بعض العائلات السنية على الشعب العلوي».

وتبلغ المأساة الذروة بمقارنة وضع العلويين بوضع اليهود: «أولئك اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام… ولم يوقعوا الأذى بأحد، ولم يأخذوا شيئا بالقوة. ومع ذلك أعلن المسلمون ضدهم الحرب المقدسة»!

ظهرت تحت الرسالة المثيرة ستة تواقيع. بينها توقيع سليمان الأسد والد حافظ الأسد الذي يقال إن توقيعه دُسَّ على الرسالة. والدليل أنه لم يكن من زعماء الطائفة. وكان معروفا بالانتماء إلى أسرة (الوحش)، قبل أن يلقب لاحقا بـ«الأسد». وبين الموقعين الشاعر العلوي الكبير محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل).

الأمانة مع التاريخ ومصداقية الصحافة، تفرضان علي أن أقول إن العلويين آنذاك كانوا منقسمين حول الانفصال عن سوريا أو الانضمام إليها. في رسالة وحدوية مضادة للرسائل الانفصالية، وجه زعماء علويون آخرون، بينهم الشيخ صالح العلي، رسالة إلى بلوم، يرفضون فيها فكرة ضمهم إلى لبنان: «…الحقائق التاريخية واللغوية التي جميعها تؤكد أن إقليمنا لم يكن منفصلا عن سوريا… إن الوفد السوري الموجود حاليا في باريس يمثل رأي وآمال الأغلبية العظمى من سكان سوريا».

لا تعليق لي على هذه الرسائل المختلفة. إنما أشرت إليها لتعويد الجيل السياسي السوري الجديد على البحث عن التاريخ، لاستعادة الذاكرة التاريخية، والاعتبار بأحداثها. فلا حاضر، ولا مستقبل، بلا وصل مع الماضي القريب.

أيضا تذكرا للتاريخ وللأمانة الصحافية، أقول إن أكثر العلويين استغفارا ورجوعا عن الخطأ كان الشاعر بدوي الجبل. غفر السوريون لشاعرهم الأكبر. قدموه. وَزَّروه. وهو في أناقته الشخصية والشعرية، واكب انتصاراتهم. أفراحهم. ومآسيهم. خلد بدوي الجبل دمشق وهي تحت نيران مدافع الاحتلال الأجنبي:

يا سامرَ الحيِّ هل تَعنيك شكوانا؟

رقَّ الحديدُ وما رقّوا لبلوانا!

السامرُ الحُلْوُ قد مَرَّ الزمانُ به

فمزق الشملَ سُمَّارا ونُدْمانا

أزكى من الطيب رَيْحَاناً وغاليةً

ما سال من دم قتلانا وجرحانا

ما أشبه الليلة بالبارحة. هذه حلب ودمشق تُقصفان من البر. والجو، بمدافع وصواريخ جيش كان السوريون يظنون أنهم سلحوه لحمايتهم واستعادة أرضهم المحتلة.

دنيا السياسة يوم لك. ويوم عليك. كان بدوي الجبل فخورا. فرحا، باستعادة مصداقيته الوطنية. عندما غدا المشروع العلوي كابوسا جاثما على صدور السوريين، لم يصمت الشاعر العلوي الكبير. هاجمه. نقده. فكان الانتقام رهيبا. دفع صلاح جديد بشاحنة إلى رصيف البدوي. فتركته أشلاء محطمة. خاف حافظ الأسد الفضيحة. سحب البدوي من تحت العجلات إلى المستشفى. عاش البدوي بأعجوبة. لم يبق منه حيا سوى شعره. يرثي حاله. ثم لا يوفر الأسد نفسه من النقد:

يحتويني الهجير حينا، ولا يَرْحَمُ

أسمالَ فقريَ الزمهريرُ

وعلى الجوع والضنى والرزايا

في دروبي أسيرُ ثم أسيرُ

الموت أحيانا يأتي رحمة للمعذَّبين. مات بدوي الجبل غما 1981، وهو يرى حافظ الأسد يسوق زعماء النقابات المستقلة إلى المعتقلات والسجون:

لم أهادن ظلماً وتدري الليالي

في غدٍ أيُّنا هو المدحورُ

الشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى