صفحات الرأي

في خطاب الخوف ورهان التغيير


كرم الحلو *

يعرب مراقبو الانتفاضات العربية الراهنة بمساراتها المفاجئة ومآلاتها المريبة عن اشكال شتى من الخوف. الخوف من “مجهول” يخيّب الآمال في “الربيع العربي” ويصدم التصورات المفرطة في التفاؤل، بانكشافه عن اصوليات ظلامية أشد استبداداً وتسلطاً من استبداد الأنظمة وتسلّطها. الخوف من مصادرة الانتفاضات لصالح خيارات سياسية غير تلك التي دفع الشباب لأجلها جهاداً وتضحية ودماء، الخوف من انقضاض رموز الأنظمة البائدة على مكتسبات الانتفاضات طارحة نفسها بدائل مخادعة تعيد انتاج تلك الأنظمة وسياساتها. الخوف من تغييب اية رؤية اقتصادية او اجتماعية او قومية للثورة تلبي الحد الأدنى من طموحات الحاضر والمستقبل.

وإذا كان في مآلات الانتفاضات والتباس توجهاتها وأهدافها ما يبرر خطاب الخوف، الا ان آفة هذا الخطاب تبقى في الرؤية الطوباوية الى التاريخ، سواء بوصفه احادي التوجه قابلاً للانتهاء على ما تصور فوكوياما، او باعتباره قطائع متناقضة مقفلة، كل مرحلة منه اشبه بتجلّ مفاجئ يجبّ ما قبله تماماً ليُسقط محله عالماً جديداً بالكامل.

لا يرى هذا الخطاب الى التاريخ حراكاً فاعلاً وإبداعياً، لا يفهمه صراعاً وتحولاً وتبدلاً وكذلك ارتداداً وانتكاساً وانقلاباً. يعتبر انتصارات الإسلاميين كأنما هي نهاية التاريخ او تكاد، وأن الأنظمة الآفلة قادرة بفلولها المتجذرة في المجتمع والسياسة على الإطباق على الثورة من جديد، الأمر الذي يربكه ويصيبه بالذعر والهلع.

لكن فات هذا الخطاب ان التغيير لا يحل دفعة واحدة ومن دون مخاضات عسيرة وطويلة ومكلفة. فحداثة اوروبا الباهرة بكل قيمها ومؤسساتها وحرياتها تشكّلت عبر مخاض تاريخي صعب، متدرج ومتصاعد كلف اجيالاً من الضحايا وأُهرقت على مذبحه شلالات من الدماء، ولم يتوصل الأوروبيون الى الاعتراف بالآخر والإقرار بحقوق الإنسان الطبيعية وتأسيس دولة العقد الاجتماعي الا بالعذاب والمعاناة ومن خلال مكابدة استغرقت قروناً من الصراعات والحروب الدموية، وما نعمت وتنعم به اوروبا ما هو الا حصيلة جهاد تاريخي دؤوب وطويل لم يأت ناجزاً ولم يحل مجاناً. فلماذا لا نرى الى تاريخنا العربي من هذا المنظور الجدلي باعتبار تحولاته الراهنة مخاض ولادة العالم العربي المأمول؟ ألا يمكن ان تكون التضحيات والآلام التي تكابدها مجتمعاتنا العربية في مواجهة العتو التسلطي السبيل الطبيعي المتاح لهذه الولادة؟ ان الدلالة الأساسية للانتفاضات التي لا يعبأ بها خطاب الخوف تبقى في اعلانها حراكاً جديداً وثورياً في العالم العربي أخرجه من سباته الطويل، حراكاً قد يتقدم او يرتد وقد ينكشف عن مفاجآت غير متوقعة لم تكن في الحسبان، الا انه لن يتوقف او يستقر قبل ان تبدأ مرحلة جديدة من تاريخنا محفوفة بالمخاطر ولكنها ايضاً حبلى بالوعود والآمال.

هذا الحراك لن يستتب، كما يشيع خطاب الخوف، بصعود الإسلاميين الى السلطة، فهؤلاء لا يملكون حلولاً سحرية للواقع العربي المأزوم، لن يتمكنوا من الإجابة عن الأسئلة الإشكالية التي وقفت وراء سقوط الأنظمة البائدة والتي اربكت حركة النهوض العربي منذ القرن التاسع عشر الى اليوم، ولن يكونوا في افضل الافتراضات اكثر حظاً من الليبراليين والاشتراكيين والقوميين في مقاربة تلك الأسئلة.

لن يستطيع هؤلاء في رأينا ايجاد حلول ناجعة سواء للبطالة والفقر المتزايدين أو للتخلف التنموي والعلمي المتعاظم او للأخطار القومية المحيقة بالعرب او للقبليات المتيقظة والإندماج الوطني العاثر، ما يؤكد استمرار المخاض وتجليه في اشكال جديدة من الصراعات والتحولات لن تهدأ ولن تتراجع قبل ان يكون عالمنا العربي في طريقه الى مستقبل جديد غير ذلك الذي حاولت الأيديولوجيا الدولتية التسلطية وتحاول الإسلاموية الشعبوية الآن القبض عليه من جديد.

* كاتب لبناني.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى