صفحات سوريةميشيل كيلو

سياسات تركيا الحائرة!


ميشيل كيلو

عند بداية الأحداث، قال رئيس الوزراء التركي السيد رجب طيب أردوغان إنه يعتبر الوضع السوري جزءا من الوضع الداخلي التركي وسيتعامل معه بصفته هذه. بعد حين، شرح أردوغان معنى كلامه، فأعلن أنه قدم منذ وقت طويل نصائح متكررة إلى صديقه وأخيه الرئيس بشار الأسد حول ضرورة القيام بإصلاح داخلي في سوريا، وزعم أنه تلقى منه وعودا بتنفيذ إصلاحات تقيم نوعا من التوافق بين الوضعين الداخليين في البلدين الجارين والشقيقين.. تقرب علاقات السلطة السورية مع شعبها من النموذج التركي القائم على الحريات والتعددية السياسية والتوجه الديمقراطي الغربي النمط، فتتعزز من خلال الإصلاح أواصرهما التي بلغت شوطا متقدما من التنسيق، ووصلت على صعيد القيادتين والشعبين إلى مستوى حميم وعائلي، الأمر الذي أعطى أردوغان حق تقديم النصح، والتدخل بقوة الشراكة الوطيدة في تفاصيل ومتطلبات الشأن السوري، خاصة أنه يشبه من نواح عديدة الشأن التركي، ويمكن لمجرياته وأزماته أن تترك أثرا جد سلبي على مشكلات إسطنبول القلقة إذن بحق من وصول الحال السوري إلى الدرجة التي بلغتها، وتجعل تدخل أردوغان ضربا من تدبير وقائي داخلي يراد منه حماية النموذج الذي يتم بناؤه على ضفاف البوسفور، وتعلق تركيا آمالها عليه في كل ما له علاقة بتخطي مشكلات حاضرها ومستقبلها.

بهذا التصريح والشرح، اعتقد كثير من المعلقين أن تركيا مرشحة لأن تكون رأس حربة التدخل الخارجي الآتي حتما في سوريا. وقد تبنى سوريون كثيرون هذه الفكرة، وزاد من رسوخ اعتقادهم هذا كثافة التصريحات التركية حول الحدث السوري وكثرة زيارات مسؤولي الترك إلى دمشق، وتعدد اتصالاتهم الهاتفية مع الرئيس الأسد ومعاونيه، وتنوع الاقتراحات التي قالوا إنهم قدموها إليه، وإعلانات نفاد الصبر التي صدرت عنهم وانتهت جميعها إلى تأكيد استحالة وقوفهم مكتوفي الأيدي حيال ما يجري في البلد المجاور. كالعادة، قرأ المحللون في الموقف التركي أبعادا استراتيجية قالوا إنها تكشف بوضوح غير مسبوق: أولا: مكانة تركيا من الغرب عامة وأميركا خاصة، وما أوكلته الأخيرة إليها من دور في نشر إسلامها المعتدل ضد مدارس الإسلام المتطرف، في إطار صفقة شاملة عقدتها أو هي في سبيلها إلى عقدها مع جماعة الإخوان المسلمين تعطيها دورا رئيسيا في مستقبل «الربيع العربي»، يعفي الغرب من تحمل العبء الرئيسي في مواجهة التطرف الديني والمذهبي، خاصة منه «البن لادني» والشيعي. وثانيا: تنافسها مع إيران على المشرق العربي عامة وسوريا خاصة. والنتيجة: حتمية قيام تركيا بشيء ما حيال الوضع السوري يضمن دور حليفها الإسلامي المعتدل، جماعة «الإخوان»، ويضعهم في موقف قريب من موقفهم في مصر وليبيا واليمن، ويخرج إيران من سوريا، التي كانت أول بلد نجحت في اختراقه والتموضع فيه، فيتم بذلك ضرب ألف عصفور بحجر واحد.

هذه السياسة، التي نسبت إلى استراتيجي تركي كبير اسمه رجب طيب أردوغان، ما لبثت أن انهارت على يديه هو بالذات، عندما أعلن خروج تركيا من الشأن السوري وعزمها على عدم التدخل فيه بعد آخر زيارة قام بها وزير خارجيته إلى دمشق.. أعلن خلالها أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي بعد مرور أسبوع واحد، إذا لم يتوقف العنف ضد المتظاهرين ويتم إصلاح يلبي مطالب الشعب. حدث الانسحاب العلني من الشأن السوري بعد تخبط لا يليق بسياسة كبيرة، صدر خلاله التصريح ونقيضه في يوم واحد، وأحيانا في ساعة واحدة، على لسان الشخص الواحد عينه. في هذه الأثناء، رمى المتظاهرون السوريون أعلام تركيا التي كانوا يحملونها باعتزاز من أيديهم، ورفعوا بدلا عنها لافتات تدين التواطؤ التركي، ثم انفجر غضبهم تماما بعد تسليم الضابط المنشق محمود الهرموش إلى السلطات السورية، الذي بدا أنه يقلب الموقف التركي رأسا على عقب، أو بالأصح يظهره على حقيقته، بعد أن شجع المتظاهرين وقدم وعودا قاطعة بدعمهم، وقال كلمات لا تحتمل اللبس بأنه يقف معهم بعد أن قطع علاقاته مع النظام، وتبين الآن أنها تحتمل الكثير من اللبس، وتمثل هي ذاتها التباسا كبيرا يعتقدون أنه قد يكون جزءا من فخ نصبه الغرب والعرب لهم، بدأ بتشجيعهم على تصعيد تمردهم وبإطلاق تهديدات يومية صارمة ضد النظام، قبل أن يتخلى الجميع عنهم ويعلنوا بصراحة وفي فترات متزامنة أو متقاربة رفضهم القيام بأي تدخل لنصرتهم، الأمر الذي انعكس على هتافاتهم، التي كررت كثيرا خلال الشهرين الماضيين القول: يا الله ما لنا غيرك يا الله!.

أين غاب حليف الشعب السوري، الذي أعلن نفسه ضامنا لأمنه ومدافعا عنه في وجه العنف الذي يتعرض له؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه سوريون كثيرون يعتقدون أن تركيا خانتهم، وأن رئيس وزرائها، الذي ألزم نفسه بخيار استراتيجي هو دعم الربيع العربي عامة والسوري خاصة، لم يكن في الحقيقة غير «مختار» قروي غرق في مستنقع الأزمة، بما أنه تخبط بين سياستين متناقضتين تماما، انتهتا إلى خروجه بصورة تكاد تكون تامة من الحدث السوري، وها هو يتراجع في الأيام الأخيرة حتى عن علاقاته مع المجلس الوطني السوري، التنظيم المعارض الذي بدا أن تركيا عملت، أو ساعدت، على نشوئه، وأصدرت بالأمس إعلانا يقول إن وفدا منه قابل نائب وزير الخارجية التركي، وهو إعلان يثير الدهشة، بالنظر إلى أن عددا كبيرا من أعضاء المجلس يعيشون في إسطنبول.. فهل أخذت السياسة التركية تتبنى موقفا يشبه موقف روسيا، الذي ينأى بنفسه عن المعارضة السورية، لكنه يسمح لأشخاص شبه رسميين أو من مستويات دنيا في الحكومة باستقبال ممثلين لها بين فينة وأخرى، دون أن يلزم نفسه بأي شيء حيالها!.

بين رغبة في الالتحاق بأوروبا لم تتحقق إلى الآن، ووقوف مع القذافي ضد الشعب في ليبيا ثم مع الشعب ضد القذافي، بحماسة مفرطة ومتأخرة، ومع الشعب السوري في بداية الأحداث ثم على الهامش بعد أشهر على وقوعها، وبين الرغبة في أن تكون دولة بلا مشكلات مع جيرانها، ودولة يلعب هؤلاء بمشكلاتها خاصة منها المشكلة الكردية، تبدو السياسة التركية ضائعة أو دون خيارات استراتيجية، على عكس ما كان يقال ويظن غالبا في بلداننا العربية. وتعاني الدولة التي تريد أن تصير قوة كبرى من نقيصة أهلكت من فشلوا قبلها في بلوغ وضع قوى عظمى، خاصة منها الاتحاد السوفياتي، هي افتقارهم إلى سياسة عليا متماسكة وعظمى حقا، وغرقهم في سياسات إجرائية، تكتيكية الطابع، لا تصنع دولا ولا تخدم مصالح كبرى، إلا إذا كان ما نراه مجرد خداع، وكان الظاهر من دور تركيا ليس دورها الحقيقي، كما يظن المعجبون بها. في هذه الحال، سنكون أمام دور سيأتي في توقيت غير صحيح، يرجح أن يكون مرشحا بدوره لفشل أكيد!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى