صفحات الثقافة

سوناتا ضوء القمر/ يانيس ريتسوس

 

 

ترجمة: رفعت سلاّم

(ليلةٌ ربيعيّة. غرفةٌ كبيرةٌ في بيتٍ قديم. امرأةٌ في وسط العمر، ترتدي الأسود، تتحدَّث إلى شاب. لم يُشعلا أيَّ ضوء. من خلال النافذتَين، يدخل ضوءٌ قاسٍ. لم أُهمل ذكرَ أنَّ المرأة ذات الرداء الأسود قد أصدرت عملَين أو ثلاثة أعمال لافتة من الشِّعر ذي الطبيعة الدينيّة. حسناً، فالمرأة ذات الرداء الأسود تتحدّث إلى الشاب):

دعني أذهب معك. يا له الليلةَ من قمر!

فالقمر مفيدٌ لي – ولا تستطيع أن تقول

إنَّ شَعري قد تحوَّل إلى الأبيض. فالقمر

سيجعل شَعريَ ذهبيّاً من جديد. ولن يمكنكَ أن تعرف الفرق.

دعني أذهب معك.

عندما يكون هناك قمر، تصبح الظِّلال في المنزل أكبر،

وأيدٍ لا مرئيّةٌ تشدُّ الستائرَ،

وأصابعُ شبحيّةٌ تكتب كلماتٍ منسيّةً في الغبار

على البيانو – لا أريد أن أسمعها. فلتبقَ ساكنة.

دعني أذهب معك

لمسافةٍ قصيرة إلى هناك، حتّى الحائط الخفيض لمصنع القرميد،

حيث ينحني الطريق ويمكنك أن ترى

المدينةَ الإسمنتيَّة لكن ذات الهواء الطَّلْق، وهي مطليَّةٌ بضوء القمر،

لا مباليةً ولامادِّيَّة،

يقينيَّةً كالميتافيزيقيّات،

إلى حدّ أنّك يمكن – في النهاية – أن تصدِّق أنك موجودٌ وغير موجود،

أنّك لم تُوجد أبداً، وأن لا الزمن ولا تخريبه قد وُجدا أبداً.

دعني أذهب معك.

سنجلس برهةً على الجدار المنخفض، هناك في ذلك المرتفع،

وعندما تهبُّ علينا ريحُ الربيع

يمكننا أن نتخيَّل حتى أنّنا سنطير

لأنّني – في مرّات كثيرة، حتّى الآن – أسمع حفيفَ ثوبي

كرفرفة جناحَين قويَّين يضربان الهواء؛

وعندما تستغرق في صوت الطيران هذا

تشعر أنّ حلقك، وضلوعك، وجسدك قد أصبحوا راسخين؛

وبذلك – وأنت محشورٌ بإحكامٍ في عضلات الهواء الأزرق،

في الأعصاب القويّة لتلك الأعالي –

لا يهمّ ما إذا كنت تمضي أم تعود،

ولا يهمّ إذا ما تحوَّل شَعري إلى الأبيض

(ليس ذلك مصدر أسفي، فأسفي

أنّ قلبي، أيضاً، لم يتحوَّل إلى الأبيض).

دعني أذهب معك.

أعرف أنّ كلّ إنسانٍ يمضي وحده في طريقه إلى الحب،

وحده إلى المجد وإلى الموت.

أعرف هذا. وجرَّبت ذلك. لا جدوى.

دعني أذهب معك.

هذا المنزل أصبح مسكوناً بالأشباح، يتمرَّد عَلَىْ.

أعني أنّه أصبح عتيقاً، مساميرُه تتساقط،

وإطارات صوره تتداعى بسهولة كأنّها تغوص في الفراغ،

والجَصُّ يسَّاقط بلا صوت

كسقوط قبَّعة رجلٍ ميِّتٍ من مشجبها في ممرٍّ مظلم،

كسقوط القفَّاز الصُّوفيّ المهترئ عن ركبتَي الصمت

أو قصاصةِ ضوءِ القمرِ على المقعد القديم، المبقور.

وحتّى لو كانت جديدةً ذات يوم – لا، ليست الصُّوَر الفوتوغرافيّة التي تنظر إليها بارتياب –

إنّني أتحدَّث عن المِقعد، المريح للغاية، حيث يمكنك الجلوس لساعاتٍ بلا انقطاع

وبعينَين مغمضتَين تحلم بأيِّ شيء عشوائي

–      بشواطئَ رمليّةٍ، ناعمةٍ، مبلولةٍ، لامعةٍ بفعلِ القمر،

بل أكثرَ لمعاناً بكثيرٍ من الحذاء الجلدي القديم المصون الذي أرسله كلّ شهرٍ إلى كُشْكِ الأحذية،

أو شراعِ قارب الصيد الذي يتلاشى في البُعد، متأرجحاً مع زفيره،

شراعٍ مثلَّثٍ مثل منديلٍ مطويٍّ من قُطره إلى اثنَين فحسب

كأن لا شيء هناك كي يُغطِّيه أو يُخبِّئه،

أو ليرفرف على اتِّساعه في وداع. كنتُ دائماً مجنونةً بالمناديل –

لا لأحتفظ بأيِّ شيءٍ داخلَها وهي معقودة،

كبذور الزهور أو البابُونج المَجنيَّة من الحقول في الغروب،

لا لأعقدها من أركانها الأربعة مثل المناديل المهترئة لعُمَّالِ المنزل المقابل نصف المبني،

أو لأُجفِّف بها عينيَّ – لقد اعتنيتُ جيّداً بعينيَّ،

ولم أرتدِ أبداً نظَّارات. مجرَّد نزوة، تلك المناديل.

أطويها الآن إلى أربع، إلى ثمانٍ، إلى ستّ عشرة

ببساطةٍ كي تظلّ أصابعي مشغولة. والآن أذكر

كيف أنني ظللتُ أدقُّ الموسيقى فيما كنت أحضر معهد الموسيقى

في رداءٍ أزرق بياقةٍ بيضاء، مع ضفيرتَين شقراوَين

–      8، 16، 32، 64 –

متشبِّثةً بيد شجرة خوخٍ صديقةٍ لي، كلّها زهورٌ ذات لونٍ ورديٍّ فاتح،

(اغفر لي أفعالي هذه – إنّها عادةٌ سيِّئة) – 32، 64 – وعلَّقَ أهلي

آمالاً كبرى على موهبتي الموسيقيّة. حسناً، كنت أحكي لك عن المِقعد  –

المنزوع الأحشاء – يَاياتُه الصدئة ظاهرةٌ، والحشو –

كنت أفكِّر في أخذه إلى نجّار الموبيليا المجاور،

لكن أين الوقت أو المال أو المزاج – أيُّهم له الأولويّة؟ –

فكَّرتُ في إلقاء قطعة قماشٍ فوقه – لكنّي كنت خائفة

من قطعة قماشٍ بيضاء في ضوء قمرٍ مثل هذا.

هنا جلس هؤلاء الذين حلموا أحلاماً عظيمةً، مثلك أو مثلي،

والآن يتمدَّدون تحت التراب حيث لا يُزعجهم مطرٌ ولا قمر.

دعني أذهب معك.

سنتوقَّف برهةً على قمَّة السُّلَّم الرخاميّ لسان نيكولاؤس

وبعد ذلك سوف تمضي نازلاً وسوف أعود،

متذكِّرةً على جنبي الأيسر دفءَ معطفك وهو يلمسني مصادفةً،

وحتّى بعض الأضواء المرتعشة المربَّعة لنوافذَ صغيرةٍ في الأحياء الفقيرة،

وهذا الضباب الأبيض الناصع من القمر مثل سربٍ طويلٍ من أوزٍّ فضِّي –

لا أخشى استخدام مثل هذا التعبير

لأنّي في ليالٍ ربيعيّةٍ كثيرة، في ما مضى، تحادثتُ مع الربّ عندما تجلَّى لي

مكتسياً بغموضِ ومجدِ ضوءِ قمرٍ من هذا القبيل؛

وكم من شبَّانٍ، أكثر وسامةً منك، قدَّمتهم قرباناً له

هكذا، ناصعةً ومستعصيةً، تحوَّلتُ إلى سديمٍ في وَهَجي الأبيض، في بياض القمر،

تؤجِّجني عيون الرجال الشرهة، ونشوة الشبَّان الحائرة،

مُسيَّجةً بأجسادٍ فاتنةٍ، لفحتها الشمس،

وأعضاء فتيَّةٍ تمرّست في السباحة والتجذيف والسباق والكُرَة (رغم أنّني تظاهرتُ بعدم الملاحظة)

حواجبَ، وشفاهٍ، وأعناقٍ، ركبٍ، وأصابعَ، وعيون،

صدورٍ وسواعدَ وأفخاذ (في الحقيقة لم ألحظها)

–      تدري أنّك، في بعض الأحيان، عند الافتتان، تنسى ما يفتنك، فافتتانك يكفي –

يا إلهي العزيز، يا لها من عيونٍ لامعة كالنجوم، وقد سَمَوتُ إلى مَثَلٍ أعلى للنجوم المحرَّمة

لأنّني، محاصرةً هكذا من هنا وهناك،

ما كان أمامي سبيلٌ سوى الأعالي أو القاع. – لا، ذلك لا يكفي.

دعني أذهب معك.

أعرف أنّ الوقت تأخَّر للغاية الآن. دعني أذهب،

لأنّي طوال سنواتٍ كثيرةٍ وأيّامٍ وليالٍ وأقمارٍ قرمزيّة، ظللتُ وحيدة،

صامدةً، وحيدةً وطاهرة،

حتّى في سرير زفافي، وحيدةً وطاهرة،

أكتب قصائدَ مجيدةً على ركبتَي الربّ،

قصائد سوف تبقى، أؤكِّد لك، كأنّها منقوشةٌ على رخامٍ نقيّ

في ما بعد حياتك أو حياتي، أبعد بكثير. ذلك لا يكفي.

دعني أذهب معك.

لا أستطيع احتمال هذا المنزل أكثر من ذلك.

لا أستطيع احتمال مواصلة حمله على ظهري.

لا بدّ أن تكون منتبهاً دائماً، منتبهاً للغاية

لتسند الحائط بالبوفيه الكبير

لتسند البوفيه بالمائدة العتيقة المزخرفة

لتسند المائدة بالكراسي

لتسند الكراسي بيدَيك

لتضع كتفك تحت الدعامات المتدلِّية.

والبيانو يشبه كفناً أسودَ مُغلقاً. لا تجرؤ على فتحه.

لا بدّ أن تكون منتبهاً دائماً، منتبهاً للغاية، خشية سقوطهم، خشية سقوطك. لا أحتمل.

فدعني أذهب معك.

هذا المنزل، رغم كلّ موتاه، لا ينوي أن يموت.

إنّه مُصرٌّ على الحياة مع موتاه

على الحياة بعيداً عن موتاه

على الحياة على اليقين في موته هو

بل حتّى على إيواء موتاه في أسرَّةٍ ورفوفٍ خَرِبَة.

دعني أذهب معك.

هنا لا يهمُّ مدى الهدوء في سَيري خلال غَبَش المساء،

سواءٌ في خُفِّي أو حافية،

فسوف يَصِرُّ شيءٌ أو آخرُ – يقرقع إطار نافذةٍ، أو مرآة،

يُسمَع وقعُ خطىً ما – ليست خطاي.

في الشارع بالخارج يمكن ألاّ تسمع هذه الخطى –

فالندم، كما يقولون، يرتدي قباقيبَ خشبيَّةً –

وإذا ما حاولتَ النظر في هذه المرآة أو تلك،

في ما وراء الغبار والشروخ،

فسوف تتبيَّن وجهك أكثر إعتاماً وتشظِّياً،

وجهك، رغم أنّك لم ترد من الحياة أكثر من أن تُبقيه واضحاً ومكتملاً.

حافَّة كوب الماء تلتمع في ضوء القمر

كموسىً دائري – كيف يمكنني أن أضعه على شفتي؟

لا يهمّ مدى ما أشعر به من عطش، كيف يمكنني؟ هل ترى؟

ما أزال في المزاج الاستعاري – ذلك ما يبقى لي،

ذلك ما يؤكّد لي أنّني ما أزال هنا.

فدعني أذهب معك.

في بعض الأحيان، عندما يحلّ الليل، يتملَّكني الإحساس

بأنّ مدرِّب الدِّبَبة يمرّ خارج النافذة مع دُبَّته العجوز الناعسة،

وفراؤها مغطَّى بالشوك والزعرور،

مثيرةً سحابةً من التراب في الشارع المجاور،

سحابة ترابٍ كئيبةً تصَّاعد كالبخور في الشفق؛

والأطفال عادوا إلى بيوتهم للعشاء دون أن يُسمح لهم بالخروج من جديد،

رغم أنّهم يهجسون خلف جدرانهم بالخطى الثقيلة للدُّبَّة العجوز،

والدُّبَّة تتقدَّم بتعبٍ في حكمةِ وحدتِها، لا تدري إلى أين أو لماذا –

لأنّها أصبحت ثقيلةً، لم تعد تستطيع الرقص على قدمَيها الخلفيَّتَين،

لا تستطيع أن ترتدي قبَّعتها المزيَّنة لتُسلِّي الأطفال، والعاطلين، أو هؤلاء الذين يطلبون منها،

لأنّها لا تريد سوى أن تستلقي على الأرض،

وتتركهم يقفزون على بطنها، لتلعب بذلك لعبتها الأخيرة،

ورفضها لمصالح الآخرين، للأجراس في منخارها، لاحتياجات أسنانها،

رفضها للألم وللحياة

مع اقترانٍ أكيدٍ بالموت – حتّى لو كان موتاً بطيئاً –

رفضها الأسمى للموت مع استمرار ومعرفة الحياة

الذي يتصاعد بالمعرفة والفعل فوق عبوديَّتها.

لكن مَن يستطيع أن يمضي في هذه اللعبة إلى نهايتها؟

والدُّبَّة تنهض من جديد وتتهادى،

مُطيعةً لسوطها، لأجراسها، لأسنانها،

مبتسمةً بشفتَيها الداميتَين للملاليم والقروش التي يرميها إليها الأطفال الجميلون الواثقون

(جميلون لأنّهم بالتحديد واثقون)

وهي تقول: شكراً. لأنّ الشيء الوحيد

الذي تعلَّمت الدِّببة التي شاخت أن تقوله هو: شكراً، شكراً.

دعني أذهب معك.

هذا المنزل يخنقني. المطبخ بالذات

يشبه قاع البحر. غلاّيات الشاي المُعلَّقة تلتمع

مثل العيون الكبيرة المستديرة لسمكةٍ خرافيّة،

والأطباق تتحرّك في كسلٍ مثل قناديل البحر،

والقواقع والطحالب تعلق بشَعري – لا يمكنني انتزاعها في ما بعد،

لا أستطيع الصعود إلى السطح من جديد،

تسقط الصينيّة من أصابعي بلا صوت – أنهارُ

وأرقبُ الفقاقيع تتصاعد من تنفُّسي وتصَّاعد

وأحاول تسلية نفسي بمراقبتها،

وأسأل نفسي عمَّا يمكن أن يقوله شخصٌ في الأعلى إذا ما رأى هذه الفقاقيع –

أنّ شخصاً ما يغرق، ربّما، أم أنّ غوَّاصاً يستكشف أعماق البحر؟

والحقيقة أنّي اكتشفتُ في أعماق البحر، مرَّاتٍ ليست كثيرة،

لؤلؤاً ومرجاناً وكنوز السفن الغارقة،

لقاءاتٍ غير منتظرةٍ، وأشياءَ اليوم والأمس والمستقبل،

تحقُّقاً – في الغالب – من الأبديّة،

سِحراً ما ينشر عبيره، وبسمةً ما للخلود، كما يقولون،

سعادةً، سُكْراً – حماسةً حتّى،

لؤلؤاً ومرجاناً وياقوتاً –

فقط، لا أدري كيف أمنحهم – ومع ذلك أمنحهم –

فقط، لا أدري ما إذا كانوا قادرين على تلقّيهم – ورغم ذلك أمنحهم.

دعني أذهب معك.

لحظةً واحدةً إلى أن آتي بسترتي.

في هذا المناخ غير المستقرّ، على أيّة حال، ينبغي أن ننتبه لأنفسنا.

المساءات مُقبِضَةٌ، والقمر –

ألا تعتقد، بصدق، أنّه يُكثِّف القشعريرة؟

دعني أُزرِّر قميصك – كم أنّ صدرك قوي! –

يا له من قمرٍ قوي… المقعد، أقول… وعندما رفعت الكوب عن المائدة

تبقَّت تحته فجوة صمت، وأُغطّيها بيدي

حتّى لا أحدِّق داخلها – أعيد الكوب إلى موضعه من جديد،

والقمرُ فجوةٌ في جمجمة العالم – لا تنظرْ فيها،

ففيها قوَّةٌ مغناطيسيّةٌ تجتذبك – لا تنظر، لا تدع أحداً ينظر،

أنصت إلى ما أقول – لسوف تسقط فيها. هذا الدُّوار

جميلٌ وبلا ثِقَل – لسوف تسقط –

والقمر بئرٌ من رخام،

ظلالٌ وأجنحةٌ صامتةٌ تتحرَّك، أصواتٌ غامضة – ألا تسمعها؟

عميقٌ، عميقٌ هو السقوط،

عميقٌ، عميقٌ هو النهوض،

التمثال الأثيري مقطِّبٌ في صرامةٍ وسط جناحَيه المنشورَين،

عميقةٌ، عميقةٌ هي هبة الصمت الراسخة،

إضاءاتٌ مرتجفةٌ على الشاطئ الآخر كأنّك تتأرجح في موجتك الخاصّة،

تنفُّسُ المحيط. هذا الدُّوار

جميلٌ وبلا ثِقَل- انتبه، ستسقط. لا تنظر إليَّ،

لأنّ دوري أن أترنَّح- الدُّوار الرائع. هكذا كلّ يومٍ حوالى المساء

يُواتيني صداعٌ طفيف، بضع رُقىً سحريّةٌ مُدوِّخة.

كثيراً ما أهرع إلى الصيدليّة عبر الشارع من أجل أسبرين،

وأحياناً ما لا أستطيع تكبيد نفسي مشقَّة الذهاب، وأبقى مع صداعي

وأنصت إلى الضوضاء المكتومة التي تصنعها مواسيرُ المياه في الجدران،

أو أصنع بعض القهوة، وأنسى- وأنا غائبة الذهن كما دائماً –

فأصنع كمِّيَّـةً تكفي اثنَين- فمن الذي سيشرب الكوبَ الثاني؟

إنّه حقّاً شيءٌ مُسَلٍّ؛ أتركها تبرد على عتبة النافذة

أو أحياناً ما أشرب الكوب الثاني أيضاً، محملقةً من نافذتي في الإضاءة الكهربائيّة الخضراء للصيدليّة،

مثل الضوء الأخضر لقطارٍ بلا صوتٍ يأتي ليرحل بي

بمناديلي، وأحذيتي المتنافرة، وحقيبتي السوداء، وقصائدي،

وبلا حقائب سفر أبداً – فما الفائدة منها؟

دعني أذهب معك.

آه، هل تمضي؟ تصبح على خير. لا، لن أجيء. تصبح على خير.

سأخرج بنفسي بعد بُرهة. شكراً لك، لأنّني ينبغي حقّاً

أن أخرج من هذا المنزل المسكون بالأشباح.

لا بدَّ أن أُلقي نظرةً على المدينة – لا، لا، ليس القمر –

المدينةُ بأيديها القاسية، مدينة الأُجَراء،

المدينةُ التي تُقْسِم على خبزها وقبضتها،

المدينةُ التي تحملنا على ظهرها،

بتفاهاتنا، ورذائلنا، وأحقادنا،

بطموحاتنا، وجهلنا، وشيخوختنا،

لأسمعَ الخطوات الكبيرة للمدينة

إذ لم أعد أسمع خطواتك،

ولا خطى الربّ، ولا حتّى خطاي. تصبح على خير.

(تُعتم الحجرة. يبدو أن سحابةً لا بدّ أخفت القمر. فجأةً، كأنّ شخصاً ما فتح الراديو في البار المجاور، تبلغ السمع جملةٌ مألوفةٌ للغاية. أدرك آنئذٍ أن هذا المشهد كلّه كان مصحوباً بـ«سوناتّا ضوء القمر»، بالجزء الأوّل فحسب. لا بدَّ أن الشابّ يهبط الآن المنحدر بابتسامةٍ متهكّمةٍ وربّما شفوقةٍ على شفتَيه المنحوتتَين، وبشعور من تحرَّر أخيراً. وما إن يصل إلى سان نيكولاؤس – قبل أن يهبط السُّلَّم الرخامي – حتى يضحك، ضحكةً عاليةً مُطلقةَ العنان. ولن تبدو ضحكته نشازاً تحت القمر أبداً. ربّما كان الشيء الوحيد الناشز فيها أنها ليست نشازاً أبداً. وبعد بُرهةٍ، سيهوي الشابّ إلى الصمت، سيتحوّل إلى شخص وقور، ويقول: «نشازُ عصر». هكذا، سيفتح أزرار قميصه من جديد، وهو رصينٌ تماماً مرَّةً أخرى، ويواصل طريقه. أمّا المرأة ذات الرداء الأسود، فلا أدري ما إذا كانت قد غادرت المنزل في النهاية، أم لا. ضوء القمر يلتمع من جديد. وفي أركان الغرفة، تتيبَّس الظلال وتتوتَّر تحت وطأة ندمٍ لا يُحتمل، وغيظٍ غالباً، لا تجاه الحياة بقدر ما هو تجاه اعترافٍ كان بلا جدوى تماماً. هل تسمع؟ الراديو يواصل): (موسيقى «سوناتّا ضوء القمر»).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى