صفحات الثقافةمازن أكثم سليمان

شعر الشَّتات السُّوريّ بينَ انتمائيْن/ د.مازن أكثم سليمان

 

تتأسَّسُ شرعيّةُ سُؤال الشعر السوري في الشتات من حيث المبدأ على ثنائية قياسية تقليدية هي: (القرب/البعد)، غير أنَّ هذا الفَهْم الرياضيّ بخلفيتِهِ الفكريّة الميتافيزيقيّة لا يصمدُ أمامَ طبيعة الوجود الشعري للإنسان في العالم في جذوره المَفهوميّة (المَجازيّة) النيتشويّة والهيدغريّة، وأمامَ مفهوم الاختلاف الذي ينبسِطُ تحديداً في الشعر بوصفه ناهِضاً على خُصوصيّة الحدَث السوري من جانبٍ أوّل، وخُصوصيّة كُلّ شاعرٍ من جانبٍ ثانٍ.

من نافل القول أنْ يحملَ كلُّ شاعرٍ سوريٍّ موقفاً ما ممّا يجري في وطنه، سواء أكان مُقيماً في الدّاخِل السوري، أم كان مُقيماً في الخارج. وهذا يعودُ بطبيعة الحال إلى بديهيّة الانتماء والهُوِيّة الموروثة طبيعياً أوَّلاً، فضلاً عن البُعد الإنسانيّ الذي يُفترَضُ أنْ يدفعَ الشعراء إلى تقديم رؤاهُم الخاصّة في ما يتعلَّقُ بالأحداث الكونية الكُبرى ثانياً، فما بالُنا إذا كانت هذه الأحداث تخصُّهُم على نحوٍ شخصيّ ووطنيّ.

لعلَّ نسبة غالبة من شعراء الشتات السوريِّين قد غادروا البلاد بعد فترة قصيرة أو متوسِّطة من بدء الثورة، ولكُلٍّ منهم أسبابُهُ ودوافِعُهُ المُرتبِطة بجغرافيّة الحدَث وتداعياتِهِ وانعكاساتِهِ المُباشَرة أو غير المُباشَرة. ولهذا يُمكن القول إنَّ معظم هؤلاء الشعراء قد عايَشوا الانفجار السوري بما انطوى عليه من أحلام عارمة في الحُرِّيّة والعدالة والخلاص، ثّمَّ عايَشوا مآلات هذا الانفجار التراجيديّة العنفية الهائلة، على أنْ  نُلاحِظَ أنَّ جميعَ الشعراء السوريِّين في الخارج _حتَّى ممَّن كانوا قد غادروا البلاد من قبل بدء الثورة_ عرَفوا الاستعصاء النفسي والاجتماعي التاريخي لعُقود الاستبداد المَديدة، وتشرَّبوا بعُمق مَخاوِفَ القمع وهَواجِسَ الرعب والعَماء المُنظَّم لآلة تركيع الدولة الأمنيّة للأفراد والمجتمع التي كانت قائمة، ثُمَّ تلمَّسوا بعدَ ذلكَ مرحلة تحطيم التابوهات التي مثَّلَها انبثاقُ الحدَث الثوري، وتلقَّفوا لأوَّل مرّة نتائِجَ خلخلة البِنية السُّلطويّة المُستغلِقة التي كانت تُحكِمُ الخِناقَ على حُرِّيّة الرأي، وتكبَحُ فضاءات التَّعبير والنَّقد والكينونة الأصيلة للذوات الفرديّة والجَماعات المُختلِفة في البلاد.

وعلى هذا النَّحوِ، تتأكَّدُ موضوعة مُجاوَزة سُؤال (القرب/البُعد) القياسيّ الرياضيّ في سَبر مَلامِح شعراء الشتات، ليسَ فقط بحُكم مسألة المُعايَشة والانتماء؛ إنَّما أيضاً لأنَّ سُؤال الهُوِيّة قد حضَرَ بقوّة لدى هؤلاء الشعراء مُشبَعاً بالقلَق والألم والخوف على المُستقبَل الوطني من ناحية أُولى، ومُتشرِّباً من ناحية ثانية _وبطبيعة الحال_ دماءَ الدَّمار والخراب والمُعاناة التي مزَّقَتْ عُموم النَّسيج الوطني السوري، وأخذتْ إلى جانب البُعد السياسيّ بُعداً إنسانيّاً شديدَ الإيلام والخُذلان والتَّشظّي، فضلاً عن امتلاك شعراء الشتات سمةً إضافيّة نوعيّة في مُعالَجتِهِم لموضوعة الهُوِيّة، ترتبِطُ عميقاً بأسئلة الذّات الفرديّة والذّات الشعريّة بينَ الانتماء الأصليّ الموروث بيولوجيّاً للوطن السوري، والانتماء الجديد لمُجتمعات الشتات التي توزَّعوا فيها، وهيَ المسألة التي يُفترَضُ أنْ تُغنيَ قصائدَهُم إنْ من زاوية الجدَل الهُوِيّاتيّ والصِّراع الوجوديّ بين ائتلاف أو اختلاف الانتمائيْن؛ أي من ناحية تراكُبيّة الموقف الإنساني بين الانفصال والاتّصال من جانبٍ أوّل، وبين الاغتراب والاندماج من جانبٍ ثانٍ، أو من زاوية فنِّيّة وجَماليّة وتجريبيّة تتعلَّقُ بطبيعة التَّلاقُح النَّصِّيّ بينَ معجمِ مفردات القضية السورية وصورها وأحداثِها، ومعجمِ مفردات الحياة المُغايِرة التي وجَدوا أنفسَهُم في رحابِها وضمنَ صورِها المُتعدِّدة بتعدُّد كيفيات الوجود في مُنحنياتِها وأحداثِها، وهو الأمر الذي يُتوقَّع أنْ يمنَحَ عَوالِمَ قصائدهِم فضاءات واسِعة وغنيّة وقابِلة لأنْ تُحقِّقَ المقولة النَّقديّة القائِلة إنَّ النُّصوص هيَ فائِضٌ وجوديٌّ (زيادة في الوجود) لا انعكاس حرفيّ أو مُحاكاة تقليديّة للكوارث القاسية كما تنبسِطُ في سياقِنا هذا في الواقع المَعيش سوريّاً.

فإذا كانَ وجود شعراء الدّاخِل حتّى هذه اللحظة في قلب المَعمعة الهائِلة يعطي قصائدَهُم مصداقيّة تتَّصِل بحساسيّات الخطر والمُعايَشة والصِّراع المُباشَر مع أبسَط مُتطلَّبات البقاء على قيد الحياة في المَناطِق المُشتعِلة، أو على الأقلّ تتَّصِلُ يضرورات الصُّمود المَعيشي والاستمرار الحياتي في أقرب دلالاتِهِ في جميع المَناطِق السورية، فإنَّ شعراء الشتات يمتلكونَ سلاحاً آخَرَ لا يقلُّ أهمِّيَّةً عن أسلحة أو أوراق قوّة شعراء الدّاخِل، وهوَ سلاحٌ يُضفِي على قصائدِهِم مصداقيّةً نوعيّة من ناحية أُولى، ويُحمِّلُهُم مسؤوليّة أخلاقيّة وإنسانيّة مُضاعَفة من ناحية ثانية، وأقصدُ بذلكَ واجبَهُم ودورَهُم المنوط بهم وبشعرهم تحديداً في إيصال الصوت السوري ومُعاناتِهِ ومَظالِمِهِ إلى العالَم، وهي قضيّة تُعيدُ تعيين الوظيفة الشعريّة لديهِم بما يتجاوَزُ حُدودَ الانهِمام بالمُستوى الفنِّي _على أهمِّيَّتِهِ بوصفِهِ شرطاً مُلزِماً أوَّلاً وأخيراً_ إلى حُدودِ الرِّسالة الإبداعيّة التي تُنتِجُ تلقائيّاً تعريفاً عريضاً لمَفهوم الالتزام الفنِّيّ لدى شعراء يَعيشونَ في هذه الحقبة الخصبة والمريرة في آنٍ معاً. ولابُدَّ في هذا المضمار أنْ نلاحِظَ حجمَ الاهتمام الخارجي بالمُبدعين السوريِّين، وكثافة النَّشاطات التي يُقيمونَها في بُلدان الشتات، وكثرة الجوائِز التي ينالونَها، وهيَ الأمور التي تؤكِّدَ أهمِّيّة الدور المأمول منهم من ناحية أُولى، وقدرتهِم من ناحية ثانية على فعل الكثير لصالح خدمة القضيّة السورية.

ويبدو أنَّ هذا الحديث يقودُنا بالضَّرورة إلى الإشارة إلى قضيّة غاية في الأهمِّيّة، وتخصُّ على نحوٍ مُشترَك شعراء الدّاخِل والشتات، وتتعلَّقُ عميقاً بطبيعة الكتابة الشعريّة التي ينبغي عليها أنْ تتوخّى الحذر أمامَ هول الحدث الذي يُمكِنُ أنْ يستهلِكَ الروح الشعريّة ، وأنْ يُصادِرَ جَمالياتِها، إنْ لم يتمكَّن الشعراءُ من تخليق مَسافاتٍ زمنيّة وفضاءات مَجازيّة ومُعادلات إبداعيّة تقي المُستويات الفنِّيّة والجَماليّة من خطر السُّقوط في المُباشَرة الانفعاليّة أو الخطابيّة المُطابِقة أو التَّوثيق القاصِر الذي يُفترَضُ أنْ تنهَضَ بهِ أجناسٌ أُخرى أو حقول مَعرفيّة غير الشعر، على أنْ نعِيَ أنَّ المَسافةَ الزَّمنيّةَ لا تعني فقط مرور الوقت لامتصاص الحدَث نفسياً ووجودياً، وإعادة إنتاجِهِ فنِّيّاً وإبداعيّاً؛ إنَّما تعني أيضاً قدرة الشعراء المُبدعين على ابتكار آليّات وأدوات وأنماطٍ من الدِّربة والتَّجريب وهُمْ حتّى في خِضَمّ الصراع وضوضائِهِ وجُنونِهِ القاسي العنيف، كي يتمكَّنوا من توليد مَسافات زمنيّة تُمكِّنُهُم من خيانة دائرة الحدَث المُباشَرة، ومُغادَرَتِها مَجازياً لرؤية تفاصيل هذا الحدَث من خارج تلكَ الدّائِرة المُحكَمة الإغلاق، وهيَ المسائِل التي تسمَحُ بالوفاء لمَفهوم الالتزام الفنِّيّ إنْ على المُستوى الفكريّ المُرتبِط بالموقف الوطني والإنساني الكوني، أو على المُستوى الإبداعيّ الذي ينبغي أنْ يُضيفَ شيئاً للعوالِم الوقائعيّة بفتح أساليب وجود جديدة في العَوالِم الشعريّة.

إنَّ للالتزام الفنِّي بُعداً آخَر لابُدَّ من تلمُّسِهِ بحِنكَةٍ لدى الشعراء السوريِّين، وبوجهٍ خاصّ لدى شعراء الشتات منهم الذينَ يُنتظَرُ من قصائدِهِم أنْ تحملَ عبء إيصال الرسائل الحارّة المُتَّصِلة بالحدَث السوري للعالم _كما ذكرْتُ من قَبْل_، وهذا البُعد مُرتبِط بالخيط الإبداعي الدَّقيق الذي ينبغي أنْ يفصِلَ بين من يكتفون بنقل الصورة شِعرياً بوصفِها صورةً تجريديّة خاصّة بحربٍ مذمومةٍ مكروهةٍ بما تنطوي عليه من دمٍ وظُلمٍ وآلامٍ إنسانيّة كُبرى كما في جميع العُصور، ومن دون تحديد المَسؤول الأخلاقي وإدانتِهِ فنِّيّاً، ومن يتمكَّنونَ بذكاءٍ إبداعيٍّ من تمرير الموقف السياسي الأخلاقي العميق ضدَّ المصدر الأصليّ للخراب والدَّمار مُتحاشِينَ أوَّلاً تزييف المُستوى الوقائعيّ عبر الإشارة إلى النتائج وتجاهُل الأسباب، وقابضِينَ ثانياً على قدرة تخليق الطاقة الشعرية الفنِّيّة الجَماليّة في الوقت نفسِهِ الذي يتمسَّكونَ فيه بأصالة الموقف الإنساني الفطري المُناهِض  للحرب والقتل بما هوَ موقف وجودي كوني كُلِّيّ الأبعاد، ومُدافِع بطبيعتِهِ عن الروح الكيانيّة المُتحيِّزة دائماً للعدالة والخير والحُرِّيّة.

شاعر وناقد سوري

دمشق في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى