صفحات الناسياسين السويحة

سوق القمل/ ياسين السويحة

 

 

تأسست شركة رونسون في الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت عملها كشركة صناعات معدنية متنوعة، ثم انتقلت لصناعة أعمدة الإنارة والثريات والمصابيح، وبالتزامن مع ذلك بدأت بتصنيع القداحات. رونسون هي إحدى أكثر الشركات ابتكاراً في مجال صناعة القداحات، فما يبدو بديهياً اليوم في القداحة البلاستيكية الرخيصة كان خرقاً تكنولوجياً معقداً في بدايات القرن الماضي، كما أن القداحة، بحد ذاتها، كانت اكسسواراً مهماً يُعتني بتفاصيله وشكله ونقوشاته، وليست مجرد أداةٍ للاستخدام اليومي.

أواخر خمسينات القرن الماضي بدأت شركة رونسون بتصنيع طراز «فارافليم» للقداحات. بشكلها المستطيل المميّز وأسلوب التشغيل بالضغط على الضلع العلوي واللون المعدني المميّز، اشتهرت قداحات رونسون- فارافليم على مستوى العالم، ولم تعد تُصنّع في الولايات المتحدة فقط، بل أيضاً في بريطانيا وفرنسا، وحتى في اليابان، رغم أن هذه الأخيرة كانت الأقل رواجاً.

لاقت قداحات رونسون- فارافليم رواجاً في سوريا -أو على الأقل في مدن وأرياف الشمال السوري-. كانت هذه القداحة اكسسواراً مهماً للرجال، بما في ذلك بعض غير المدخنين منهم، الذين يستخدمونها لإشعال سيجارات ضيوفهم أو الأشخاص المهمين الذين يقابلونهم في المناسبات الاجتماعية. وليست الرونسون-فارافليم اكسسواراً رخيصاً، فسعر قدّاحة مستعملة  كان يصل إلى 4000 ليرة أو أكثر (90 دولار تقريباً) في التسعينات، يعلو هذا السعر وينخفض حسب الموديل والنقوشات أو الإضافات الذهبية. ولو بحثنا اليوم في مواقع مثل ebay لوجدنا أن سعر هذا الطراز من القداحات يبدأ من 30-40 دولاراً، ويصل إلى مئات الدولارات.

أدى انتشار هذه القداحات، وغيرها من الماركات والموديلات الثمينة (مثل ديبّون الفرنسيّة)، في العقود المتوسطة من القرن الماضي إلى رواج مهنة «مصلح وبائع قداحات»، وهي مهنة انقرضت منذ سنوات طويلة مع انتشار القداحات التجارية الرخيصة، وانحصار تداول هذا النوع من القداحة-التحفة- الاكسسوار في أيدي كبار السن، وغالباً كنوع من التذكار أكثر مما هي للاستعمال الاعتيادي.

*****

سوق القمل هو أحد أسواق عنتاب الشعبية، ويستمد اسمه من ترجمة حرفيّة لـ (bit pazarı)، وهو الاسم المُعتمد تركياً لأسواق الأدوات المنزلية والكهربائيات والثياب والأثاث المستعمل، أي أنه ليس اسماً خاصاً لهذا السوق بالتحديد. لكن في هذه الحالة اعتمد السوريون الترجمة الحرفية للعبارة التركية اسماً للسوق ولتلك المنطقة ككل، في حين وضعوا لمناطق وأسواق أخرى أسماءً عربيّة خالصة لا علاقة لها بالاسم التركي الرسمي. امتلاك الاسم والتحكّم به هو، إلى حدٍ بعيد، وبغض النظر عن دور إشكالية الحاجز اللغوي في هذه الظاهرة، نوعٌ من تلمّس المكان والتعرّف عليه وإعادة ترتيبه والتأقلم معه.

يقع سوق القمل في محلّة عصمت باشا وسط عنتاب، عاصمة اللجوء السوري في الجنوب التركي. لا يبعد كثيراً عن الوسط التجاري، ويمكن الوصول إليه صعوداً عبر جادة نولو، التي تتفرّع عن جادّة إينونو، إحدى أهم شرايين منطقة تشارشى التجاريّة، لتصبّ في ساحة سوق القمل. جادة نولو متخصصة بشكل شبه كامل لتجارة ونجارة الخشب، ويُلاحظ المارّ فيها وجود عدد كبير من ورش صناعة كراسي القش الصغيرة، وهي صناعة اندثرت أو كادت في أغلب مناطق سوريا بعد رواج الكراسي البلاستيكية.

تتوّج ساحة صغيرة جادّة نولو، وتتوسط حديقة صغيرة مثلّثة الشكل هذه الساحة غير المستوية، فنصفها الأيمن ينخفض باتجاه ما يُشبه النفق تحت هنكار ضخم يقع في صدر الساحة، وداخل هذا الهنكار، كما في الساحة خارجه، تتوزّع محلات بيع الأثاث والأدوات المنزلية، الجديدة منها والمستخدمة.غالبية أصحاب المحلات داخل الهنكار أتراك ، لكن هناك العديد من الفتية السوريين يعملون كبائعين، أو في نقل الأثاث والكهربائيات إلى منازل المشترين، ويُلاحظ المتجوّل داخل الهنكار وجود العديد من الأطفال السوريين الذين يقومون بدور المترجم بين الزبون السوري والبائع التركي. نسبة كبيرة من زبائن هنكار سوق القمل والمحلات المحيطة به سوريوّن، فهو خيار اقتصادي وعملي لتأثيث وتجهيز البيوت التي تؤجّر دون فرش.

بين محلات الأثاث داخل الهنكار، وتلك خارجه، أو محلات الأخشاب والبسطات خارجه، يتجول أبو أحمد حاملاً ترمساً مليئاً بالقهوة المرّة، وكيساً صغيراً فيه أكواب بلاستيكية صغيرة عوضاً عن الفناجين، ومرتدياً سترةً رمادية بلا أكمام ينتفخ أحد جيوبها مليئاً بحبّات الهال.

أبو أحمد رجل خمسيني، قصير القامة ومستدير الوجه. شعره أبيض تماماً، وكذلك لحيته القصيرة، التي تبدو وكأنها وليدة عدم اهتمامٍ بحلقها أكثر مما هي نتيجة رغبة بتربيتها. لا يمكن للناظر إلى أبو أحمد أن يتجنب الانتباه إلى عينيه الصغيرتين، فلونهما الأخضر الفاتح، الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه مخلوطُ بشيء من الرمادي. أكان بسبب لونهما أم لا، يبدو دوماً أن عيني أبو أحمد تخترقان ما تنظران إليه. لكن حتى هذه السمة البارزة عاجزة عن تمويه آثار التعب في وجه أبو أحمد. هناك تعبٌ كثير، ولكن هناك أيضاً ملامح رعب.. رعبٌ جامد، رعبٌ جاف!

يقترب أبو أحمد عارضاً القهوة المُرّة، ويهرع حالما يرى إشارة طلب فنجان. أستغل لحظة انشغال أبو أحمد بملء الكوب البلاستيكي لأسأله عن أصله. أنهى أبو أحمد صبّ القهوة، ثم وضع الترمس على الأرض وجلس بجانبه على حافة الرصيف. أبو أحمد يريد أن يتحدّث، وأنا -بطبيعة الحال- جئت لأسمع.

أبو أحمد من إحدى القرى الصغيرة القريبة من اعزاز، وقد كان يعيش في حيّ الصاخور في حلب، ويعمل في تجارة الخضار والفواكه بالجملة «وكانت الحالة مستورة والحمد لله، في بيت ملك -والملك لله سبحانه وتعالى- وفي سيارة نشتغل عليها». توقف عمل أبو أحمد مع تردّي الأوضاع في حلب، ما دعاه للعودة إلى قريته، حيث حاول الاستمرار في العمل مع حلب نفسها، أو مع مناطق أخرى محيطة باعزاز. دمّرت غارة جوّية بيت أبو أحمد في القرية في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وأحالت سيارته حطاماً، ولحسن حظّه كان البيت فارغاً حينها ونجت عائلته.

مصطحباً أربعةً من أولاده، الذين تتراوح أعمارهم بين الخمسة عشر عاماً والسبعة أعوام، وزوجته وأمه وحماته، توجّه أبو أحمد نحو الحدود، وأنفق آخر ما لديه للدخول إلى الأراضي التركية والوصول إلى بيت أقربائه في عنتاب. بدأ أبو أحمد يمسح عينيه بشكل متكرر وهو يتحدث عن لحظة الهروب، قبل أن يُقرر التوقف عن الحديث عن تفاصيل رحلة النزوح.

كان اليوم الذي التقيت أبو أحمد فيه ثاني أيام عمله في بيع القهوة. «تديّنت مصاري واشتريت الترمس وبقية العدّة». لم يكن اليوم الأول موفقاً، إذ عمل أبو أحمد منذ الصباح الباكر وحتى إغلاق السوق وبالكاد كسب 18 ليرة تركية (ستة دولارات تقريباً). «على هالحالة بدي شهرين بس لأسدّ الدين»، يقول أبو أحمد زافراً وشائحاً بوجهه قبل أن يُكمل «الحمد لله على كلّ حال».

أحاول حينها الخروج من لحظة الصمت بمواساة أبو أحمد، وأقول له بأن اليوم الأول سيكون صعباً بكل الأحوال، فهو عمل جديد في مدينة جديدة، وأنه مع الوقت سيكسب زبائناً أكثر لأن أهل السوق سيتعرفون عليه، وأنه سيعتاد على صعوبة العمل. وكأنه ينتظر الحديث عن الاعتياد، أعاد أبو أحمد النظر إلي بعينيه الثاقبتين، اللتين لم يعد يكترث بإخفاء إحمرارهنّ ورطوبتهن، وقال وكأنه يعترف بذنب «والله يا ابن أخوي أنا ما بدي أتعوّد». تلعثمت حينها، وعجزت عن إيجاد ما أقوله للخروج من المأزق الذي وجدت نفسي فيه، فأسعفني أبو أحمد بأن عرض عليّ حبّة هال إضافية لفنجان القهوة، وقبلتُ العرض على عجلٍ وأنا أسأله إن كان يعرف محلاً قريباً يمكن أن أشتري منه زعتراً حلبياً.

لم يعرف أبو أحمد أن يدلّني، وأنا لم أكن أريد زعتراً.

*****

في إحدى زوايا ساحة سوق القمل نجد «قراءتخانه» (Kiraathane)، وهو نوع من المقاهي الشعبية يقصده رجال المحلّة لقراءة الصحف ولعب النرد والدومينو وغيرها من الألعاب، أي أنه بمثابة النادي المحلّي أكثر من كونه مقهىً يعتمد على زبائن عابرين. وعلى رصيف المقهى تصطف عدّة بسطات، بعضها معروضٌ على طاولاتٍ تابعة للمقهى. هناك بسطة أولى، أكبر بعض الشيء، فيها كل ما يخطر على البال من أنواع الالكترونيات والكهربائيات القديمة، مثل مسجلات الكاسيت أو هواتف الأقراص، أو شواحن لموبايلات لم تعد تُصنّع، أما باقي البسطات فهي أصغر، بحجم طاولات المقهى، وتعرض موبايلات قديمة وسلاسل فضية ومسابح وخواتم وقداحات وساعات، وكل أنواع الاكسسوارات المستعملة، بالإضافة للعملات والطوابع والأحجار غريبة الشكل.. الخ

كل أصحاب البسطات على رصيف القراءتخانة سوريّون، لكن لا يبدو أنهم هم من دشن طقس هذا النوع من البسطات في المكان، فداخل القراءتخانة هو امتداد للسوق، وأغلب طاولات المقهى مشغولة بالسلاسل والخواتم والمسابح والساعات وغيرها، ما عدا طاولتين أو ثلاث ما زالتا تُستخدمان لخدمة الزبائن. الفارق بين خارج القراءتخانة وداخلها هو أن باعة الخارج سوريون، فيما باعة الداخل (عدا سوريٍ واحد) هم أتراك.

صالح في أواخر الأربعينات،  يرتدي بنطلوناً وقميصاً وجاكيتاً من الجينز من ذات اللون، وفوقهما قبعة جلدية، وحذاءً رياضياً أبيض. يبدو أكثر البائعين مرحاً وصخباً، وسرعان ما يُحاول استمالتي كزبون عبر مدحه لانتباهي على جزء من بضاعته: قداحات الرونسون. اسأله إن كان قد أتى بالقداحات من سوريا، فيتلفت حوله وكأنه يتأكد أن لا أحد سيسمعه يبوح لي بسرّ:«الأتراك لا بيعرفوا ولا بيهتموا بهيك أمور.. هاي شغلات أنيقة شغل الأكابرية والفهمانين شرواك».

يروي صالح أنه عمل لفترة طويلة على خطوط الشحن من أوروبا الشرقية إلى حلب، ثم باقي سوريا، وأنه كان يمرّ بعنتاب واسطنبول كل شهرٍ تقريباً «سبحان الله، ما كنا نعرف انو آخرتنا هون»، ويتحسّر على تلك الحقبة، فقد كان شاباً، ويكسب جيداً، ويسافر كثيراً، ويصرّ على أن يريني أن ما يرتديه «ماركة». بعد سنوات عديدة من العمل في الشحن، غيّر صالح عمله نحو تجارة قطع تبديل السيارات، ولكن عمله توقف تماماً في صيف 2012، وقرر الخروج بعدها بعامٍ إلى عنتاب.

اسأل صالح إن كان ما يزال باستطاعته جلب البضاعة من سوريا فيشير برأسه نافياً، هل ذلك بسبب إغلاق الحدود؟ ينفي صالح مجدداً «لا أخوي، الناس ما ضل عندها شي تبيعه، ولا ضل عندها شي يتشوّل (يُسرق) منها وينباع». قررت حينها أن السؤال عن شعوره وهو يعلم أن جزءاً من بضاعته مسروقٌ من أصحابه لا محلّ له وعدت للتمعّن في قداحة رونسون مطابقة لقداحة أُهديت لوالدي قبل سنوات طويلة. «هاي كانت تنباع بخمس آلاف وست آلاف بالسوري ها، ومستعملة..» اسأله عن سعرها فيجيب «ستين ليرة أخوي». أتركها مكانها وأتوجّه إلى المعلم ابراهيم، جاره في البسطة.

المعلم ابراهيم ستيني أو أكثر، بشوش وكثير الضحك، لكنه أقل صخباً من صالح. يتجنب الإجابة على الأسئلة وإن بلطف، قائلاً أنه يخاف ولا يريد المشاكل، وأن عنتاب ليست آمنة «منهم»، دون أن يحدد من يقصد، وبعد إلحاح بسيط اكتفى بالقول بأنه من حيّ السكري بحلب، وأنه كان يمتلك بقالية قبل أن يُسوّى جزء كبير من الحيّ بالأرض. يتندّر صالح على المعلم إبراهيم وخوفه من الحديث معي، ويقول له ضاحكاً: «لك ما بتخاف الله وبتخاف تحكي مع الصحافة؟ يا عيب الشوم عليك»، ويمتنع المعلم ابراهيم عن الردّ على مزحة صالح، ويكتفي بالضحك طويلاً وهو يعيد ارتداء القبعة الصوفية السوداء على رأسه.

يروي الرجلان أنهما من أوائل الذين قدِموا للعمل في سوق القمل، وأن البسطات كانت موزعة على الساحة، لكن شرطة البلدية أجبرتهم على الالتزام بهذا الرصيف خلال الأسبوع.

*****

بالقرب من سوق القمل، نزولاً نحو جادة إينونو، يعمل عمار في بقالية صغيرة، تشغل ماكينة اسبريسو ضخمة ثلثها تقريباً. عمار في منتصف الأربعينات تقريباً، وكان شريكاً في ورشة ألومنيوم في حلب ويقيم في بستان القصر مع عائلته المكونة من زوجته وخمسة أولاد.

خرج عمار من حلب أواخر شباط 2014 بعد تعرّض بستان القصر لقصف عنيف أدى لتأذي بيته بشكل كبير. أُصيب أصغر أولاده خلال القصف بحروق وكسور عديدة، ورغم أنه شُفي جسدياً إلا أن أعراض الرضّ النفسي في سلوكه ما زالت واضحة وبقوّة.

بعد خروجه من حلب، بقي عمّار عدة أشهر بدون عمل قبل أن يجد عملاً لدى صاحب البقالية التركي، الذي تعرّف عليه عن طريق أصحاب الشقة التي استأجرها في أحد أحياء عنتاب الشعبية. يعمل عمّار من الصباح حتى المساء في البقالية، ويتقاضى 200 ليرة أسبوعياً، ويُسمح له، بالإضافة إلى ذلك، بأخذ بضائع من المحل ضمن حدّ معيّن، وقد وجد عملاً لأحد أبنائه (13 عاماً) في محل معجنات ملاصق للبقالية، ويتقاضى الولد 150 ليرة أسبوعياً، ما يُدعّم دخل العائلة ويسمح بدفع 500 ليرة آجار المنزل.

أبناء عمّار لا يذهبون إلى المدرسة. يشرح الأب أن لا مدارس قريبة من المنزل، وأنه غير قادر على تحمّل كلفة المواصلات، كما يُعبّر عن قلقه على ابنه الصغير.. يعرف أنه بحاجة إلى عِلاج، لكنه عاجز عن دفعه، كما أنه لا يعرف أين بإمكانه أن يذهب للحصول على مساعدات، أو أي المنظمات الإنسانية أو الطبية يمكن أن تُقدّم العلاج بالمجان. أثناء النقاش حول الموضوع وصل أبو أيمن لزيارة صديقه. أبو أيمن كان جاراً لعمّار في بستان القصر، وقد خرجا سويّة من حلب بعد تأذي البناء الذي كانوا يقيمون فيه، لكن قصة أبو أيمن أكثر تراجيديّة، حيث أنه فقد ابنه البكر، أيمن، في ذلك القصف المشؤوم في شباط 2014. «ضليت كذا يوم أروح أقلّب بالأنقاض وبأغراض البيت المكسّرة ولسى عم لاقي قطع من ابني.. آخر شي لقيته نص رجله، وكان يجي معي والله (ويشير إلى عمّار). بوحدة من المرّات وأنا عم شيل شقفة لحمة طلّعت وراي ولقيت واحد شايل الغسالة من كومة الأنقاض وماشي.. ما حكّيته شي»، يقول أبو أيمن بألم، فيما ينظر عمّار بعيداً وكأنه يُخفي وجهه عنّا.

يعمل أبو أيمن في ورشة كهرباء سيارات قريبة من السوق، ويتقاضى 350 ليرة أسبوعياً. وقد أسكن عائلته في مرعش، حيث وجد بيتاً لا يتجاوز آجاره 250 ليرة. يعمل في عنتاب طوال الأسبوع، وينام في سكن مشترك للعمّال، ثم يزور عائلته يوم الأحد.

يلتفت أبو أيمن إلى عمّار ويقول له «مبارح شفت الحارة عالفيسبوك.. عامليلا فيديو»، فيسأل عمار «شو باقي منها»، ليرد أبو أيمن «كلّه مكسّر ومهرهر». ويستمر بشرح أن الفيديو سببه أن الحارة تعرّضت للقصف مجدداً، وحينها يبدأ أبو أيمن بالانفعال «أخي إش بدو؟ طيب ع فرض أنا طلعت تظاهرت، يا خيّو شلت سلاح، ماشي؟ يجي شغله عندي.. راسي براسو، زلمة بزلمة، يعتقلني يطخني فشكة يهرسني بالدبابة.. إش عليه! إش بدو من الولاد والنسوان ويحرق بهالخلق ويخرب بيوت الناس؟ إش عمله ابني؟»

يمدّ أبو أيمن يده إلى جيب جاكيته الجلدي الأسود بعصبيّة وكأنه يبحث عن مستند لإثبات كلامه، ويُخرج صورةً لابنه «شوفه، اجت الطيارة وضربت وروّحته.. هيك ببلاش»، ثم يمد يده مرة أخرى ويُخرج صورة ثانية، أكبر من الأولى، لأشلاء ابنه «شوف كيف تركوه، ما بعرف اذا لمّيته كلّه.. ضليت أسبوع اروح كل يوم أدوّر.. ما بقا فيني يا أخوي، ما بقا فيني. صوّرها اذا بدك».

لم أصوّر، لكنني أحسست حينها وكأنني ملزم أخلاقياً على التحديق بتركيز على صورة الأشلاء.. لا أدري لماذا.

*****

يتغيّر وجه سوق القمل يوم الأحد، ليس فقط لأن عدد البسطات يتضاعف، بل أيضاً يتضاعف تنوّع البضائع المعروضة، من الألبسة والأحذية الجديدة والمستعملة، والأدوات المنزلية، والبلاستيكيات، وحتى الخضار والفواكه والتوابل. يتغيّر طابع الزبائن أيضاً، فخلال الأسبوع تجد فقط كهولاً يقطعون الوقت في المساومة على مسبحة أو على جهاز الكتروني عتيق، أما في نهاية الأسبوع فأغلب الزبائن عائلات.

الأغلبية الساحقة من الزبائن سوريون، وكذلك الباعة. الصياح على البضاعة بالعربية فقط.. «كله بخمسة كله بخمسة»؛ «يا ريته بالة!»؛ «ولادي بعشرة!».. الخ

وسط الساحة عربة سحلب حليب يقف عليها طفل بالكاد يسعفه طوله للوصول إلى سطح العربة. عمره 11 عاماً، وهو من حي الجزماتية الحلبي. اسأله إن كان يعمل لوحده فيقول أنه يأتي مع والده، لكن الأب ذهب إلى الجامع لأداء صلاة الظهر. لا يذهب إلى المدرسة، ويعمل مع والده فقط يوم الأحد «أجي معه مشان دير بالي عالعرباية وأمشّي الشغل اذا هو بده يروح عالجامع أو يروح يتوضى.. غير أيام بشتغل بورشة قوالب صوبيات حطب».

يمرّ رجل عجوز بجانب عربة السحلب. عمره لا يقل عن 75 عاماً، ويمشي ببطء مستنداً على عصا وهو ينادي على «حب 500» و«حب وجع أسنان». بيده كيس أدوية مصنوعة في سوريا. الكثير من الصيدليات في عنتاب وغيرها من مدن اللجوء السوري تعلن عن توفّر «دواء سوري»، فهناك إقبال عليه نتيجة الاعتياد.

عند بسطات الثياب الولادية ألمح أبو أحمد مجدداً، ويراني هو ويأتي لتحيّتي. أطلب منه فنجان قهوة وأنا أسأله عن أحواله فيقول «الحمد لله.. أحسن». لعلّ منظر السوق المزدحم يوم الأحد، على عكس باقي أيام الأسبوع، قد حرّك فيه الأمل وأراه شيئاً من الضوء في نهاية النفق.

في الجولة الاخيرة على السوق، أمرّ على القراءتخانة ليستقبلني صالح بصخبه المعتاد، وأفشل في منع نفسي من مساومته على قداحة الرونسون. لمن كانت هذه القداحة؟ وعلى كم يدٍ مرّت خلال تاريخها؟ لا يبدو أن عمرها أقل من ثلاثين عاماً.. كم حياةً عاشت هذه القداحة؟ في أيّ قرية أو مدينة؟ والأسئلة الأهم: ماذا حصل بصاحبها الأخير، وكيف وصلت إلى بسطة صالح في سوق القمل؟

أعيش لحظاتٍ من التأرجح بين شرائها وتركها، قبل أن أحزم أمري وأشتريها بعد مساومة طويلة رفض صالح ختمها إلا بالشاي، ويستغرب رفضي لأن يعبئ القداحة بالغاز مجاناً. «ما راح استخدمها» قلت له.. «تصطفل»، أجابني.

بحوزتي الآن قصّة لا أعرفها، ولا أعرف أبطالها.

موقع الجمهورية

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى