صفحات المستقبل

شباب سوريّون: هذه هي ثورتنا.. ولهذه الأسباب لن نتراجع عنها


نضال أيوب

حين هتفت شعوب البلدان العربيّة للحريّة، انطلقت الزغاريد من كلّ الحناجر في الدول المجاورة، تردد وراءها وتشد على أيديها وتثني على عزمها. لم يكن في بال أحد أنّ شعب سوريا الذي عاش تحت حكم قمعي لأربعين عاما مضت، هو أحق من غيره في الانتفاض لكرامته. لسوريا وضع مختلف، يقولون. ولقولهم هذا تبريرات عدّة: يفصل بين سوريا وبين العدو الإسرائيلي مجرد شريط شائك، ناهيك عن أن نظامها ممانع ومقاوم، وفي حال سقوطه ستكون بوابة عبور الإسرائيليين مفتوحة إلى جميع الأقطار العربيّة، هذا عدا عن التخوّف من السلفيين والعصابات المسلّحة التي ستأخذ سوريا إلى حرب طائفية.

كان الأجدى بالشعب السوري أن يؤجّل السعي لنيل كرامته وحقوقه. كان عليه أن يؤجل المطالبة بالحرّية. صارت الأخيرة مطلبا “كماليا” بالنسبة لهؤلاء الذين يمارسون حريتهم الكاملة. كان على السوريّ ربما، برأي البعض، أن يبقى خفيض الرأس ذليلا، همّه الوحيد تأمين “حاجاته البيولوجيّة”، وإلا فسيتحول إلى أداة لـ”المؤامرة التي حاكتها الدول الكبرى”، أو إلى عميل وخائن، أو في أفضل تقدير: أداة في خدمة إسرائيل.

ممانعة شعب ومساومة نظام

“الممانعة ليست ممانعة نظام”، يوضح الصحافي سامي الكيّال الذي ترك ألمانيا حال سماعه بأحداث درعا، وعاد إلى بلده، ليكون مشاركا في تحقيق حلم لطالما راوده. يضيف أن الشعب السوري ليس بحاجة إلى نظام دكتاتوري ليكون ممانعا. من يعرف تاريخ سوريا يدرِ جيدا أن المقاومة بدأت منذ أيام الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال. ناهيك عن فترة الأحلاف الأجنبيّة. هذا عدا عن زمن الوحدة مع مصر وبعدها. المواقف الوطنيّة التي عرف بها الشعب السوري والتضحيات التي قدّمها سابقا، وخصوصا في القضيّة الفلسطينيّة، لا تنبع من هذا النظام. هو ليس وكيل ممانعة. وأي نظام سيختاره الشعب السوري سيكون ممانعا أكثر من ادعاءات النظام الحالي. ويعطي سامي أمثلة تعزز وجهة نظره: من تورط في ضرب المقاومة الفلسطينيّة وتقسيمها إلى فصائل، ومن ضرب اليسار اللبناني، همه الأوحد أن يبقى في الحكم.

أحلام فنانة تشكيليّة لم تفكر يوماً في دخول السياسة، ولا في قانون أو دستور أو رئيس. لكنها تجد نفسها اليوم معنيّة ليس فقط بالتظاهر، بل بالتنظيم له. ترفض أحلام الأقوال التي تروّج لمؤامرة مزعومة وأيادٍ خارجيّة تقف خلف انتفاضة الشعب السوري. هي كغيرها من المواطنين، كان لديها اعتراض على الفساد. ومطالبهم لم تكن في البدء إسقاط النظام. لم يفكروا حينها بالثورة. وهذه الأخيرة لم تكن سوى ردة فعل على أحداث درعا التي تمثلت باعتقال الأطفال وتعذيبهم.

وتتابع أحلام سرد الأحداث من وجهة نظرها: النظام استخدم كل أسلحته ضد المتظاهرين، من القمع والاعتقال إلى قتل الناس ودخول الجيش إلى المدن، إلى وعود الإصلاح التي لم، ولن، تنفّذ. كل ذلك جعل المسألة تكبر. النظام نفسه، بأخطائه التي باتت واضحة، هو من قدّم للناس أسباب الثورة، ودفعهم إلى المطالبة بإسقاطه، بكل منظوماته.

ولأحلام رؤية خاصة حول صلة النظام بالمقاومة والممانعة. تقول: “صحيح أنه لا توجد معاهدة سلام مع إسرائيل، ولكن هناك اتفاقا ضمنيا لا يمثلنا كشعب. هم ساوموا على الجولان، والشعب السوري يدفع الضريبة الآن. الجيش يضرب بلادنا ومدننا وقرانا. الأولى به أن يوجّه رصاصته إلى الجولان وليس علينا”.

الأمن والأمان.. ووعود الإصلاح

لا تخفي أحلام سخريتها حين تسمع من يردد أن “سوريا بلد الأمان”. تقول إن هذه أكبر خديعة تمارس بحق الشعب. الأمان مسألة معدومة بالنسبة إليها. والناس، قبل الثورة، كانوا في خوف وترهيب دائم. أمّا الأمن فيسيطر على كل شيء، والناس تخاف من بعضها البعض. كان المواطن يخشى الخوض بأي نقاش يمكن أن يكون سببا في تقرير يؤدي بمستقبله.

بهذا المعنى، الثورة أتت كنتيجة طبيعيّة وحتميّة، يوضح الصحافي إياد شربجي الذي أوقفت السلطات صدور مجلته مرّات عديدة. فمن الغلاء المعيشي، الذي أتى نتيجة تحول السياسيين إلى رجال أعمال، وتحوّل التجار إلى موظفين لديهم، إلى القهر والظلم والرعب في تفاصيل الحياة اليوميّة التي عايشها الناس خلال السنوات السابقة. لم يعد يخفى على أحد أن من كان يرفع صوته معترضا على أي أمر، سياسيا كان أو اقتصاديا، كان يغيب في غياهب الزنازين ويشنّع ويشهر به إعلاميا، فضلا عن الاتهام الجاهز دوما بالخيانة. هنا، لا بد من موقف يبديه إياد حول ممانعة النظام ومقاومته التي بات يعرفها الجميع على حدّ قوله. ومن لم يسبق وتعرّف إليها، سيجد التعريف المناسب في قول أحد أبرز أقطاب النظام، في بدايات الثورة: “أمن سوريا من أمن إسرائيل”، في إشارة إلى تصريح سابق لرجل الأعمال رامي مخلوف.

علا هي واحدة من المعارضين الذين لا يسلمون من التهديدات والاتهامات التي تطالهم يوميا. ترى علا، الشابة التي تعمل في مجال الإعلام، أن لا وجود لملامح سلفية في وطنها. وتؤكد أن الأمن السوري أشهر من أن يعرف بقبضته الحديديّة. وخلال سنوات مضت لم يكن هناك أي “صنف” من هؤلاء، فكيف ظهروا بهذا الكم الهائل خلال شهرين؟ ثم تفترض، متخذة موقفا متعارضا مع قناعتها، أنها مخطئة، وأن المتظاهرين هم بأكثرهم من السلفيين والمسلحين، ما معناه أن السلطة غير قادرة على حمايتهم، بدليل استباحة هؤلاء لحياة السوريين، مما يعني أن هذا النظام فاشل، وعلى الشعب إسقاطه.

خلافا لموقف هؤلاء، اقتنعت سوار، الطالبة في قسم المسرح، بمفهوم المؤامرة على وطنها. رئيسها ذو شعبيّة كبيرة، ومحبوب من الأكثريّة، بغض النظر عن الأجهزة الفاسدة التي تحيط به، هكذا كانت تقول. وبعد سماعها بالمجازر التي ترتكب، أغمضت عينيها وأبت التصديق. ورغم يقينها من استبداد النظام الذي حرمها من أبيها المقعد والعجوز وهي صغيرة، ليرمي به في زنازينه من دون محاكمة، ومن دون حق في رؤيته أو معرفة أي شيء عنه، كان أمل سوار، ابنة الجولان، في وعود رئيسها كبيرا.

حين أصدر الرئيس العفو عن المعتقلين انتظرت سوار (اسم مستعار) بفرح طفولي أن ترى والدها بعد عشر سنوات من الاعتقال. تدمع عينا سوار بينما تحكي، ويختنق صوتها إثر الخيبة. “اكتشفت أنّ الإصلاحات وهميّة وليس لها أي أساس”. تضيف أنه ومنذ أربعة شهور والرئيس يعد، ولم يحقق إلاّ أشياء صغيرة غير جديرة بالذكر: الإفراج عن 200 معتقل من أصل الآلاف، والعفو جاء عن المحكومين بالجنايات لا عن معتقلي الرأي.

كذلك، سامي فقد الثقة بالإصلاحات. يصرّ أن لا مجال لإقناعهم بمزيد من الوعود المزيّفة. فقانون إلغاء نظام الطوارئ سقط إثره أكثر من 100 شهيد في الجمعة العظيمة، وحريّة الرأي وإنشاء الأحزاب تلتها آلاف الاعتقالات. يضيف سامي أن لا مجال للتصديق، كما لا مجال للحوار مع من تضرجت يداه بالدماء.

سلمية الثورة.. وطائفية السلطة

ينتفض إياد بمجرد أن يسمع عبارة “حرب الطائفية” في سوريا. يقول “مطمئنا” بعض “الجيران” المنحازين للنظام، إن سوريا لم تخلق منذ 40 سنة. ليس هناك خوف من اقتتال طائفي. هذه بدعة تؤلفها السلطة للمحافظة على امتيازات لا تستحقها.

ويستعين إياد بأحداث عايشها في الواقع ليؤكد وجهة نظره: كانت أجراس الكنائس تقرع حين تخرج جنازة من الجامع. تاريخ سوريا يشهد أن شعبها على تعدد طوائفه، تعايش مع بعضه البعض، من دون تسجيل حروب في ما بينهم. والسوريون لديهم تصورات جامعة، وليسوا مقسمين إلى فئات، تلقى كل واحدة منها دعم جهة خارجية، كما هي الحال في بعض الدول المجاورة، في إشارة منه إلى لبنان.

أحلام أيضا تؤكد أنها ورفاقها في التحركات لم تلمس الطائفيّة إلاّ على لسان السلطة وممارساتها. أوّل من تكلم بهذا النفس كانت بثينة شعبان، مستشارة الرئيس، حين وصفت ما يحدث بأنه حرب طائفيّة، وأن المتظاهرين سلفيون وعصابات مسلّحة وأصحاب إمارات.

سامي، الذي تظاهر مرارا في حماة، ينفي انتشار السلاح، كما يشيع النظام ومؤيدوه: “الشعب السوري أعزل، ويواجه الرصاصات بالحجارة وبصدور عاريّة. يتلقونها بشجاعتهم وإيمانهم لأنهم أبوا أن يكونوا عبيدا بعد الآن”. لا يعني عدم انتشار السلاح انتفاء وجوده، فهو إن صدف ووجد، فقد استعمل دفاعا عن النفس حين دوهمت البيوت واعتقل أهلها، وهذا أمر مشروع، بحسب ما يقول. أما الدليل، فيلقيه على عاتق السلطة: ليسمحوا للإعلام بالدخول ليصور ويثبت وجود السلاح!

أحلام أيضا تنفي رؤيتها لمسلحين في الشارع، فهي ومنذ بدء الثورة تشارك في جميع التظاهرات في العاصمة والريف، ولم تر ما يبثّه الإعلام الرسمي من أكاذيب، لتخويف الناس من حالات سلفيّة أو إسلامية أو إرهابيّة. هذه الحالات لا تخيف أحلام، ولا تشعر بخطر وجودها. الخطر الحقيقي تجده في السلطة التي تستغل هذه التسميات، وربما تعززها، وكذلك في حزب البعث الذي يرفع شعار: “وحدة، حريّة، اشتراكيّة”. تضيف: الوحدة غيبت مع تقسيم الشعب إلى فئات والتفريق بينها على أساس الأقليات، والحريّة همشوها وحرموا الناس منها، أما النظام الذي من المفترض أن يكون اشتراكيا فقد تحوّل إلى رأسمالي يخدم فئة قليلة على حساب أغلبية الشعب. من الاحتجاج، إلى المطالبة بالإصلاح، وصولا إلى الاقتناع بالهدف الأوحد: إسقاط النظام واستبداله بدولة ديموقراطيّة قائمة على التعدديّة والحريّة وتقبل الآخر، يمضون قدما. العودة إلى الوراء غير واردة بالنسبة إليهم. عيونهم الممتلئة بالدموع على شهدائهم، تخبر أن الحريّة آتية لا محالة. برأيهم، الثورة انتصرت، إلا أنها مع 40 سنة من القمع ستحتاج إلى بعض الوقت لتنجز أهدافها.

أثناء هذا الوقت، سيتحسّر هؤلاء أسفا حيال ما سموه تآمر الدولة اللبنانيّة وصمتها المطبق، عدا عن “الغدر” الذي تمثّل بتسليم جنود فروا إلى لبنان هربا. وبعضهم بات يحمل ما هو أقسى من مجرد عتب على “حزب الله” وموقفه المعادي للشعب السوري، من وجهة نظرهم. يغصون بأسئلتهم: إياد يستغرب: “كيف أمكنهم إرضاء أشخاص وخسارة وطن؟”. أحلام تستنكر: “هل هي جريمة أن ننادي، كغيرنا، بالحريّة والديموقراطية وسيادة القانون؟ هل لهذا السبب نعتقل ونخوّن ونقتل؟”. وعلا تتحسر: “لماذا يريد البعض أن يمنع عن السوريين رفع رأسهم بكرامة، في حين ينعم هو بالحرية في بلاده..؟”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى