صفحات الناس

شعب “جحش”؟!/ يوركي عبدو ألماظ()

[1-

أضعت، محوت، لا أدري كيف، ولكنها ليست المرة الأول التي يحصل معي هذا، فلطالما أضعت، أو محوت، أو حذفت، لا أدري كيف، من كومبيوتري المحمول نصوصاً وملفات، كنت قد أمضيت أياماً وربما شهوراً وربما سنوات في كتابتها وإعدادها، ما يزيد من أسباب تحسري على أيام الكتابة على الورق بأقلام الرصاص والحبر، ملفاً كنت قد أسميته (جدران)، وحفظته كملف مخبأ في إحدى زوايا الجهاز، ما عدت أذكر أين، وذلك لتضمنه صوراً كثيرة، لا أظنه أمراً محمود العواقب، أن حدث ووقعت في الأيدي غير المناسبة، عملت على التقاطها وجمعها على مدار سنتين كاملتين، للكتابات والرسوم على جدران مدينتي. لذا كان علي أن أعيد تصوير ما يتاح لي منها مجدداً، العمل الذي تحف به مخاطر متنوعة، لأنه بقدر ماهي متاحة إلى هذا الحد غير المسبوق، إمكانية التصوير في سوريا، فكل هاتف محمول الآن عبارة عن كاميرا جاهزة بين أيدي عامة الناس، بقدر ماهو مريب، وغير مقبول لدى الأغلبية منهم، وربما يصل لدرجة الممنوع والمحظر لدى السلطات الرسمية، أن تقف وترفع هاتفك إلى مستوى عينيك، وتلتقط صورة لأي شيء. حتى إنه يوماً، من يصدق أنه مضى على هذا ما يقارب السنتان، أنا وصديق لي نازح من حمص، كنا نصور طيوراً حطت على الأشجار المصطفة على رصيف المتحف الوطني، فإذ بعناصر من الشرطة العسكرية يطبقون علينا، ويطلبون منا محي الصور التي التقطناها!؟ كما أنني أخبرت منذ زمن لا بأس به، بأن هناك عناصر أمن يرتدون ثياباً عادية ويجلسون على مقاعد المقاهي المنتشرة في ساحة سعد الله الجابري، وسط المدينة، يراقبون الناس في غدوهم ورواحهم. وما أن يروا أحداً ما يلتقط صورة لشيء ما، فما بالك إذا طاب لهذا السائح الأبله أن يلتقط صورة لتمثال الرئيس حافظ الأسد، الذي ينتصب في مركز دائرتها، رمزاً لتحكم النظام واستمرار سيطرته على المدينة، حتى يهبون من كراسيهم كالملسوعين، ويقبضون عليه متلبساً بهذه الجريمة النكراء غير المنصوص عليها في أي قانون على الأرض، ومن ثم يجرونه من رقبته للتحقيق معه في إحدى قاعات مدرسة الشهيد عدنان المالكي، الثانوية الرسمية الأولى في حلب، التي خرّجت العديد من الشخصيات الوطنية المعروفة، منها صاحب التمثال بالذات، وقد باتت اليوم ثكنة عسكرية لقوات النظام المرابضة في قلب المدينة، ومعتقلاً موقتاً لأهلها. أول صورة استعدتها كانت لخزان كهربائي يقع خلف مبنى منظمة شبيبة الثورة، نعم نعم الثورة، ولكن تلك الثورة التي كان يتغنى بها النظام ويسمي باسمها الصحف والشوارع وحتى المدن، وليست هذه الثورة بالتأكيد، غير بعيد عن حارتي (السبيل)، غطى الدهان الأخضر ما كان عليه من كتابات، غير واضحة، تتطاول على المحرمات السورية لا ريب، ولكن عناصر الأمن الذين طلسوا هذه الكتابات لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من كتابة، ما يشعرون به، ويؤمنون به حقاً: “شعب جحش”.

[ 2-

كنت أظن أن استخدام السوريين لفعل: (جحَّش) بتشديد الحاء، ما هو إلا تعبير عامي متداول بين أهل بلاد الشام عموماً للدلالة على عناد شخص ما، وثباته على موقفه. وبتحديد أشد، للتعبير عن ثباته على الموقف الخطأ، وتماديه فيه، من دون حساب للعواقب. وبناء على هذا الظن، دبجت تحليلاً لغوياً لتعدد أسماء الحمار، مركوب الأنبياء عليهم السلام، وكيف أنها تتبدل حسب وظائفه وأشكاله وأطواره وأنواعه. إلاّ أنني حذفته برمته حين وجدت، أن المعجم الوسيط، الذي بين يدي الآن، وكذلك المعاجم الرئيسة كلسان العرب والصحاح والمحيط، جميعها تذهب، ولو بمقاربات متنوعة على أن: جاحش تعني دافع وقاتل. لكني رغم هذا، كنت أجد في استخدام هذه الكلمة بحد ذاتها، التي ربما سيعترض الكثيرون على استخدامها كعنوان، ما ينقص، ما يفتقد للدقة، في توصيف موقف الشعب السوري وصموده في مواجهة الحل الأمني- العسكري الذي انتهجه النظام السوري وأوغل فيه، تطبيقاً لمقولة صرح بها الرئيس في أول خطبه، وكررها في العديد من ظهوراته اللاحقة، وهي أنه ليس أمامنا من خيار سوى الانتصار، بأي وسيلة ومهما كان الثمن. والتي كان، من طبيعة الأمور، أن تواجه من قبل الطرف الثاني بالمنطق نفسه، فالعرب يقولون: (الحديد بالحديد يفلح)، وهو أنهم أيضاً ليس أمامهم من خيار سوى الانتصار، بأية وسيلة ومهما كان الثمن. الأمر الذي أوصل سوريا إلى ما هي عليه اليوم من وضع مأسوي لا سابق له، أبعد ما يكون عن أي تصور في خيال الطرفين اللذين تواجها تحت هذا الشعار نفسه. وفي زيارة لمكتبي من قبل ثلاثة محامين شباب من حمص، منذ سنة ونصف السنة على وجه التقريب، كان لا بد أن ينتقل حديثنا من أخبار القضاة والمحاكم، أيام ما كان هناك قضاة ومحاكم في حمص، إلى أوضاع أهل حمص عموماً هذه الأيام، منذ اعتصامهم في ساحة (الساعة) في 18 آذار 2011، إلى ما آلت إليه أمورهم في أحياء باب عمر والخالدية والحميدية وحي القصور وحي الوعر. فإذ بثلاثتهم بدل أن ترتسم على ملامحهم علامات الكمد والكدر، وتنقلب كلماتهم إلى حزن وتفجع.. يضحكون مرددين، والله يا أخي أثبت الشعب السوري أنه شعب (جئر).. شعب (تنح). الكلمتان اللتان تعبران، برأيي بشكل أكثر لياقة، عن عناد واصرار الشعب السوري على نيل مطالبه بالحرية والكرامة لجميع السوريين من دون استثناء، ومن دون تفريق، واللتان على انتشارهما في اللغة المحكية، لا وجود ولا أصل لهما في القواميس والمعاجم.

[ 3-

“شعب جحش” قلت، هو ما يشعر ويؤمن به عناصر الأمن، المكلفون، من بين ما يكلفون به، بمهمة طلس الكتابات المنتشرة بكثرة على أسوار مدارس سوريا ومداخل بيوتها وجدران حاراتها، حتى باتت المدن السورية معارض حية للوحات التجريدية، كتبها أحدهم تعبيراً مباشراً عن سخطه وانزعاجه لاضطراره يومياً للف والدوران في جميع أحياء المدينة، ولطلس، المرة تلو الأخرى، هذه الكتابات المتحدية: (حرية)، و(يسقط النظام) (الشعب السوري ما بينذل) (الله سوريا وحرية وبس)، ما عدا الأحياء التي يشكل الموالون أغلبيتها، والتي إن رأيت شيئاً مخطوطاً على جدرانها، ذلك أنه متاح لهم فيها استخدام اللافتات بأنواعها، المدعومة بالأعلام العملاقة والصور الملونة، كتلك التي كتب عليها بخطوط كبيرة: (عندما ارتفعوا اصدمت رؤوسهم بنعل حذائك)، وتلك التي تظهر الرئيس الأسد يشير بأصبعه مهدداً: (إياكم وسوريا)، أو (نظرتك تخيفهم)، فستجد أنه ما زال هناك أشعار وكلمات أغاني كتبها مراهقون على جدران مدارس حبيباتهن، أو الشعارات المعروفة ذاتها التي تعبر عن التأييد للنظام ورئيسه: (الأسد للأبد) و(الأسد أو لا أحد)، وقد أضيف عليها خلال الأحداث، كتابات استجدت حديثاً، يمكن اعتبارها كردود مباشرة للشعارات المعارضة: (شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد) و(الله وبشار والجيش المغوار) أو (الأسد أو نحرق البلد) التي تقوم السلطات أحياناً بمحيها، ولكنها ما زالت ماثلة في بعض المواقع غير العامة. أما حين تتطرق كتابات الموالين إلى شخصية أخرى غير شخص الرئيس، ونادراً ما تفعل، فنجد أنها تستخدم المسبات والتعابير الهابطة، مثلاً: (العرعور اللوطي)! برغبة ظاهرة لتصوير ما يقوم به المعارضون من الشعب السوري ما هو إلا حركة طائفية بقيادة شيخ العرعور الحموي، الذي أشاعوا عنه أنه عندما كان ضابطاً صغير المرتبة، طرد من الجيش العربي السوري، إثر القبض عليه بجريمة ممارسة اللواطة مع أحد الجنود، ما أدى إلى إثارة نقمته على هذا النظام، وسفره إلى السعودية حيث اللوطيون أمثاله، يعدون المؤامرات على سوريا. سبق وأعدت إن كتابة “شعب جحش” هنا، ربما لا أكثر من تعبير عن انزعاج عناصر الأمن لاضطرارهم حمل أسطل الدهان الكبير من مكان إلى مكان وطلسهم لعشرات الكتابات كل يوم، وربما تلوث أيديهم وثيابهم باللون الأخضر هذه المرة، إلا أنها في التاريخ الحديث لسوريا مقولة سياسية، بل نظرية سياسية كاملة، يرددها، بتلوينات شتى، أهل النظام ومناصروه بكافة أطيافهم. وعلى اختلاف درجات تعلمهم وثقافتهم، ليس فقط منذ بداية الأحداث الجارية في سوريا، خلال ما يزيد عن سنتين ونصف وحسب، بل قبلها بكثير. نظرية مؤسسة لحكم يعتبر أن الشعب ما زال في طور التخلف والبدائية، وهو، رغم حكم حزب البعث العربي الاشتراكي لمدة خمسين سنة، وترداد الشعب السوري لشعاراته القومية والوطنية صباحاً ومساء، ما زال يحتاج لعشرات السنين من التربية والتعلم، قبل أن يمنّ عليه بالحرية أو يحكم بطريقة ديموقراطية. نظرية مؤسسة لحكم شمولي لا يقر بوجود أحزاب حقيقية فاعلة ويلغي الحياة السياسية، نظرية مؤسسة لحكم لا يحترم شعبه ولا يستمد شرعيته منه بل من القوة التي خولته لاستلام السلطة والحفاظ عليها. وتجد هذه النظرية تعبيراتها العامة، في ترداد الموالين بأغلبيتهم عبارت مثل: (شعب متخلف يا أخي)، (شعب بحياته ما بيصير بشر)، (شعب بدو تكسير راس) و(شعب ما بينحكم إلا بالبوط).

[ 4-

“شعب جحش” لأنه صبر واستمر وصمد خمسين سنة على المهانات والمظالم والفساد والأكاذيب. “شعب جحش” لأنه أعطى لحكامه الفرصة تلو الفرصة أن يصلحوا ويعدلوا، ولكن ما من فائدة، فقط مزيد من التهميش، ومزيد من الاحتقار. “شعب جحش” لأنه رغم كل هذا، استطاع أن يكون مميزاً ومبدعاً في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ما عدا السياسية التي كانت محرمة عليه. لا.. سوريا التي بدأ حرقها وهدمها، عمرانياً وإنسانياً، منذ 14 آذار 2011 ليست من مكتسبات ثورة الثامن من آذار، ولا من منجزات الحركة التصحيحية، بل من إبداع وخلق الشعب السوري بمجمله، الذي كان يوصف بأنه أحد أرقى وأجمل وأذكى الشعوب العربية والعالمية. وهنا، اسمحوا لي، باظهار شيء من نعرتي السورية، التي لم أشعر بها إلا منذ أن دارت بشعبي الدوائر. “شعب جحش” لأنه حلم، مثله مثل أخوته الشعب التونسي والمصري والليبي واليمني، أن من حقه أن يطالب بالحرية والعدالة والمساواة. “شعب جحش” لأنه اعتقد أن نظامه كبقية الأنظمة، منه وله، أو ليس حكامه من أبنائه، ولدوا فيه، وترعرعوا في ربوعه، وكبروا وشبّوا في مدارسه وجامعته. ولابد في النهاية أن يستجيبوا لمطالبه وآمانيه مهما تمنّعوا وقاوموا. “شعب جحش” لأنه صدق أن الشعوب تبقى، والأنظمة، كل أنواع الأنظمة، تأتي، تحكم زمناً يقصر أو يطول، لكنها في النهاية تذهب ويأتي سواها. “شعب جحش.. حقاً” لأنه آمن أن العالم تسوده مبادئ الخير والعدالة والجمال وشرعة حقوق الإنسان، وأنه لاريب سيقف بجانبه ليساعده على نيل نصيبه منها. وأنه إذا كان صحيحاً أيضاً ما يردد أمامه أن للمصالح دورها في ماتتخذه الدول من قرارات، فإن من مصلحة العالم أن تعود سوريا له، بلداً حراً ومفتوحاً وآمناً.

()كاتب سوري ـ رومانيا

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى