صفحات مميزةمازن أكثم سليمان

سُوريّة: هُوِيّة الوَحدة أم وَحدة الهُوِيّة؟/ د. مازن أكثم سليمان

 

 

لم يكن سؤال الهُوِيّة السُّوريّة وحتّى العربيّة مُلحّاً ومُركَّباً وقلِقاً كما هو في هذه الحقبة التّاريخيّة المُعقّدة، ولا سيما في ضوء التّشظِّي السِّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي يشهده العالم العربيّ، مُتمثلاً على نحوٍ خاص بالصراعات الداخلية مُتعدِّدة المُستويات، والتي تنطوي على أبعاد إثنيّة وعرقيّة وطائفيّة حقيقيّة أو مُصطنَعة، فضلاً عن تشابُك غير مَسبوق بين القضايا المحليّة والإقليميّة والدوليّة.

أنْ ننتمي لا يعني أنْ ننفيَ الخُصوصيّة، لا على المُستوى الفرديّ، ولا على المُستوى الجمعيّ. الاختلاف حقّ ضروريّ من ناحية أُولى، وحقّ حتميّ تفرضه طبيعة الحياة من ناحية ثانية، وانتفاؤه أو مُحاوَلة نفيه تجلب الويلات والكوارث والخراب، ولهذا فإنَّ التَّجذُّر في المكان لا يعني الانتماء البحت إلى جغرافيا مُحدَّدة، إنّما يستمدُّ ماهيَّته من المَحمول الزَّمانيّ الذي يتحرّك مدلولياً في كل الاتّجاهات، ذلك أنَّ المكان مُشتقّ من الجذر اللُّغويّ (كَوَنَ)، ومُفردة كَوَنَ تعني الانفتاح على الكينونة، والكينونة روح الذّات المُتحرّكة حياةً وعمَلاً وثقافةً وإبداعاً، فالمكان مَوْضِع لكينونة الشّيء فيه، والكاف والواو والنون أصلٌ يدلُّ على الإخبار عن حُدوث شيء، إمّا في زمنٍ ماضٍ، أو في زمنٍ حاضر، أو استباقاً نحو المُستقبَل بلُغة الفلسفة المُعاصِرة، وحُلول الزّمانيّ في المكانيّ يُحوِّلُ الانتماء إلى صَيرورة لا مُراوَحة، ويُنهي التقابُلَ الحدّيَّ بين الوفاء والخيانة؛ إذ إنَّ أي ائتلاف لا ينبع إلا من الاختلاف بوصفه انفتاحاً مُستمرّاً وحواراً مُتوالِداً لا يُذعن لجواب حاسِم نهائيّ يُغلق أسئلة الرّاهن الآنيّ أو الكُلِّيَ التّاريخيّ على حدٍّ سواء.

يُقال إنَّ سُوريّة عرفَتْ عبر تاريخها المُوغِل في القدَم حرباً أو حدَثاً جللاً كل سبعة عشر عاماً، ومن المُؤكَّد أنَّ موقعَها الجغرافيّ بقدر ما أنعمَ عليها بالغنى الحضاريّ والتنوُّع والتّعدُّد، جلَبَ لها الكوارث والدّمار والحُروب، وعلى الرغم من ذلك احتفظ شعبُها على مرّ التّاريخ بقُدرة ديناميكيّة نادرة على التجدُّد والاستمرار، وكانت هذه القُدرة سمة جوهريّة من سماته الهُوِيّاتيّة بوصفها شكَّلَتْ طاقة براغماتيّة حضاريّة خلّاقة تساعد على التّأقلم السَّريع مع التحوُّلات الكثيفة والمُتعاقبة، وهذا باعتقادي مَثَّلَ عاملَ ضعفٍ من جانبٍ أوّل على مُستوى عدم استقرار النّسيج الظّاهريّ للهُوِيّة السُّوريّة، وعاملَ قوّة من جانبٍ ثانٍ على مُستوى حركيّة البِنية الدّاخليّة العميقة لهذه الهُوِيّة، وهي المَسألة التي تعني بدلالةٍ مفتوحة أنَّ الهُوِيّة السُّوريّة لطالما ظلّت مُحتفِظة بطزاجة البَحث وحرارة التّساؤل وحيوية التّجدُّد والاختلاف.

شكَّكَ المُفكِّر السُّوريّ الرّاحل أنطون مقدسيّ في أحد حواراته الأخيرة (حوار أجراه معه الصَّحفي راشد عيسى في جريدة السَّفير اللُّبنانيّة) بنهائيّة الكيان السُّوريّ الحالي، مُتكئاً على التّساؤل حول مدى شرعيّة اتفاقيات سايكس _ بيكو التّقسيميّة، ويبدو أن معظم السُّوريِّين الآن _وفي ظلّ الأحداث المُزلزِلة التي تشهدُها سُوريّة_ يدعونَ إلى التَّمسُّك على الأقلّ بالموجود بوصفه كياناً سياسيّاً مُكتسَباً ينبغي عدم التّفريط به وخسارته، وهو أمرٌ مفهومٌ ومُسَوَّغ إلى أبعد الحدود، مع الإشارة إلى أنَّ هذا الاعتقاد يُعلِّقُ من زاوية الواقعيّة السياسيّة الحاليّة ذلكَ البُعد الهُوِيّاتيّ المُضمَر من دون أن يُلغيه، والمُتمثِّل بمُحاوَرة الهُوِيّة السُّوريّة ليسَ انطلاقاً من حُدودها الوضعيّة السِّياسيّة، إنّما انطلاقاً من امتداداتها التّاريخيّة الطّبيعيّة (أي بصفتها تعني هُوِيّة بلاد الشّام).

وتبدو مُقارَبة مَفاهيم الهُوِيّة السُّوريّة عند السُّوريِّين مسألة شديدة التّركيب والتّشابُك، ولا سيما إذا تتبَّعَ الباحث الخلفيّة الإيديولوجيّة التي انبثقتْ عنها الأحزاب السِّياسيّة السُّوريّة منذ النّصف الأوّل في القرن العشرين، إنْ لم نقل إنَّ الأمرَ يعود في جُذوره إلى مرحلة ما دُعِيَ بـِ “النَّهضة العربيّة” وظُهور الجمعيّات والتّيّارات الأهليّة والثّقافيّة والسِّياسيّة المُختلفة، لكنَّ نظرةً مُتفحِّصة في مَنحىً آخَر يُمكِنُ أنْ تُعطي صورةً أوّليّة تُظهِرُ أنَّ الخلافات حول الهُوِيّة السُّوريّة تبدأ انطلاقاً من اسم الدولة نفْسها، ولا أقصد هُنا مسألة وضع صفة (العربيّة) للجمهوريّة السُّوريّة فحسب؛ إنّما أقصد ما هو أبعد من هذا المُستوى السِّياسيّ إلى ما هو تاريخيّ حضاريّ، إذ إنَّ هناك خلافاً حادّاً بين الآثاريّين والمُؤرّخين حول اسم سُوريّة: هل نكتبُهُ بالتّاء المربوطة أم بالألف الممدودة؟ فالبعض يعتمدُ في التّسمية على قواعد اللُّغة العربيّة، فينظر إليها بوصفها اسم علم أعجميّ تُكتَب بالألف الممدودة، بينما يرى آخرون أنَّ اسم سُوريّة هو صفة مُؤنّثة في اللُّغة الآراميّة للأمّ السُّوريّة الكُبرى “الرَّبّة عشتار”، وتعني هذه الصِّفة “السَّيِّدة”، وهيَ ذات مَدلول دينيّ تقديسيّ، ويعني لفظ السُّوريّ في التّاريخ القديم “السَّيِّد”، ويدعو هذا الاتجاه إلى أنْ تُكتَب سُوريّة بالتّاء المربوطة، مع الإشارة إلى أنَّ الدّستور السُّوريّ يعتمد كلمة (سُوريّة) بالتاء المربوطة.

ومن الواضح أنَّ جذور هذا الخلاف حول التّسمية ترتبط عميقاً بسُؤال الهُوِيّة العربيّة لسُوريّة، وهل عروبة سُوريّة هي وليدة الإسلام فحسب، أم إنّها تمتدّ في أغوار التّاريخ السُّوريّ القديم كما يُنقَلُ عن عددٍ غير قليل من الباحثين والمُؤرِّخين الغربيّين قبل العرب! ويعكسُ هذا الخلاف أيضاً مستوىً آخَر من صراعات الهُوِيّة يتعلّقُ بالهُوِيّة الوثنيّة لسُوريّة ومَضامينها الثّقافيّة والفنِّيّة، والهُوِيّة التّوحيديّة ومَضامينها العقائديّة والتّشريعيّة، من دون أن نتناسى الخلاف الهُوِيّاتي المُضمَر _والذي نجمِّلُهُ دائماً_ بينَ سُوريّة المسيحيّة وسُوريّة الإسلاميّة، فسُوريّة كما كانت مهد الإسلام، ومُنطلقه إلى العالم، كانت مهد المسيحيّة، ومنطلقها إلى العالم، والصِّراعُ هُنا قد يغتني وينفتح على آفاق رحبة إذا تجاوَزنا الفكرة القاصِرة المُتعلِّقة بالأصل والفرع، وقرأنا الدِّيانات التّوحيديّة في مُستوىً من مُستوياتها المَعرفيّة انطلاقاً من علاقتها الخصبة مع البِنى الثّقافيّة والسَّرديّات الثّرّة والشّعائر الوثنيّة التي سبَقَتها.

شكَّلَتْ مُكتشَفات حضارة “آلالاخ” التي كانت عاصمتُها حلب والعائدة إلى ثلاثة آلاف عام قبلَ الميلاد، وكذلكَ مكتبة مدينة “إيبلا” الأثريّة المُكتشَفة عام 1974 (والواقعة أيضاً في محافظة حلب شمال سُوريّة)، تحوُّلاً جذرياً ثوريّاً في قراءة تاريخ سُوريّة والمنطقة وكامل العالم القديم كما يُنقَل عن باحثين آثاريِّين وتاريخيِّين كثيرين سُوريين وأجانب، فقد وُجِدَ في هذه المكتبة خمسة عشر ألف لوح وقطعة تعود إلى مُنتصَف الألف الثالث قبل الميلاد، وهيَ تُبيِّنُ عشرات الحقائق التي كانَ مسكوتاً عنها، وتسدُّ عدداً كبيراً من الفَجوات والانقطاعات التّاريخيّة التي كانت مَجهولة التّفسير، وممّا يلفتُ الانتباه في مُكتشفات “إيبلا” هو وُرود نصوص كثيرة تذكُر مصطلح (العرب) بحروف مسماريّة لأوّل مرّة في التاريخ كما يقول الباحث التاريخيّ والآثاريّ عامر رشيد مبيِّض؛ كما تذهبُ التقارير العلمية لبعثة الآثار الإيطالية التي قرأتْ هذه النصوص، وفي مقدِّمة أعضائها الآثاريّ الكبير باولو ماتييه إلى القول إنَّ: “نصوص إيبلا 2450 ق.م جنوب حلب أقدم ثقافة عربية في التاريخ”، وهي المَسألة التي يصعبُ القفز فوقها أو تناسيها ببساطة؛ إنّما ينبغي إخضاعُها ذاتياً ومَوضوعيّاً للبَحث والتّدقيق، وقراءة العروبة (ثقافيّاً) بوصفها قراءة مُجاوِزة للإيديولوجيّات الضّيّقة، وللمُسَبَّقات العُنصريّة والعصبيّة المُغلَقة، فمن أخطر القضايا التي يُمكِن أنْ يُبنى عليها نفيُ الآخَر وازدواجيّةُ المعايير وأفعالُ القمع والاضطهاد هي قضية بناء سياسات (الهُوِيّة) على الحقّ التّاريخيّ البحت بعيداً عن فَهم التاريخ بوصفه حركيّة ديناميكيّة مُتحوِّلة ومُنفتِحة على المُستقبَل وقابلة للتَّجدُّد باستمرار.

إنَّ الهُوِيّة في بعد من أبعادها العميقة ليستْ سوى تحدٍّ وجوديّ جميل ينقل حياة الإنسان من الوجود الزّائف إلى الوجود الأصيل بوصفه يسبق الماهيّة حسب تعبير هيدغر، ويُحوِّلُ إقامةَ الإنسان على الأرض إلى سكنٍ وبناءٍ وإبداعٍ، والمَسكنُ بمعناه الواسِع روحُ الحضارة، وروحُ المَسكن هو الحُرّيّة في مُمارَسة فنّ العيش بما هوَ فنّ فَهمِ الوجود والحوار معه وإعلاء شأن الإنسان فيه، لهذا لا تبدو الهُوِيّة السُّوريّة بهذا التأويل حبيسة صراعات الماضي، بقدر ما هيَ ابنة اللَّحظة العصريّة ومُستجدّات الحياة والوجود في العالم. والقطيعة مع أوهام الفكر البالي القديم _التي يدعو إليها كثيرون_ لا تنشأ إلا عبر فَهمٍ تأويليّ جديد يُعيد توظيف كل تراكُمات التاريخ توظيفاً بنّاءً يهدف إلى التّطلُّع نحوَ المُستقبَل، وهيَ المَسألة التي ينبغي ألّا تنطلق من شعور إقصائيّ أو اغترابيّ مُسَبَّق، على أنْ نعيَ دائماً أنَّ الهُوِيّة ليستْ سُؤالاً تملُّكيّاً احتكاريّاً بالمَعنى البشريّ الكونيّ، ولا سيما في عصر العولمة وثورة الرقميّات والمَعلوماتيّة الرّاهنة، فالهُوِيّة الأمريكيّة مثلاً ليستْ شأناً أمريكيّاً بحتاً مهما كانت خُصوصيّة هذا الموضوع الوطنيّة أو القوميّة، فما بالُنا الآن بالهُوِيّة السُّوريّة التي تشتَّتَ شعبُها في أصقاع المَعمورة في السَّنوات الأخيرة، فضلاً عن أنَّنا مهما حاوَلنا التَّخفُّف من ثقل التّاريخ، سنظلّ محكومينَ بضرورة تعشيق الدَّلالة دائماً بالأبعاد الحضاريّة للإرث التّاريخيّ السُّوريّ العظيم، والذي دفعَ عالم آثار ومُؤرِّخ كبير كالفرنسيّ أندريه بارو إلى القول: “إنَّ لكُلّ إنسان في العالم وطنان: وطنه الأصليّ وسُوريّة”.

وهكذا، تبقى الهُوِيّة السُّوريّة مدارَ بحثٍ وتساؤلٍ حثيث، ليسَ لأنّنا الآن أمام انفجار تاريخيّ عنيف فحسب، إنّما لأنَّ هذه الهُوِيّة مُستمدّة من الحياة، ومُستمرّة ما دامت الحياة مُستمرّة، وإذا اتكأنا في هذا السِّياق على فلسفة الاختلاف، يُمكِنُ أن نقولَ إنَّ الهُوِيّة القويّة ليستْ هي الهُوِيّة المُغلَقة والسّاكِنة، لكنَّها الهُوِيّة التي تستطيع أنْ تعرفَ نفسَها عبر تباعُداتها وتمزُّقاتها وانفتاحاتها الحُرّة على تحوّلات غير مُنتهية، من دون أنْ نغفلَ في هذا الإطار وجودَ ضرورةٍ مُلحّة في هذه المرحلة لخَلْق عقدٍ وطنيّ واجتماعيّ سُوريّ جديد ينقلُ البِنى الثقافيّة والحضاريّة السُّوريّة انتقالاً عصريّاً من هُوِيّة الوَحدة الطّامِسة للتَّنوُّع والتَّعدُّد والاختلاف، إلى وَحدة الهُوِيّة بوصفها وَحدة الانتماء إلى الصّيرورة والتَّغيُّر والإبداع والجَمال؛ بمعنى أنَّهُ من الحتميّ _إنْ كُنّا ما زلنا نحرصُ على الهُوِيّة السوريّة والوطن السوريّ_ أنْ نُوجدَ عقداً ديناميكيّاً جديداً ينزاح بالعلاقة بينَ المُكوِّنات السُّوريّة المُتنوِّعة من حالة التَّقابُلات الثُّنائيّة المَركزيّة والجوهرانيّة المُتضادّة والمُتناحِرة، إلى حالة التَّفاعُل والبِناء والخَلْق. إنَّ هذا الانزياح هوَ الهُوِيّة التي ينبغي أنْ نخترعَها اليوم إنْ كُنّا نشكُّ بوجودِها منذ سالف الأزمان، أو كُنّا قد أخطأنا في إدارتها والاستفادة من إيجابيّاتها الأصيلة، سواء أكانت سُوريّة ستظلُّ مُحتفظة بحُدودها الرّاهِنة _وهوَ ما أميلُ إلى الثِّقة به_ أم لم تحتفظ بها.

صفحات سورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى