صفحات المستقبل

سياسات الفرار وجغرافيته/ روجيه عوطة

 

 

بعد توطئة سلسلة “نثور بلا ثورة“، جاءت الحلقة الأولى عن القتلى في سوريا، والثانية عن العلاقة بين نظام الأبد ودولة البقاء والفارين في أرض الموت، والثالثة عن تقاطع الخطابين الممانع واللاممانع حول حادثة “أبو صقار“، والرابعة عن قتل “الإنسان” الأسد للحيوانات، هنا، الحلقة الخامسة، عن الخروج من اللاسياسة إلى السياسة.

في أيلول عام 2013، نشر “مركز توثيق الإنتهاكات في سوريا” تقريراً بعنوان: رحلة الهروب من الجحيم، يتضمن قصة فرار خمسة معتقلين، هم أحمد حمادة، لؤي بللور، وفواز بدران، وحسان نصرالله، وموفق الجندلي، من فرع المخابرات الجوية في حرستا. تصلح شهاداتهم، التي ألفت سردية واقعية، أن تكون تجربة في السياسة، بمعناها الحياتي، بحيث قدر الهاربون من الأبد، ممثلاً بمكانه الإعتقالي، وفعله التعذيبي، وشخصية الضابط معين، الملقب بـ”أبو الموت”، على صناعة واقعة. منها، استنتجوا ممكنهم، في لحظة شعورية اتجاه غير المحتمل، أي موعد إعدامهم القريب، الذي كان قد شاهدوه أمامهم عند اغتيال رفاقهم، وائل سراقبي، وغسان بللور، وأبو كاسم النداف، وعبد المعين الشالط، ومحمد الخطيب.

لنقل أن فرع المخابرات الجوية في حرستا هو “سوريا الأسد” عاريةً، وأن “الإجتماع السوري” هو مجموع المعتقلين الذين يشتركون في احتجازهم داخل “جماعيات” تحت الأرض، حيث السياسة الوحيدة، التي تُعتمد بحقهم، بغاية تأديبهم وتأبيدهم، هي التعذيب، هي اللا- سياسة. والأخيرة، ترتكز على استراتيجيات عدة.

أولها، الإفساد المكاني، حيث أن سقف القبو، الذي يُحشد المعتقلون داخله، ينز مياه قذرة، وضوئه خافت، ولا يحضر فيه سوى منفذ هوائي واحد، هو جهاز “التوربين”، غالباً ما يطفأ لمضاعفة العقاب. ثانيها، التجنيس القمعي، إذ يُستقبل المعتقلين الجدد بالشتم والضرب، قبل أن ينقلوا إلى الإفراديات، وبعدها، إلى “الجماعيات”، ويمنع عنهم الطعام والماء والكهرباء، فضلاً عن مطابقة تنفسهم مع مأكلهم، ومع قضاء حاجتهم، “كنا نقضي حاجتنا في التنفس على العلن، في ذلك المجرى، أحدهم يأكل والآخر يقضي حاجته إلى جانبه”. ثالثها، المجازاة الجسدية، من خلال نشر الأمراض والأوبئة الجلدية، فرض الوقوف والسكوت، الخنق بفعل قلة الهواء والحر الشديد، إحكام الربط بين الجلد والأرض، “وصلنا إلى مرحلة عند نهوضنا من على الأرض، يبقى الجلد ملتصقاً بها”، عبر التقرحات والخراجات، التي تشكل “جذور الأرض وصميم الألم” التي تحدث عنها البعث في نشيده. وفي هذه الجهة، يُضاف الإمتناع عن التمريض، واستبداله بالمنية البطيئة، التي يسهر الأطباء على سيّرها، خصوصاً بعد أن ظهروا على حالهم النظامية، كسلطة تعذيبية لزرع الأبد في الأعضاء المهشمة والمعطلة، “أثناء التحقيق والتعذيب يقف الأطباء فوق رأسنا، وحين نشارف على الموت يطلبون إيقاف التعذيب. الطبيب هناك جلاد، إذا طلب المعتقل المريض حبة التهاب يقوم الطبيب بضربه ما بين عشرين إلى خمسين “بورية” وهي قطعة حديد غليظة تشبه العصا، وهو يقول: انتو دواكم العصا”.

وعليه، تحل الاستراتيجية الرابعة، وهي الإجتماع البيولوجي، الذي يُحكم بالضغط والإزدحام، أي جمع الكثير من المعتقلين في حجرة ضيقة للغاية، فيجتمعون على تبادل حركة الجلوس والوقوف، أو على “شراء” حبوب الإلتهاب مقابل الخبز، وعند محاولاتهم التواصل على مستويات أخرى، يتعرضون للعقاب. هم يجتمعون مع بعضهم البعض على أساس التفرق (من الإفرادية إلى الجماعية)، وحين يقدمون على الإشتراك في شأن ما، يمنعهم النظام، الذي وحدهم قسراً، بعد أن فرقهم إكراهاً.

الآلات والآليات

هذا، بالنسبة لمكان الإجتماع، وكيفية تأبيد المحكومين داخله باستراتيجيات، تمثل “العمل السياسي” للدولة الأسدية، إذ “تسوّسهم” بفظاظة القتل المتمهلة، وبضمهم الواحد إلى الآخر، تضييقاً، وتربيطاً، بالانطلاق من تبادل بيولوجي متعلق بـ”البقاء” على قيد التنفس، الذي، في بعض الأوقات، تكون القدرة على الموت السبيل الوحيد إليه. من هنا، يصبح مفهوماً السبب، الذي يدفع السلطة إلى منع المعتقلين من الانتحار، ومعقابتهم على الخروج من الأبد عبر الموت، “أحد المعتقلين من زملكا حاول أن يشنق نفسه لكنهم اكتشفوه وضربوه ثم وضعوه في الإفرادية”. مثلما يصير مفهوماً أن يكون المشفى على عريه، كمكان اعتقالي آخر، وظيفته الأساسية هو إدامة مرض المحكومين، ومنعهم من التعافي ومن الوفاة على حد سواء، “كان المشفى عبارة عن غرفة للمعتقلين، جميع المعتقلين المرضى والمصابين مقيدين بالسلاسل، الجنازير، إلى أسرتهم. كان الأطباء يستقبلوننا بالضرب. لا يوجد علاج إلا الضرب وصب الماء البارد على جروحنا الملتهبة”. بالتالي، فليس المشفى سوى مكاناً متماثلاً مع المعتقل، الذي إن بلغه المحكوم، سيجد جلادين آخرين بانتظاره، مع تعذيب مضاعف، يمارسه الطبيب، الذي يُبعد الحياة عن الجسم، والموت أيضاً، لكي يطيل معاناته من “لا سياسة” الأبد.

على ذلك، لا فرق بين المحققين والأطباء، ولا بين باقي ممثلي السلطات ومؤسساتها، داخل المكان الأسدي، حيث الإجتماع في المعتقل، أو في المجتمع، محكوم بوسائل تعذيب، يستخدمها الجلادون، على أنواعهم، كماكينات لـ”علاج” المحكومين من الحياة والموت على حد سواء. من تلك الآلات “اللاسياسية”، التي قد يصح البحث، في ما بعد، عن موازيها في إيديولوجية الحكم البعثي وآلياته، يذكر المعتقلون الخمسة في قصتهم: بساط الريح، والدولاب، وحرق الجلد بالعصا الكهربائية أو القداحات، وإشعال أكياس النايلون وتنقيطها على الجلد، بالإضافة إلى الشبح العكسي، وتعليق كيس ماء ثقيل بالعضو الذكري وصعقه بالكهرباء، وصب الماء الساخن على الرأس، وأنبوب القارص (للاطلاع أكثر على وسائل التعذيب في السجون السورية، النقر على هذا الرابط). فتلك الماكينات، التي تتألف من أنابيب وقطع خشبية، وإطارات مطاطية، وغيرها، تحقن الأبد في الجسم، هذا، عدا عن تشابه بعضها بالحقنة نفسها، تماماً مثلما هي الحال بالنسبة للدولاب (دائرة الأبد المغلقة)، الذي يستبدله الحاكمون ببرميل الماء المكهرب أحياناً، لوضع المحكوم داخله، أو يحولونه إلى برميل متفجر للقصف به. مع الإشارة إلى استدخال الماكينة نفسها إلى المعذَب، الذي يلزمه المحقق بتعداد ضربات “البورية” عليه، “كنا نقوم بتعداد الضربات للمحقق ونحن نضرب وعندما لا نقوم بعدَ الضربة يقوم المحقق بإعادة الضرب حتى يسمع رقم الضربة”.

كل هذه الآلات تعمل تحت أرض اللاسياسة، في القبو، أو بمحاذاتها، في المشفى، لكنها، تغلظ من جديد، وتتعرى وظيفتها أكثر فوق الأرض كآليات، يتغير شكلها، وتظل على غاية التأديب والتأبيد ذاتها، التي يصر النظام عليها لأسباب تافهة، نظراً إلى درجة تشنجه العالية بعد أن خرج المحكومين عليه: “اضطررت لاختراع إبرة من شريط تربيط سميك عبر حفه بالجدار لمساعدة المعتقلين لخياطة ملابسهم الممزقة، عبر سحب الخيوط من البطانيات. فما كان من أحد العواينية المخبرين إلا أن بلّغ عني وجرى استدعائي وضربي من قبل نحو 15 عنصر، وتقرر نقلي للمنفردة من التنفس. وقد جرى كتابة اسمي بالأحمر ما يعني أنه سيتم إعدامي بتهمة محاولة تفجير الفرع بإبرة الخياطة”.

لا يمكن للمعتقل أن يمد “خيطاً” سياسياً إلى آخرٍ على الرغم من اجتماعه معه في المكان ذاته تحت مقولات وحدوية ووطنية ومجتمعية، كما يُمنع عليه أن يبتعد عن غيره، كي يبلور اختلافه عنه، ويكسر التماثل معه، فتصير علاقتهما سليمة، ذلك، أنهما مربوطان، ومرصوصان، وخائفان من بعضهما البعض، “الجماعيات الخمسة عبارة عن خمسة غرف تحت الأرض “قبو” بمساحة وسطية 3*4 أمتار، يوضع فيها ثلاثة إلى أربعة أضعاف العدد الذي تتسع له”. لا مجال للتنفس في “سوريا الأسد”، لا مجال للسياسة.

جثة تحمل جثة

هذا ما يجري تحت أرض إذاً، أما فوقها، فتتضح اللاسياسة أكثر. ففي مرحلة لاحقة من سردية “الهروب من الجحيم”، ينتقل المعتقلون الخمسة، الواحد تلو الآخر، من المعتقل إلى مساحة موقع عسكري، كي يُستعملوا في حفر وبناء الخنادق. “يسوسهم” أحد الضباط، ملقب بـ”أبو الموت”، إلى تلك الأرض، ” عندما أطل علينا قال لنا: كيف الشباب؟ قلنا له الحمد لله، قال لنا: بحب عرفكم على حالي، أنا عزرائيل، أو ليش عزرائيل، أنا الله، ستذهبون معي إلى ديار الحق، لكن باعتبار أنني الله سأطيل بأعماركم بضعة أيام. وساقنا إلى سيارة نقل صغيرة “سوزوكي” وانطلقنا”. وعندما وصلوا، جرى استخدام الوسائل التأبيدية ذاتها معهم، إذ استقبلوا بالضرب والشتم (تجنيس قمعي)، وقمعت أجسامهم بالعصي والهراوات والحرق بالقداحات وأكياس النايلون (مجازاة جسدية)، واجتمعوا بتقييدهم مع بعضهم البعض بالجنازير (ضغط الإجتماع)، “عندما كان يريد الشخص الذي في المنتصف أن يتوقف، كانت السلاسل تمنع الشخص الأول من متابعة المشي وتجرح قدمه، وكنا نتعذب فيه كثيراً، لأنه كان يسبب جروحاً في أقدامنا، وكنا نعتذر من بعضنا عند كل عملية وقوف”. مع فارق واحد فقط، أن حرمانهم من الطعام قد تراجعت حدته، لأنه يتوجب عليهم الأكل كي يعملوا أكثر، وإلا سيكون عقابهم الإعدام، وصف المقدم العملية بالتسمين وقال يجب أن تتغذوا كالخرفان حتى يتم التضحية بكم في يوم العيد”. علماً، أن الحصول على الطعام أو الماء، كان يمر إجبارياً بتقبيل حذاء “أبو الموت”، و”له الخيار في أن يسمح لنا بالشرب أو لا يسمح. الكبلات وراءنا والعساكر لديها ضوء أخضر أن تفعل ما تريد معنا وبأي شكل من التعذيب”.

فوق أرض اللاسياسة، كانت القاعدة هي التالية: “يجب أن يكون عملك متواصلاً لأنك اذا لم تعمل طوال الوقت ستفكر بالهرب”. ففي اللحظة، التي لا يقدر المعتقل فيها على نقل الأحجار الثقيلة، أو حمل أدوات الحفر، سينقل إلى جهة ما من الموقع، ويُعدم. وهذا ما حصل بالفعل لأكثر من معقل، جرى قتله قبل أن تحين ساعة اغتياله المحددة مسبقاً، إذ أخبر العسكر للمعتقلين أنهم سيستفيدون من أعمالهم، ويتسلون بهم، حتى يحل العيد. فهم محاصرون بين اغتيالين، الأول، وقته معروف، أما الثاني، فمجهول، ويهددهم على الدوام، حتى في فترة الإستراحة، التي كانوا يتعرضون خلالها للتعذيب، كي لا ينسوا أنهم ليسوا عمال، بل معتقلين، ليسوا أحياء، ولا أموات، بل مؤبدين.

إلا أن تراجع إنتاجية البعض منهم، أدى إلى إعدامهم، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بحيث نُكل بجثثهم، التي كانت إحداها جافة من الدماء، وطلب من رفاقهم، رفاق الإجتماع المجنزر، أن يحفروا لهم القبور، أو ينقلوها إلى “السوزوكي”. وفي أثناء حملهم لجثثهم، كان الجنود يضربوهم بالهراوات. على هذه الحال، تستوي اللاسياسة، عمل بلا هرب، وجثة بالضرورة (مؤجلة) تحمل جثة بالقوة (فعلية) أو تحل مكانها، بعد أن كانت قد ارتبطت بها لعقود من الزمن بفعل السلسلة الحديدية أو الوحدوية على أرضٍ، التصقت بها بفعل تقرحات الجلد، ومن ثم فُرض عليها أن تحفرها، وتبنيها لصالح النظام، يعني أن تكون وسيلة لتشييد جغرافية خنادقه وطرقاته وأمكنته الإعتقالية، وتبقى هي في ما قبل المكان واجتماعه، في مرحلة تطميش العيون والربط بالجنزير مع الغير، وفي ما قبل الموت وحياته.

في هذه الأرض، كان النظام يسوس المحكومين كأحصنة، مؤبداً خضوعها، ومروضاً إياها بالعنف العاري، وقد كانت مقدرتهم الجوانية تخبو، تتعالى، تتحول، تبحث عن سبل ممارساتها بشكل أو بآخر. لكن، لا مجال لأي منفذ في المعتقل، الانتحار- القدرة على الموت ممنوع، تخييط علاقة مع الآخر مستبعدة، الصلة مع الخارج مضبوطة إما بالتنفس القليل أو بالعمل. هكذا، بدأت قوة الأجساد تتآكل وتتغير، من حصان ملجوم ومكسور إلى سمكة ملتهبة وجائعة، بحيث أن مرض “حراشف السمك” قد انتشر في القبو، بلا أن يعرف الأطباء سببه أو نوعه، ونتيجة الألم الناتج عنه، قرر أحد المعتقلين أن يعالج نفسه بنفسه، “قررت علاج نفسي فطلبت من أحد الأشخاص أن يطيل أظافره. وعندما أصبح جاهزاً انتظرت حتى الواحدة ظهراً، وكان الطقس مثلجاً وفوقي السماء، “في التنفس”. كانت المياه مجلدة، خلعت بنطالي وعضضت على قماشة وبدأ الشخص بقلع الجلد الميت بسماكة عدة سانتميترات، وكانت الجروح تنزف وتنزف. أصبحت أصرخ من الألم، جاء السجانون وعندما شاهدوا ما يحصل، وضعوني على الدولاب”. إلى ذلك، يُضاف مرض الجوع، الذي يمنع الجسد من الشبع، ويدفعه نحو التهام كل شيء من حوله.

وهنا، لا بد من الحديث عن حضور حيواني داخل المكان الأسدي، إذ كان المعقتلون يجمعون مع الحشرات المتوزعة حولهم. وبعيداً، عن مقصد النظام-“الإنسان”، الذي ينطوي على إهانتهم، وتشبيههم بالحيوانات، ثمة ملاحظة أخرى في هذا المطاف، تتصل بالفرار وسياسته. ذلك، أن الحشرات كانت الوحيدة، التي بمقدورها أن تتحرك على منوالها في المعتقل، فوق الأجساد، وعلى الجدران، وفي الأرضية. لقد مثلت الحركة التي كان المعتقلون ممنوعين منها في المكان، قبل أن يمارسوها عندما صنعوا فعلهم السياسي والجغرافي الأول، يوم ركضوا بقوة الأحصنة الفالتة، وسبحوا بقدرة الأسماك المعاكسة للتيار المائي في المجاري الصحية… كيف وقع ذلك؟

تقدير الليل

لا شك أن غير المحتمل هائل، خصوصاً أن المنافذ معدومة، غير فسحة التنفس، التي يمكن النظر منها إلى الأعلى، إلى سماء مضبوطة هي الأخرى نظامياً، أو الحيوانات، التي تجسد حركة ممنوعة. لكن، الخروج من اللاسياسة يتطلب صناعة ممكن جديد، مجهول، بدون أن يكون عبارة عن برنامج أو خطة، فاحتمال الـ”1%”، قد يؤدي إلى إسقاط نظام “99%” الباقي، وحتى لو لم يبلغها، فليأخذ على سبيل التجربة، التي يكون التعرض للخطر خلالها أكثر حريةً من التأبد في المعتقل، وانتظار الإعدام، “النتيجة المتوقعة للنجاة أثناء الهروب فكانت بنسبة 1% أو أقل، وبعد اتخاذ قرار الهروب، وتأجيله عدة مرات، قررنا أخيراً الهروب في ليلة القدر، وكان قبلها قد جاء إلي أحد الجنود وكان من محافظة درعا، وأخبرني أنه سوف يتم اعدامي غداً أي في ليلة القدر نفسها”.

إنها ليلة القدر، الذي تقدم منه المعتقلون الخمسة، مستندين على معلومات حول النقاط العسكرية للنظام، التي تتوزع حول موقع عملهم، والتي كان أحد الضباط قد أخبرهم عنها، محذراً إياهم أنها ستكون لهم بالمرصاد في حال فكروا بالفرار. استفادوا من التحذير، وقلبوه إلى سبيل، الفعل الأول عليه، كان مشاهدة الحارس المراقب لهم وتعيينه، الثاني، انتطار نزول الليل كوقت أو مكان يحتمون داخله، والثالث، كان الإنتقال من العمل-الحفر إلى تمثيله، أو مشهدته، “قام أحدنا بعملية تمثيل للحفر، والآخر يرمي التراب ليصنع الغبار”، أما الرابع، فهو كسر جنزير الإجتماع القسري باستعمال “القازمات” (آلة حادة تُستعمل للحفر)، وتحرير بعضهم البعض. في ذلك الحين، كان الحارس يتلهى بموبايله، وما أن شغل أغنية جديدة، حتى انعكس ضوء الشاشة نحو عينيه، ما منعه من مراقبة المعتقلين، أو إدراك أن حفرهم مجرد تمثيل له. خلال تلك اللحظات القليلة، تعطلت عين النطام، الدي قدر المعتقلون على تعيينه، لأن الليل يلفهم، أصبحوا جزءاً منه، يشبهوه مثل المجهولين أو الغرباء، وراحوا يركضون في اتجاهات مختلفة، مقررين الإلتقاء في مزرعة لتربية الدواجن ضمن البساتين.

مع فرارهم، واكتشاف النظام لذلك، تعرضوا لإطلاق النار، لكنهم، لم يغيروا سبيلهم، جمحوا أكثر، وأحياناً سقطوا ليواصلوا انطلاقهم، “كنت أسقط وأقوم مجدداً ومع كل عملية سقوط كنت أعتقد بأنه تمت إصابتي بطلقات وأعيرة نارية، ولكن سرعان ما كنت أكتشف أنني لم أصب بأذى”. سبحوا كالأسماك، تحركوا على منوالهم عكس التيار المائي، إلى أن بلغوا منطقة، يحضر فيها “الجيش الحر”، الذي أطلق النار على بعضهم، وتعرف على بعضهم الآخر.

خرج هؤلاء من أرض اللاسياسة من خلال صناعة واقعة الفرار، التي ألهت النظام بتمثيل إحدى آلياته، أي العمل الشاق. لم يستندوا إلى صورة مجردة لهروبهم، بل ساسوه بخلق ممكن من غير المحتمل، العمل، الذي شاهدوه ثم مثلوه، كما صنعوا أسلحتهم، بتغير وظيفة “القازمات” لقطع سلسلة الإجتماع القسري، ثم تحركوا كالأحصنة، والأسماك، بعد أن فجروا قوتها داخلهم، متحررين من أورام الأبد، ومن ماكيناته التي لطالما سكنت أجسادهم. في تلك اللحظات، لم يكونوا سوى فارين، لا تقيدهم ذات قديمة، تتعلق بالإجتماع الضاغط (وطني وقومي أو غيره)، أو بالذعر من نتائج فقدان سلسلته الحديدية (حرب وإقتتال إلخ.)، لأنهم في طور ابداع واحدة جديدة بحسب صيرورات حيوانية أو غيرها، كما لم يخيفهم مجهول، لأنه إلى جانبهم. اعتمدوا على إحساسهم لتحيين هنيهة الهرب، دون أن يحققوا خطة مسبقة، أو يذهبون إلى محاولاتهم بخطاب من الأحكام المسبقة عليها. استراتيجة فرارهم تألفت من: إسقاط تمثل النظام بتمثيله، أي تدويمه بطريقة مزيفة، المشاهدة، تعطيل عين النظام، تحيين الممكن، تنفيذه انطلاقاً من انفعال شعوري، صناعة السلاح، والمبارحة كل واحد في جهة، على مسعى اجتماعي آخر، سمته أنه غير مجنزر، وغير مفروض بالإكراه.

هم آمنوا بالقدر، بلا أن يستسلموا له، بل عرفوا كيف يصنعوا واقعة ً في ليله، وعلى أرض الموت، الذي اكتشفوا جغرافيته، وحملهم من سياسة الأبد، أي لاسياسة “أبو الموت”، إلى سياسته. مع العلم، أنها سياسة مزروعة بالألغام، والمقولات، التي تحاصر الفارين من كل حدب وصوب.

 

الحلقة المقبلة: سياسة تفك الجنزير وتمنع المغادرة

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى