صفحات الحوار

سوزان نايمن: لا يمكننا مواجهة العنصرية إلا بالكونية

 

 

برلين – رشيد بوطيب

في لقائها مع “العربي الجديد” تتحدث المفكرة الأميركية ـ الألمانية ومديرة “منتدى أينشتاين” في ألمانيا، حول كتابها الجديد “صمود العقل”، والذي تقدم من خلاله نقداً قاسياً للتيار الشعبوي، وتسلّط الضوء على العلاقة بين النيوليبرالية والشعبوية ودور الكذب في السياسة، في محاولة لاستعادة قيم التنوير كما تفهمها اليوم.

■ ألكسندر كويري، حنة آرندت ومن بعدهما جاك دريدا، تعرّضوا بالتحليل والنقد للكذبة السياسية. لكن، وإذا كانت التوتاليتارية لا تستطيع الاستمرار دون الكذب كما أوضح ذلك كوريي، فهل يمكننا قول الأمر نفسه عن الديمقراطية؟ كما تحدثت في كتابك “صمود العقل” عن الكذب الذي ينتجه دونالد ترامب؟

– إنكم تعتقدون أن ترامب انتخب ديمقراطياً. في الواقع، لقد خسر ترامب الانتخابات بما يقرب من ثلاثة ملايين صوت. وأن يتم إعلانه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، أمر يتعلق بخصائص النظام الأميركي الموروث عن عصر العبودية. لكن فيما يتعلق بسؤالكم، لا أعتقد أن ديمقراطية حقيقية تحتاج إلى الكذب، لأنه، إلى ديمقراطية حقيقية، ينتمي تعليم كوني وإعلام يدعم هذا التعليم ويتوافق معه.

■ تتساءلين في كتابك “كيف أمكن أن يتم انتخاب هذا الرجل؟” وتعنين بذلك دونالد ترامب. وفي الجواب على هذا السؤال تنتقدين دور الإعلام. ألا ننسى، خلال ذلك، أن الولايات المتحدة الأميركية دولة ديمقراطية لكن بدون ثقافة ديمقراطية متجذرة في المجتمع كما هو الحال في ألمانيا مثلاً؟

– سؤالك يجعلني أتوقف قليلاً عند هذا الرأي، لأنه في الغالب الأعم يتم الزعم بأن ألمانيا من لا تملك ثقافة ديمقراطية راسخة، بعكس الولايات المتحدة. (كثير من الألمان يعتقدون أن الديمقراطية أحضرتها الولايات المتحدة إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية)، لكنني أعتقد أن الموقفين معاً يعتورهما النقص. لقد كانت الولايات المتحدة الأميركية تتوفر على ثقافة ديمقراطية، ولكنها بدأت تتآكل بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب الحرب الباردة وما يسمى بـ Military- Industrial Complex إلخ.. وإذا ما ألقينا نظرة على النقاشات السياسية، بل حتى على الأغاني التي عرفتها سنوات الثلاثينيات والأربعينيات، سنقف على نقاشات ذكيّة ومتنوعة، لم تعد موجودة اليوم. لكن وعلى الرغم من هذا التآكل، فإننا نشهد في الولايات المتحدة التزاماً مدنياً، ليس له مثيل في ألمانيا، وهو ما رأيناه في حركة الحقوق المدنية. وهذا الالتزام يتنامى أكثر من جديد، كنتيجة لانتخاب دونالد ترامب.

■ تستشهدين بـأمبرتو إيكو، الذي وصف الفاشية الأصلية باعتبارها لاعقلانية. هل تعتقدين أننا بصدد انهيار قيم التنوير والعقل؟ هل يمكن للعقل الصمود أكثر؟ إذا كان الجواب نعم، فكيف يمكنه ذلك؟

– تحوّل التنوير والعقل إلى موضوع للشتم، وللأسف عند أناس تقدميين. وبدون أي شرعنة تاريخية يتم تحميل التنوير مسؤولية الاستعمار والمركزية الأوروبية. ولكن في الواقع، فإن التنوير كان أول من انتقد المركزية الأوروبية. فالعديد من رواد التنوير ظلوا يؤكدون ضرورة أن يتعلم الأوروبيون من الثقافات الأخرى، وهو ما عرّضهم في الكثير من الأحيان للخطر. إن التنوير الذي يؤكد أن الناس جميعاً يمتلكون العقل نفسه، وعبر ذلك الحقوق نفسها، يقدم الأساس لعدالة كونية. إنه أمر يتوجب علينا الاعتراف به، وإلا سنَنْحط إلى تفكير قبَلي. ولكن، بالطبع، فإنه بإمكان العقل أن يصمد أكثر، وهو ما يقوم به دائماً حين يبدأ المفكرون بالتفكير والعمل.

إن مبدأ السببية هو نواة العقل، ليس كإثبات ولكن كدعوة لكي نجد لكل ما يحدث سبباً، لماذا هو هكذا وليس كذلك. فهناك الكثير مما يستحق أن يكون سبباً، ولكن الكثير أيضاً مما ليس كذلك، من مثل: “هكذا هو العالم” أو “قيل لي ذلك”. إن القدرة على بحث أسباب ما هو معطى، هو أساس كل البحث العلمي وأساس العدالة الاجتماعية أيضاً. وكل طفل يتبع مبدأ السببية حين يسأل لماذا تمطر السماء؟ ولا يتوقف عن السؤال حتى يقدم له الكبار سبباً لذلك، أو أن يأمروا الطفل بالتوقف عن طرح الكثير من الأسئلة. لكن كل طفل سيشعر بالفضول حين يرى متشرداً لأول مرة أو طفلاً سورياً في التلفزيون. لماذا لا يملك هذا الرجل بيتاً؟ لماذا لا يملك الطفل بيتاً؟ ومن يحاول بجدية تقديم جواب للطفل، ينتقل لا ريب من التفسير إلى العمل.

أما السؤال عن كيف يمكن للعقل الصمود، فهو أمر تصعب الإجابة عنه. إنه يمثل سؤالَ حياتي. إن كتابي “الوضوح الأخلاقي” يتعرض بالضبط لهذه القضية، وحتى في كتابي: “لماذا علينا أن نصبح راشدين؟”، يوجد فصل كامل عن “ما هو التنوير”.

■ تنتقدين المادية بشكل قاس، وتطالبين بالعودة إلى كانط. لماذا كانط بالضبط؟

– هناك أشياء كثيرة تدعونا للنظر إلى عمل كانط كمصدر لسياسة تقدمية. فهو يقدم لنا تصوراً أولياً عن القانون الدولي وعن الاشتراكية الديمقراطية أيضاً. لكن لا فكرة من هذه الأفكار تملك القوة التي تملكها فكرته عن القيم المثلى. لأنه بدون هذه المثاليات، لا يمكن لدعوات التغيير أن تكون أكثر من فانتازيا طوباوية. لكن كل دعوة إلى التغيير يواجهها استخفاف الذهنية المحافظة، والذي تعبر عنه الجملة القائلة: نظرياً، تبدو بعض المثاليات غاية في الجمال، لكن وقائع التجربة القاسية، تظهر أنها غير قابلة للتحقق.

سنة 1793، سينشر كانط مقالاً، ينتقد فيه هذه الكليشيه، يحمل عنوان: “حول القول المأثور: قد يكون صحيحاً في النظرية، لكنه لن ينجح في الممارسة”. وفي هذا المقال يقلب كانط مزاعم من يسمي نفسه واقعياً، رأساً على عقب. طبعاً، إن أفكار العقل تتناقض مع مزاعم التجربة. لكن هذا هو الدور المنوط بالأفكار. إن القيم المثالية لا تقاس بدرجة مطابقتها للواقع، بل العكس هو الصحيح. ومهمّة العقل تكمن في التأكد من أنه لن تكون للتجربة الكلمة الأخيرة. ويتوجب على العقل أن يحفّزنا لتوسيع أفق تجربتنا، عبر مدّنا بالأفكار، التي يتوجب على التجربة أن تخضع لها. وإذا ما قام كثير منّا بذلك، فإن الواقع سيكون كذلك أيضاً.

■ في كتابك “لماذا علينا أن نصبح راشدين” تكتبين: “إن القوى التي تحكم عالمنا، لا تريد أن تضطر للتعامل مع راشدين كما كان الحال عليه في زمن كانط أيضاً، لأن الأطفال هم رعايا مطيعون ومستهلكون فقط”. لماذا تقف الديمقراطية الغربية ضد أن تبلغ بلدان أخرى سن الرشد، كما هو الحال مثلاً مع العالم العربي؟ ألا يؤكد ذلك عنصرية متجذرة في الديمقراطية الغربية؟

– للأسف، إنكم على صواب. إن العنصرية متجذّرة في الغرب. وإنه لعزاء ضعيف أن العديد من الديمقراطيات الغربية تعمل اليوم، خصوصاً في الولايات المتحدة، على تحويل البشر، وحتى البيض منهم، إلى أطفال. لكن، مع ذلك، فقد بدأ العديد من الناس في تلك البلدان بالاحتجاج على العنصرية، وهو ما يدفعنا للتسلح بالأمل. وفي الغرب كما في أماكن أخرى من العالم، لا يمكننا مواجهة العنصرية إلا بالكونية، وأعني التنوير.

■ من خلال كتبك نتعرّف على أن أينشتاين كان اشتراكياً. ماذا كانت ستكون ردة فعله، لو كان معنا اليوم؟

– لا ريب في أنه كان سيجهش بالبكاء في البداية. من خلال صور حياته، نلاحظ أنه كان يزداد حزناً مع الوقت، وكان لذلك علاقة كبيرة بالحرب الباردة، وباضطهاد الشيوعيين والخطر النووي. لكنه لم يتوقف يوماً عن النشاط السياسي، وتشجيع أناس آخرين على القيام بذلك. إنني متأكدة من أن التزامه بالاشتراكية، وهو كان دائماً اشتراكياً ولم يكن يوماً شيوعياً، متأكدة أن ذلك الالتزام، كان سيصبح أكثر قوة، وذلك بالنظر إلى التطورات الناجمة عن النيوليبرالية، دون أن ننسى الكوارث البيئية.

العربي الجديد

صمود العقل”.. حين سرقت النيوليبرالية التاريخ/ رشيد بوطيب

يذكرنا الفصل الأول من كتاب سوزان نايمن، “صمود العقل”، الصادر مؤخراً عن دار إيكوين، ببعض ما كتبته الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في كتابها “الحقيقة والكذب في السياسة”، والذي تتعرّض فيه لدور الكذب في نظام ديمقراطي مثل النظام الأميركي، وخصوصاً ما يتعلق بكل تلك الأكاذيب التي روّجتها الإدارات الأميركية خلال حرب فيتنام، مؤكدة أن الحقيقة لا تحظى بمكانة جيدة في السياسة، وهي تقول: “يبدو أن الكذب ليس فقط من أدوات الديماغوجي، بل السياسي أيضاً ورجل الدولة”.

من يقرأ كتاب سوزان نايمن (1955)، لن يستطيع سوى أن يقف على أوجه التشابه الكبيرة بين الأمس والبارحة، بين من خاضوا حرب فيتنام ومن خاضوا حرب العراق، ومن يهددون اليوم بخوض حروب جديدة. فلن تعدمهم كذبة جديدة. تذكرنا نايمن ببعض الأكاذيب التي رافقت الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، ومنها تلك التي عبر عنها بنفسه، باعتباره زعيماً لحركة Birther حول باراك أوباما ومن أنه لم يولد في الولايات المتحدة الأميركية.

وتذكرنا المفكرة الأميركية ـ الألمانية أيضاً بالدمار الذي خلفته تلك الأكاذيب التي راجت حول صدام حسين وامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، والتي تم ترويجها في الصحافة الأميركية من دون التأكد من صحتها. متسائلة: هل كان يمكن لداعش أن يظهر إلى الوجود لولا الغزو الأميركي للعراق؟

ترى نايمن أن ترامب وفريقه الانتخابي اعتمدوا عن عمد سياسة نشر الأكاذيب، وأن الأمر يتعلق باستراتيجية هدفت إلى خلق حالة من الجنون لدى الخصم. طبعاً، تقول نايمن، عمد السياسيون في الماضي دائماً إلى تأويل الوقائع بشكل مختلف، من أجل دعم موقفهم، لكن الأمر مع ترامب لا يتعلّق بممارسة تأويلية. إن الوضع يذكرنا برواية جورج أورويل 1984، كما تقول، مشيرة إلى أن أتباع ترامب ظلوا ينظرون إليه كرجل يقول الحقيقة كما هي، متهمين منافسته هيلاري كلينتون بأنها تفتقد إلى الأصالة.

وفي هذا السياق تذكرنا نايمن بكتاب أدورنو “رطانة الأصالة”، والذي اعتبر أن الأصالة لا علاقة لها لا بالوقائع ولا بالحقيقة، فالأمر يتعلق هنا دائماً بأسلوب، يريد أن يخلق المصداقية، حتى وإن كانت الوقائع مختلقة. وترى نايمن من جهة أخرى أنه من الخطأ الاعتقاد أن الفقراء ومن يتموقعون في أسفل السلم الانتخابي من صوتوا لترامب، بل إن أغلبية الفقراء صوتت لصالح كلينتون، كما أنها تشير إلى أن نصف من صوت لترامب يتجاوز دخلهم السنوي مائة ألف دولار، وأن 49 في المائة ممن صوتوا له يملكون ديبلوماً جامعياً، كما تعتقد أن أنصار حزب البديل في ألمانيا ليسوا أيضاً بالضرورة من المهمشين ومن ضحايا العولمة.

تعود سوزان نايمن في “صمود العقل”، لتضرب مثلاً من التاريخ الحديث، يتمثل في صعود الحزب النازي إلى سدة الحكم في ألمانيا. فهناك من يعتقد بأن النازية شكّلت انتقام الدهماء من نخبة فايمار، لكن العارفين بالتاريخ يدركون أن العديد من الأكاديميين الألمان انضموا إلى الحزب النازي، وبعضهم فعل ذلك لأنه اعتقد أن ألمانيا النازية ستكون حصناً منيعاً أمام البلشفية الروسية من جهة والنفعية الأنغلوساكسونية من جهة ثانية، ولربما يذكرنا “خطاب الجامعة” لهايدغر بهذا الأمر أكثر من غيره، وهو يعيد كتابة “كفاحي” برطانته الفلسفية، كما أوضح جاك دريدا في “سياسات الصداقة”.

تشير نايمن – في معرض حديثها عن ترامب وسياسته – إلى بحث مهم أصدره أمبرتو إيكو في عام 1995، يتعرّض فيه للفرق بين اليمين التقليدي والفاشية الأصلية. معتبراً أن هذه الفاشية تتأسس على تناقضات كثيرة، وأنها ترفض كل شكل من أشكال التحديث، بل وتعتبر التنوير وسلطة العقل أصل البلاء، ولهذا هي في رأيه أيضاً لاعقلانية. فبالنسبة للفاشية الأصلية، كما سبق أن لاحظ ذلك أدورنو أيضاً، فإن الفكر تعدمه الرجولة والثقافة مشبوهة، والآراء الأخرى يتم وسمها بالخيانة. إن الفاشية الأصلية هي في نظر إيكو عنصرية، قومية وموجهة إلى الأعداء الخارجيين. إنها تفهم الحياة نفسها كحرب مستمرة.

لا تتوقف نايمن عند هذا الحد، بل يعتبر كتابها أيضاً هجوماً قاسياً على النيوليبرالية، من عهد ريغن وحتى عهد ترامب، مؤكدة أن ريغن وتاتشر هما من عبّدا الطريق لوصول شخص مثل ترامب إلى البيت البيض، بل وللبريكسيت أيضاً. فقد تبين أن تلك “اليد الخفية” للسوق الحرة، والتي زعموا أنها ستأتي بالثراء للجميع، لم تأت سوى بالفقر، وتسببت في استفحال الفوارق الطبقية.

لكن نايمن ترى أن هناك ما هو أخطر من نسيان جذور النيوليبرالية، وتعني بذلك ما تسميه: “نسيان تاريخ البدائل”، إذ جرى اعتبار النيوليبرالية النهاية الوحيدة الممكنة للتاريخ، وأضحت كلمة مثل الاشتراكية منبوذة حتى في أوساط اليسار. لقد نجحت النيوليبرالية في سرقة التاريخ، وسرقة اللغة أيضاً.

تستشهد نايمن بالفيلسوف الفرنسي برونو لاتور، ونقده الذاتي، حين اعتبر أن اليمين النيوليبرالي استغل مبدأ غياب العلمية، كما دافعت عنه ما بعد الحداثة، ليدعم مواقفه السياسية بخصوص قضايا واضحة، مثل قضية التغيّر المناخي. لاتور، الذي سيتساءل عن حق، إن لم يكن كثير مما درسه، كان خطأ.

وعلاوة على ذلك، ترى الفيلسوفة الأمريكية ـ الألمانية، أن الخطر الآخر المحدق بنا، هو أن الاحتجاج الناجع اليوم ضد السردية النيوليبرالية هو ذاك الذي يمارسه المتطرفون على اختلاف مشاربهم. لكنها لم تنجح في تحليل العلاقة العضوية بين العقل النيوليبرالي ولاعقلانية الاحتجاج، ربما لأنها اختارت في النهاية النموذج الكانطي كمصدر لسياسة تقدمية، ضد هيغل وماركس.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى