جهاد صالحصفحات سورية

شباب سوريا من واشنطن: نعيش ملحمة الحرية ونرسم تفاصيلها بأصابع بيضاء


واشنطن ـ جهاد صالح

من منفى إلى منفى، ومن مهجر إلى مهجر، يسيرون مع حقائب الحزن والأمل، توقفوا منذ آذار في مسامات الجغرافيا والزمن، يصنعون تاريخاً جديداً لوطنهم سوريا، يكسرون اكسير الحياة وصمت الجدران، يصرخون أمام البيت الأبيض كل نهار، نستحق الحياة والحرية، وفي مساء كل سبت يشعلون شموعاً في ليل واشنطن، يضيئون الاسفلت الجامد بأسماء الوطن والحرية والإنسان والثورة. حتى بات الأميركيون يدركون معنى أن تكون الحرية خبز السوري وملحه في كل مكان.

هي حفيدة الفنانة المتميزة منى واصف، وإبنة لوالدين حملا قضية الحريات وحقوق الإنسان على صهوة أحصنتهم، فكان والدها عمار عبدالحميد أول سوري يشهد ضد جرائم النظام السوري في مجلس حقوق الإنسان بالكونغرس الأميركي. (علا عبد الحميد) بصوتها الطفولي وبراءئتها السورية تسرد من عينيها حكاية الثورة وعنفوانها، باقتراب روحاني، رغم وجع الجغرافيا وطول المسافة:

عندما شاهدت أول فيديو تم نشره على الانترنت في 15 آذار للشباب السوري في قلب دمشق يقولون فيه “حرامية حرامية” اقشعرّ جسمي وأحسست أنني في حلم رغم صغر عدد المحتجين في ذلك اليوم. مرت أسابيع وشهور وكأنها البارحة وأنا أشاهد الملايين من السوريين يخرجون مطالبين بالحرية وبحقهم بالحياة.

إنها ثورة الكرامة. كانت بالنسبة لي مفاجأة أن أرى الشباب السوري يخرج للموت بصدور عارية. المفاجأة كانت في التوقيت وليس الفعل، لأنني كنت على ثقة دائمة طوال سنوات عديدة أن الشعب السوري شعب حر وكريم، وقد أثبتنا نحن الشباب أن الشعب السوري “ما بينذل”. عبر سنوات عدة منذ سنة 2002 والتحضير لاستعادة كرامة وحرية الشعب السوري من النظام الأسدي الفاسد الوحشي تقوم به مجموعة من الشباب الناشطين الذين تعرض الكثير منهم للاعتقال والتعذيب فقط لأنهم يطالبون بالكرامة والحرية.

من النشاطات الهامة الأولى التي برزت كان برنامج الخطوة الأولى برعاية مؤسسة ثروة، حيث تم بثّ البرنامج على شاشات التلفاز في سنة 2009 بعد سنوات من التحضير ليتخصص بقضايا الشباب وطرق بناء مجتمع مدني سوري، وليطرح مشكلات بلدنا الحبيب سوريا. وما كنا نتوصل إليه في نهاية كل حلقة، أن نظام الأسد الديكتاتوري وحزب البعث هما سبب ما يعاني منه الشعب السوري، وأن إنهاء حكم الأسد الذي يعتقد نفسه سيستمر للأبد هو الحل الوحيد لبناء سوريا الجديدة. سوريا الحرية… سوريا الياسمين.

وفعلاً اليوم نرى كيف أن سوريا بكل رقعة فيها تنبض وتنادي بالحرية وليس فقط بإسقاط النظام، ولكن أيضاً بإعدام الرئيس المجرم. عندما قام المجرمون (الجيش والشبيحة) باقتحام مدينة درعا وبمحاصرتها وقتل شبابها وتعذيب أطفالها سارعنا هنا نحن، المنفيين في واشنطن، أنا وعائلتي والأصدقاء، للتظاهر أمام كل من السفارة السورية والبيت الأبيض دعماً لشباب الداخل الأحرار. لم أستطع إلا بالبكاء أمام أعين الجميع وأنا أردد كلمات الثوار في داخل سوريا الحبيبة “الشعب السوري ما بينذل” وأيضاً “ما في خوف بعد اليوم” وأيضاً “الشعب يريد إسقاط النظام”، نعم لقد كسرنا حاجز الخوف… نعم لقد قلنا حرية.. نعم يا أيها العالم.

لم تكن تلك التظاهرة الأولى التي نقوم بها في واشنطن لكنها كانت أروع يوم في حياتي لأنني رددت ما قاله الثوار عندما نزلوا الى شوارع سوريا للمرة الأولى بعد أكثر من أربعين عاماً من القمع. لقد أحسست بوجعهم وأحسست للمرة الأولى أن الشعب السوري مهما شرّده النظام في أنحاء الأرض أو نفاه، أو اعتقله، أو قتل أبناءه، هو شعب واحد، شعب حر… كانت تلك المظاهرة الأولى التي أردد فيها “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.

النظام سقط منذ خروج الثوار إلى الشارع، ولكنها مسألة وقت، أكرر أن من احتكر سوريا وسماها باسمه هو كيان وحشي فاشي مصيره الانهيار. وهذا ما نراه بأعيننا يوماً بعد يوم والدليل على ذلك هو استخدام العنف والإجرام بحق الشعب السوري الذي يأمر به بشار الأسد ظناً منه أنه يستطيع قمع صوت الحرية. لكن هذا المتوحش يعيش في قوقعة أحلامه الإجرامية، وعندما يستيقظ سيرى نفسه خلف القضبان ينتظر حكم الشعب السوري وعدالته. أنا على ثقة كبيرة بشبابنا بالداخل لأنهم أثبتوا للعالم أنهم أحرار وأصحاب كرامة وحق.. أرى سوريا المستقبل، سوريا الياسمين، سوريا حبيبتنا بلداً حراً قوياً ديموقراطياً يحكمه القانون والمساواة.. يبنيه الحب والفرح والأمل والانتماء.. شبابنا من صميم الألم رسموا على وجوههم الضحكات، ومن صميم الألم تحدوا الظلم… سوريا المستقبل والحياة والحب والنور، هي سوريا الجديدة بفضلهم وبفضل كل من دعم ولو بكلمة حب عبر آلاف الأميال.

نحن شباب سوريا.. نحن مشروع الحياة

أيضاً كان للفن والألوان حضورها في عرس الحرية والثورة. الفنان التشكيلي السوري لقمان أحمد، وقف ذات صباح أمام البيت الأبيض عارضاً للشعب الأميركي لوحات تعكس قهر الإنسان السوري، وجنوحه رغم ثقافة الموت والألم للحرية والمدنية، فكانت مراياه بيضاء، نقية، جسّدت هول اللحظة بين الموت والحياة، وبين الأسود والأبيض، وحماماته المسالمة تمزق بأجنحتها الرصاص لتكون لوحة واحدة هي لوحة الحياة والحرية:

الفن يبقى محركاً أساسياً في نقل المجتمعات إلى الديموقراطية لأن الفن مبني على مفهوم الحرية بكل معاييرها، والوطن، حينما يغدو سجناً، يتحرك الفن لخرق هذا السجن وجعله مكاناً للتعبير عن هذا المفهوم. لهذا أحاول اختزال الحدث إلى شكل ولون ليتسنى للمشاهد الغريب أن يتفحص هذا السجن بعمق أكثر ويرى كيف تتحوّل الأحداث إلى مرئيات مرمزة وإلى شواهد مباشرة للمعاناة في ظل القمع.

هو الكائن البشري المشترك في حركته ضمن التاريخ نحو فضاء الحرية أينما كان. نحن هنا وهناك معاً تحت الدمار والأمل، ننقل رغباتنا إلى الآخر ليتعرف أكثر بأننا فقط نحلم بالحرية بشكل غرافيكي مرمز. نقلت مدن سوريا إلى قلب الصفحة البيضاء لأقول للآخرين هناك من يهتم للوجع والأمل.

التعبير الفني هاجس المستبد لأنه قادر على الانفلات من سجنه وعلى مخاطبة الكون من دون لغة، فقط شاهد وتأمل لتعرف أكثر عن عمق المعاناة.

سوريا هي المساحة التي تجمعنا في سياق المواطنة ومن حقنا أن نفتح بابها للريح ونبصر الضوء أينما كنا سنرفدها بحبنا وإبداعنا.

كرديتي في وطنيتي والإثنان في إنساني الحالم والساعي للحرية.. هي غالية هذه الحرية.

الشعب له خياره وهو على حق حينما يعبر عن ذاته، حينما يعلو على الأيديولوجيا ويتلمس قدره في شارعه بدمه وروحه وأمله.. إنها ملحمة الحرية هكذا عهدناها تأتي وتجرف كل شيء.

النظام السوري مريض على فراش الموت، متورط في نقل مرضه للشارع، وفشله واستبداده. سيكون المسؤول الأول عن هذا الدمار وعن كل هذا القتل، سقط من خانة القيادة ومن خانة الوطن، خسر كل شيء. هي دولة الفساد والإفساد كما يقول الكواكبي!

مستقبل سوريا في نهاية المطاف هو الديموقراطية الناتج الطبيعي لرغبة شعبها. ربما ستطول الأحداث وتمر البلاد في فترة معتمة ظلماء، إلا أنها في النهاية سترسو كدولة مدنية تعددية وتشاركية للجميع.

الديموقراطية قادمة لا محالة

شابة سورية دمشقية لم تستطع أن تكشف أسمها الحقيقي خوفاً على أهلها من القتل والاعتقال، واستعاضت عنه باسمها الثوري (كارولين حنا). هي ناشطة من لجان التنسيق المحلية، وتنقل للعالم كل يوم تفاصيل الثورة السورية، وتشدد على ديموقراطية سوريا ومدنيتها:

النظام السوري هو نظام قمعي أمني وفاسد قبل الثورة وبعدها. الفرق أن في اللحظة الراهنة دموية وإرهاباً على مرأى ومسمع كل العالم من قتل وجرح وتعذيب وتشريد ونهب.

المجتمع السوري مجتمع غني ثقافياً وتوّاق للحرية بشكل كبير بعد أن رزخ تحت الظلم لسنوات عديدة.

حين سألتها عن شعورها (وهي بعيدة عن دمشق) حين يخرج السوري من بيته للموت وللحرية معاً؟ تغير لونها وبدا الحزن يغمرها:

كل الفخر والاعتزاز بأبطال الحرية الذين كسروا حاجز الخوف، وخرجوا إلى الشوارع، والآن النظام السوري هو الذي يهابهم ويجابههم بدباباته وآليات قمعه الهمجية. أرفع رأسي عالياً بالشباب السوري ذكوراً وإناثاً الذين يحملون مسؤولية الوطن الحر على أكتافهم.

أنا أؤمن أن الشعب الذي لديه القدرة والشجاعة للوقوف في وجه نظام قمعي كالنظام السوري، لديه كل القدرة على بناء دولة مدنية تعددية ديموقراطية تُصان فيها حقوق وكرامة الإنسان وتُصان فيها حقوق الأقليات الإثنية والعرقية.

حلمنا هو إسقاط النظام السوري بكل مؤسساته الأمنية. أما في مرحلة ما بعد إسقاط النظام الحلم هو أن يستطيع الإنسان السوري أن يعيش في دولة مدنية ديموقراطية تعددية برلمانية تحترم حقوق الإنسان وحرياته، ويعيش جميع مواطنيها بمساواة تامة تحت سقف القانون. الإنسان السوري له الحق في أن يعبّر عن آماله وأحلامه بشكل حر، وأن يكون فاعلاً بكل النشاطات من دون خوف أو قلق وأن يعيش ازدهاراً في كل نواحي الحياة.

لكن لماذا انتفض السوريون؟

سيروان قجو ناشط شبابي وصحافي تمرّد على دولة الأسد والبعث مبكراً، يشخص من رؤيته روح الثورة السورية:

نجاح الثورات المتتالية في تونس ومصر، ومن ثم اندلاع الثورتين في ليبيا واليمن، لم تكن الدافع الوحيد الذي حفّز السوريين للانتفاضة ضد نظامهم القمعي. الثورة كانت ضرورة تاريخية لمرحلة التغير التي يشهدها العالم. زمن الديكتاتوريات قد ولىّ، وبات واضحاً أن الإرادة الشعبية تأخذ مكان تلك الأنظمة الشمولية التي لم تجلب سوى الحروب والدمار والفقر والتخلف لشعوبها.

الثورة السورية تختلف جداً عن مثيلاتها في المنطقة، على اعتبارها الثورة المستمرة التي لم يُستعمل فيها العنف، بل حافظت إلى حد بعيد على طابعها السلمي، رغم عدم التكافؤ بين الثوار وقوات الجيش والأمن وكذلك الشبيحة. ذلك أعطى الثورة السورية ميزة نادرة وهي أنها ثورة العصر الحديث.

وكوني مقيم في واشنطن، حيث الديموقراطية وحرية التعبير، أجد من البديهي أن يتمتع الشعب السوري بكافه مكوناته العرقية والدينية بالحرية التامة بعد عقود من الاستبداد والطغيان. تجارب شعوب العالم الحر، بما فيها الولايات المتحدة، أثبتت لنا بأن الديموقراطية هي الوسيلة الوحيدة التي تكفل حقوق الجميع على أساس دولة المواطنة. وعلى اعتبار أني أنتمي إلى القومية الكردية، أرى بأن إسقاط النظام سيجلب لأبناء بلدي الحرية التي لطالما كافحوا لأجلها.

هكذا ينتظر هؤلاء الشباب والشابات نهاية عقود طويلة من الحكم البعثي، ودوامة الظلم السوداء، يعيشون أمل اللحظة في الحرية والخلاص، ليعودوا لوطنهم الجديد، ويشاركوا مع شعب سوريا في تأسيس دولة مدنية تعددية وديموقراطية تعمل لسلام الإنسان وتطوره

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى