صفحات الناسوليد بركسية

“سي إن إن” في خان شيخون.. فليطأطئ العالَم رأسه/ وليد بركسية

 

 

“مذهل إلى حد مروع”  هو الوصف الأكثر دقة الذي يلائم التقرير الحصري الذي بثته قناة “سي إن إن” الأميركية حول الهجوم الكيماوي في خان شيخون، والذي أعادت به ذكريات المجزرة المروعة بعد أكثر من شهر على حدوثها، بصور ومقاطع جديدة تظهر للمرة الأولى، وتثبت أن المجزرة حدثت فعلاً لكل من بقي لديه شك بحصولها.

التقرير يحمل عنوان “يلهثون من أجل الحياة”، وتصعب متابعته حتى النهاية بسبب الألم الذي يعتصر القلب مع كل لقطة تظهر طفلاً يختنق أو جثة تدفن أو ناجياً يبكي أفراد عائلته الذين قتلوا بدم بارد وقسوة، والأطفال الذين عرف العالم صورهم الثابتة بعدما فارقوا الحياة يوم حدوث المجزرة، يشاهدهم المتابع للتقرير قبيل وفاتهم: تقترب منهم الكاميرا وتصورهم لحظة الموت، وترصد صوت الاختناق المؤلم وهم لا يستطيعون التنفس.

لا يرصد التقرير المجزرة، فبعد كل هذا الوقت على حدوثها في 4 نيسان/أبريل الماضي، يبدو التقرير وكأنه يرصد القسوة التي نفذت بها فقط، كتذكير بأن المأساة الإنسانية في سوريا ما زالت مستمرة وتزداد البربرية المرافقة لها مع مرور كل ثانية تنقضي من دون حل سياسي جذري لها. يتجلى ذلك بوضوح في ما تقوله مراسلة القناة كلاريسا وارد بصوت ثابت لا يهتز: “ليس رحمة، ولا موت سريعاً، ولا كرامة في تلك اللحظات الأخيرة، الضحايا يفقدون السيطرة على كلياتهم، وعلى الزبد الذي يعلو أفواههم، ويتقلّبون على الأرض ألماً بينما تستنزف الحياة منهم”.

وارد التي قدمت كثيراً من التقارير عن سوريا، سافرت مرات عديدة إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وقدمت العديد من التغطيات كما تقول في مقطع فيديو منفصل، عرضته القناة مع تقرير مكتوب لتوضح رسالتها وهدفها من بث الفيديو الذي قد يراه كثيرون مروعاً ومؤلماً وصادماً حتى لو كان مرفقاً بعبارة تحذيرية من قسوة المشاهد. وتقول وارد أنها رأت الموت والدمار ومقتل الأطفال كثيراً، لكن هناك شيئاً مرعباً بخصوص صور خان شيخون يصعب تقبله، شيئاً يظل يطارد المرء بشكل فريد عند رؤية الأنفاس الأخيرة لأشخاص أبرياء.

من الصعب جداً متابعة التقرير حتى نهايته، وكثيرون قد يرفضون مشاهدته بناء على التحذير المرافق له، لكن ذلك الترف بالتحديد هو ما تحذر منه القناة، لأن على العالم أن يفتح عينيه على اتساعهما ليشهد على ما حدث في خان شيخون وعليه أن يسمع الأنفاس الأخيرة لمن ماتوا والشهقات الأخيرة للأطفال الـ33 الذين دفنوا، والصرخات لمن بقوا على قيد الحياة. أحدهم فقد 20 فرداً من عائلته دفعة واحدة، ويرصده التقارير وهو يدفنهم ويبكي أمام قبورهم، فيما يظهر أحد الناجين الذين أنقذهم الفريق الطبي في المشفى الميداني البدائي ليروي ما شعر به خلال الاختلاجات التي أصيب بها والتي ترصدها الكاميرا في وقت سابق.

تبدو من خارج السياق، اليوم، إثارة مواضيع مثل أخلاقيات الإعلام في وجه القناة، من أجل التساؤل المترف حول إن كان يحق لقناة تلفزيونية أن تعرض صوراً مروعة لهذه الدرجة أم لا، وإن كان هذا تعدياً على حرمة الموت والأجساد التي تلفظ أنفاسها الأخيرة وتقريب اللقطات لرصد الرغوة البيضاء والتشنجات والاختلاجات للضحايا ودفن الجثث والأشلاء المتناثرة. هو جدل ظهر في بعض التدوينات الأميركية وبعض التغريدات في “تويتر” بعد عرض القناة للتقرير الحصري، ومن نافل القول أن “سي إن إن” ليست المسؤولة عن وجود تلك الصور بل المسؤول هو النظام السوري الذي ارتكبها في الواقع، والعالم يتفرج من دون أن ينظر.

التقرير يذكّر بما يجب أن تكون عليه الصحافة أصلاً: مهنة شجاعة ونبيلة في وجه مرتكبي الجرائم، فالتوثيق بهذه الدرجة من الحساسية والثبات رغم فظاعة الجريمة هو قمة الالتزام بأخلاقيات المهنة وروحيتها، خاصة أن المراسلة مثلاً لن تستطيع أن تقدم شيئاً للضحايا سوى تصويرهم ونقل قصتهم للعالم كي تحدث أثراً ما، على أمل محاسبة من قام بقتلهم يوماً ما، وعليه فإن الإشادة واجبة للقناة ولمراسلتها وارد وفريق مركز “حلب الإعلامي” الذي ساعدها في إعداد التقرير بهذه الحرفية وبهذا الالتزام لنقل الحقيقة مهما كانت قاسية لدرجة لا يرغب أحد بمعرفتها.

أهمية التقرير تزداد لكونه يوضح عن قرب شديد ما هي جريمة الحرب وما هي الجريمة ضد الإنسانية، وهما مصطلحان نظريان يتكرران كل أسبوع في سوريا منذ العام 2011. وهنا يميل التقرير للتجريد والتعرية والتصوير القاسي لتقديم ذلك المعنى للمشاهدين حتى لو كانوا غير راغبين في تلقيه، لعل ذلك يساهم في تغيير ما يحدث في سوريا من جرائم وقحة يقوم بها النظام وحلفاؤه لأن العالم بكل بساطة يدير بوجهه كي لا يرى ما يحدث “لأنه لا يستطيع النوم بهناء في الليل إن تحصل على تلك المعرفة”.

ولا يمكن إغفال الجانب المحلي للتقرير، أي توجهه للرأي العام الأميركي الرافض للضربة العسكرية التي قامت بها الإدارة الأميركية كعقاب للنظام السوري إثر المجزرة البربرية، وهي رسالة تحديداً لمؤيدي ترامب الرافضين للقيام بعمليات عسكرية أميركية تعارض سياسة “أميركا أولاً” التي كانت السبب وراء تصويتهم للرئيس دونالد ترامب أساساً، في وقت ما زالت فيه الإدارة الأميركية تهمل حقوق الإنسان ضمن سياستها الخارجية، قبل المجزرة وبعدها، لأن ترامب قام بضربته كي يتميز عن سلفه باراك أوباما فقط، من دون أن يكمل سياسته بصرامة لإيقاف بقية الانتهاكات التي يقوم بها النظام وحلفاؤه بالأسلحة الكيماوية أو التقليدية أيضاً.

وهكذا يصبح التقرير توثيقاً جديداً لرسالة النظام والمعبّر عنها بالفعل، دون الكلمات التي نقول بمحاربة “الارهاب”: “نحن سنقصف مستشفياتكم، أسواقكم، مخابزكم، ومدارسكم؛ سنقتل أطفالكم، أمهاتكم، وإخوانكم؛ سنجوّع، ونسجن، ونعذّب، ونخنق بالغاز، حتّى لا يعود ممكناً لأي حياة أن تكون في تلك المناطق”، وهي الترجمة المريعة لعبارة خطها أحد الموالين للنظام على جدران ضاحية دمشقية “الجوع أو الخضوع (للأسد)”.

المدن

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى